الحور العين / 1


حسين علوان حسين
2020 / 3 / 27 - 17:48     

بعد أن أوصل الذبائح الأربع بعربة الجر الخاصّة به إلى دكّان قصابة أبيه ، و علّق كل واحدة منها على إفريز مصفوفة خطّافات الحديد في المحل ، و حَمَل الرؤوس و الكراعين و الكبود و الكروش و وضعها في المجمّدة ، نقل "داشر" الجلود الاربعة إلى مخزن الجلود الكائن خلف المحل . ثم غسل العربة وجهاً و ظهراً بخرطوم المياه جيداً و ربطها بالسلسلة إلى عمود الكهرباء الكائن إزاء الدكان ، و قفل عليها . عمل كل هذا و أبيه الهرم جالس على الكرسي يدخّن متفكّراً بوجه متغضِّن متعب كئيب .
- لقد أنهيت شغل اليوم يا أبي . أربع ذبائح : ثلاثة كباش و شاة واحدة ، مثلما قلت لي .
- كم رأساً تبقّى لدينا في الحضيرة ؟
- ثلاثة عشر : عشر كباش و ثلاث شياه ؛ تكفي لأسبوع .
- طيب . خذ علبة الباݘة المنظَّفة هذه للبيت و أعطها لـ "شزنة" فقد اشتهتها اليوم . هذه خمسة آلاف دينار ، أشتر لي من الصيدلية علبة من الحبوب الزرقاء سلّمها مع الباݘة لشزنة ، و الباقي لك .
- أبي ، لم يمض يومان على شرائي لك العلبة السابقة ، هل تلتهم هذه الحبوب لهماً ؟
- و ما ذا أفعل إذا كانت صناعتها ترهات و لا تشتغل مثلما يجب ؟ كل الأدوية المستوردة عندنا باتت فاشلة منذ الاحتلال الأمريكي المشؤوم .
- كما تريد ، أبي ؛ و لكن سعر العلبة هو ثلاثة آلاف و نصف ، و يوميَّتي هي ثلاثة آلاف ، فأنا أتغدى في السوق بعد أن حرمتني شزنة من الغداء بالبيت ، مثلما تعلم .
- أعوذ بالله من شر الشيطان الرجيم ! أنت السبب ؛ إنك لا تطيقها كما لو كانت ضرتك ، و أنا الذي أدفع ثمن ذلك . هل يعقل أنك لا تستطيع التعامل بالمعروف مع زوجة أبيك و أنت قرّة عيني و أبني الوحيد المكمَّل و قد بلغت التاسعة عشر من العمر ؟ ألا تعلم أن النساء عقولهن صغيرة و تستطيع بالكلام الحلو أخذهن للشط و إرجاعهن عطاشا ؟ يا ولدي العزيز : كبّر مخّك شوي ، لخاطري ، و لا تجعلني أزعل عليك تالي عمري . هاك هذه ثلاثة آلاف دينار إضافية ، و لا تقل لشزنة أنني أعطيتك خمسمائة دينار دفعة على الحساب عن عملك ليوم بكرة .
- لله كم تخاف من شزنة هذه ، يا أبي ! أمّأ المرحومة أمي فقد كنت ترميها بالإبريق أو تقرّعها بالحزام لأدنى أمر لا يرضيك !
- للزمن أحكامه ! الله يرحمها ، والدتك الطيبة النجيبة ؛ لولا أنها راحت لدار حقها و تركتني لوحدي لما صرت بهذا الحال !
- و ما ذنبها هي ؟ ألم يكن قاتلها هو ذلك الطيار الأمريكي الحقير الذي قصف الجسر بصاروخين فيما كانت تعبره حاملة لنا الطحين من بيت المرحوم جدي كي تصنع لنا الخبز فتستر جوعنا في تلك الايام السود ؟
- لعنة الله على الجنود الأمريكان لضربهم الثقيل للمدنيين عن بعد ! أنهم أجرم و أجبن من ارتدى البزّة العسكرية على مر العصور !
- يأتيهم اليوم الذي يُمرَّغون فيه بالوحل . لا بد ان أنتقم منهم لروح المرحومة أمي العظيمة !
- و تتركني وحدي و أنا على حافة القبر ؟
- كلا ، ليس الآن ـ بل - بل عندما يحين الوقت و استعد له جيداً ؛ بعد عمر طويل ، بعون الله و توفيقه .
