هواجس كخبز القربان


بديع الآلوسي
2020 / 3 / 25 - 23:59     

حللنا على فرنسا كلاجئين نهاية 1989 ودخلنا باريس كمغتربين ، في الايام الاولى لوصولنا زارنا الرسام (صلاح جياد) حاملا معه علبة الوان مائية اهداني اياها قائلا : قد تحتاجها .. هذا الكرم والمبادرة قد تركتا اثرا في نفسي ، واحتفظ بتلك العلبة الى حد الان ، لا لشيء سوى لانها تحمل رائحة صلاح … مع مرور الايام والسنين صارت معرفتي به تتعزز ، ودأبت على رؤيته واللقاء به في ساحة مومارت للفنانين ( Place du tertre ) ، كنت حين اراه اشعر بدفء الأشياء وحميمية الصداقات ، نسرق قليل من الوقت ، و نحتسي معا ً البيرة في البار الملاصق للساحة ، كان صلاح يدخن بهدوء ويتعامل مع الحياة بتفاؤل كمن روحه لا تزال طرية لملاقات حبيبة سرية ، كنت اذكره بمخاطر السجائر ،لكنه كان يجيب : اذا فقأت عين الموت تلاشى الخوف .
لم تكن بالنسبه له تخطيطات البورتريت التي كان ينجزها في الساحة عملا فنيا ً ، حين سألته : ما الذي يجبرك على مزاولة هذه المهنة ؟
كان رده يحمل الفكاهة وهو يقول بلهجة عراقية محببة :
ــ الواحد يصعد يزينله راس راسين احسن من الكعدة بالبيت
ـ وهل هذا من أختياراتك ؟
اجاب وهو ينظر الى السماء : لا انها جزء من ضرورات الحياة .
كنت ارى العراق ينعكس في عينيه اللتان تزوغان بعيدا ً وهما تحدقان في ما يخفيه المكان من وداعة او جفاء ، اشعر انه يصر على مواصلة الحياة كطفل يرى السيرك لاول مرة ، او كمن تبدو له الحياة كطائرة الورقية يمسك بها وهي تقاوم الريح .. يتبادر الى ذهني أن كل شيء له فائدة ما ، اعتقد ان صلاح كان له نفس الهاجس حين قال لي : حاول ان تبدع ما تراه مناسبا ً سيجد له صدى في روح ما .
وبدأت اهتم بمنجز صلاح ، واعني لوحاته التي تمازج على نحو محكم بين التعبيرية والتجريد ، وصرت ارى فيها تشكيلا ً ينتمي الى الفن المقاوم ، فهي ضد الجرائم الفضيعة التي تطال البشر الطيبين ، لوحات فيها الايقاع والعنفوان والجمال والصرامة وقوة الخط وبهجة اللالوان . كنت يا صلاح مثل محارب يقاوم الكراهية او كمن يريد ان يبرهن للاعداء ان الخير سينصر على الاشباح والجشع . كما قال لي يوما ً : سنرحل عن هذا العالم ، وستبقى اللوحات كأجمل اثر ..
كانت لوحاتك تحمل في طياتها حمى الروح ، وما هو ضروري من أسئلة تحفز المشاهد على الأطالة والتأمل ، تثيرني لوحاتك يا صلاح ، ومن دلالاتها انها لا تعرف الحياد فهي تنتمي الى المجزرة الى عذابات انسانية او الى وطن يذبح يوميا ً بسبب التخلف والجوع والفساد والطائفية . كنت بيننا كفارس تحسي الويسكي على مهل ، كنت وطنيا ً من الطراز الأول، وكنا لم نتوقع انك ستفارقنا في الزمن الذي نكتب به قصائد عن حب في زمن الكورونا ، لا من احد كان يخمن ان تكون جنازتك تقتصر على بعض الافرد المقربين جدا ُ ، مؤلم كل ذلك لانه لم يناسب قامتك او مقامك ..
نم قرير العين ، كلنا نحبك
ونكتب حروف اسمك على قمرنا
كي تبقى روحك تلعب مع الغيمات
نم قرير العين ، كلنا نجلك ...