- لا حول ولا قوة إلا بالله ! أين كنّا ، و أين صرنا ؟! أسرع الآن بأخذ الباݘة لشزنة – ها ، و لا تنس أن تمرَّ على "الشيخ طقعان" في المسجد و تطلب منه أن يمرّ على دارنا كي يفسِّر حلم البارحة لها . سبحان الله ، لقد رأت البارحة في المنام سيارة عسكرية أمريكية ضخمة سوداء و هي تدهسها بأقصى سرعتها في الشارع دون أدنى مبالاة .
- عسى الله أن يسمع من فمك ! إنشاء الله اليوم ، قبل بكرة !
- ولك دِمشي ولّي ، ولك ! فأل الله و لا فألك ! يلله عجّل بإيصال الباݘة قبل أن تتعفن في حرِّ جهنم هذا !
- و لكن أعذرني يا أبي ، فلن أمرَ على أبو الفروخ طقعان هذا !
- ما هذا الكلام غير المربوط ! حرام عليك ، يا بني ! إنه شيخ تقيٌّ عالِمٌ يصلي خلفه المئات في المسجد ؛ و هو مرحّب به في كل البيوت و بأشرف العوائل ! إح ، إح . سأضطر لإبلاغه ، إحح ، إح ، أنا بنفسي ! إح ، إاح ، أحو . ها قد جعلتَ السيجارة تصير زقّوماً ! إححخع ، إح إحو .. يلله ولّي عن جهي !
حمل داشر علبة الباݘة و هو ينظر لساعته و أسرع باتجاه محل الصيدلية . لا يجب أن يتأخر على موعده مع بنت الجيران "حنان" في المتنزه بعد ساعة بالضبط . سرّه أنه سيفرحها كثيراً بإيداع اليوم عن مهرها : ثمانية آلاف دينار بالتمام و الكمال ؛ خمسة آلاف حصل عليها أجرةً لقاء ذبحه خروفين للقصّاب "حمود" في المجزرة ، و ثلاثة آلاف يوميّته من أبيه ؛ و سيكفيه أن يتغدّى بعلبة بسكت مع استكان شاي بالخمسمائة دينار المتبقية لديه . لم يكن قد حسب إجمالي كل إيداعاته التي يجمعها عندها حتى الآن ، و لكنها يجب أن لا تقل عن المليوني دينار . لقد عقد العزم على استكمال كل مبلغ المهر - خمسة ملايين دينار - في بحر أقل من سنة قادمة ليتزوج بعدها بحبيبته الغالية فيمتَّع نفسه بالجلوس معها ليل نهار و الطرب لتسمّع كلامها الدافئ اللذيذ الممتلئ حناناً . لولا أن تلك الحقيرة شزنة قد ضبطتهما يدندنان ساعات طوال عبر سياج السطح ظهيرة ذلك اليوم الأسود لما اضطر الآن لمقابلة حبيبته خطفا في المتنزه البعيد لتنقيدها حصة كل يوم من مهرها بعد أن قررا الإقلاع عن اللقاء عبر سياج السطح العالي . شعر بالفخر لأن أغلب قصابي البلدة باتوا يمتدحون طريقته السريعة و الدقيقة في ذبح الغنم : بلا أدنى خدش للجلد و لا للإلية ، و باستعمال السكين فقط دون الساطور ؛ أقل من نصف ساعة و تغدو الذبيحة جاهزة : تامّة الذبح و السلخ و التقطيع . و لهذا ، فقد صاروا يستأجرونه لذبح غنمهم في المجزرة حيثما احتاجوا ذبحاً لأعداد إضافية من الحلال - ها قد وصل للصيدلية .
بعد شرائه علبة حبوب الفياغرا ، أسرع للبيت . دخله ، و فتح باب المطبخ ، فرأى شزنة متربعة بجثتها البدينة على فراش الأرضية أمام الصوان تعجن طحين الكليجة منهدلة النهدين الضخمين . بعد أن تنحنح و نزع نعاله و دخل المطبخ ، صرخت شزنة به و هي ترفع صدر دشداشتها :
- ها قد دخلت المطبخ مجدداً ! ألم أمنع عليك دخول المطبخ منعاً باتّاً ؟ ها ؟ لماذا تتقصّد معاندة زوجة والدك و لا تمتثل لأوامرها مثل بقية الأبناء المطيعين ؟
- لقد أرسلني الوالد لتسليمك هذه الباݘة و علبة العلاج هذه .
- كم ديناراً أعطاك ؟
- و لا دينار واحد ! في أمان الله – سارع بالمغادرة فوراً كمن يبتعد عن شرٍّ وبيل .
في ممشاه للمتنزه البعيد ، تذكّر أمّه الطيبة ، و كيف كانت تحرص أشد الحرص على إعطائه لقمة ما لذيذة الطعم و زكية الرائحة جداً جداً كلما دخل المطبخ ؛ في حين أن شزنة هذه لا تحرص إلا على الصراخ بوجهه بأعلى صوتها كلما اقترب من مطبخ المرحومة أمّه بالذات بعد أن منعت عليه دخوله أبداً بحجّة أن رؤيته لها و هي سافرة بملابس المطبخ حرام ، كما أفتى لها بذلك طقعان . سالت الدموع السخينة على خدّيه المحمرَّين لحرمانه المفاجئ من حنان أمِّه الرؤوم ، فقرأ على روحها الطيبة سورة الفاتحة سبع مرات . مسح وجهه بمنديله الأزرق المقلّم النظيف ، ثم أسترجع بألم ذكريات بحث أبيه المحموم عن زوجة جديدة له حتى قبل انقضاء أربعينية أمّه . بقيت عمّته زكيّه تتنقّل من دار لدار تخطب له هذه و تلك طوال ستة شهور دونما أي نتيجة ، حتى وصلت إلى دار أهل شزنة هذه الكائن عند حافات المياه فقبلت به فوراً بعد أن كانت قد بلغت سن اليأس . أين شراسة هذه الجاموسة النطّاحة النبّاحة من حنان أمّه الريم الحادب المهيب ؟
في عودته للبيت بعد أن سلّم قسط اليوم لحبيبته في المتنزّه خطفاً ، حرص داشر على أخذ طرق فرعية بعيداً عن الطريق التي مشت بها حبيبته لكيلا يراهما أحد معاً فيظن بهما الظنون . كان شديد الحرص على سمعة حبيبته ، بل و يقدِّسها تقديساً . تذكّر كيف أنه لم يحصل منها طوال كل سني علاقتهما العاطفية معا إلا على قبلة خاطفة واحدة من خدها الأيمن الكاوي عبر سياج السطح و ذلك بعد إلحاح منه شديد مستطيل . و هي لم تسمح له بذلك إلا بعدما أقسم لها بأعظم الأيمان عشرات المرات بأنه سيتقدم لخطبتها حالما يصبح مؤهلاً للزواج . بكت حنان كثيراً أمامه بعد حصوله منها على تلك القبلة ، ثم كفكفت دمعها المدرار و عادت عنه نازلة .
عند وصوله للبيت ، فتح داشر الباب الخارجي ثم أغلقه خلفه ، و دخل الدار من باب غرفة الاستقبال هذه المرة تجنباً لتقريع زوجة أبيه مرة أخرى ، فتناهت لمسامعه أصوات تأوهات نسائية ورجالية مزقططة متصاعدة أتية من غرفة المطبخ الملاصقة . فار الدم برأسه ، فأسرع نحو باب المطبخ الداخلي ليجده مقفلاً . دفعه دحياً بكتفه ثلاث مرّات ، فلم ينفتح . عاد مهرولاً لغرفة الاستقبال و منها للممر المؤدي لباب غرفة المطبخ الخارجي فوجد نفسه وجهاً لوجه أمام طقعان الذي كان يلهث و هو يعدّل قفطانه مبتدراً إيّاه بابتسامة صفراء : السلام عيكم يا ولدنا العزيز ! هجم عليه داشر و سحبه من قفطانه و لكمه بكل قوته فطوّح به أرضاً ؛ ثم دخل المطبخ ، فألفى شزنة راكعة عارية و هي تهم بالوقوف . ركض نحو مجر سكاكين الكاونتر و سحب أطول سكين منه و لوح لها به و هو يصرخ ، فيما كانت ترتدي دشداشتها :
- الأن عرفت لم حرّمتي عليّ دخول مطبخ المرحومة امي ، أيتها الفاجرة . إقرأي الفاتحة على روحك بسرعة فقد حان محانك ! سأذبحك الآن ذبح النعاج !