الإشتراكية الديموقراطية (Third Way) (1/2)


فؤاد النمري
2020 / 3 / 21 - 16:45     

يسيء العامة الإعتقاد أن الإشتراكية في الإتحاد السوفياتي فشلت بسبب غياب الديموقراطية بينما في الحقيقة أن الديموقراطية في دولة دكتاتورية البروليتاريا بقيادة ستالين كانت أعمق بكثير من الديموقراطية البورجوازية في بريطانيا أو فرنسا، وثمة أمثلة كثيرة على ذلك . كان ستالين في مؤتمر الحزب 19 قبل رحيله بثلاثة أشهر فقط قد ناشد مندوبي المؤتمر بألا ينتخبوا أحداً من قيادة الحزب القديمة، ومع ذلك جرى انتخاب جميع أعضاء القيادة القديمة – وما يتوجب تأكيثده في هذا المقام هو أن تجاهل نداء ستالين تسبب بما عاناه العالم من مآسي وشرور منذ الخمسينيات وحتى اليوم . في مطالع العام 53 استدعى ستالين عضو الحزب الشيوعي الكاتب الشهير اليهودي إيليا أهرنبورغ وظل يرجوه في جلستين طويلتين لأن يوقع بياناً بالإشتراك مع عضو المكتب السياسي اليهودي أيضاً لازار كاغانوفتش ينفيان ممارسة الاتحاد السوفياتي سياسة العداء للسامية ولم يستجب أهرنبورغ لإلحاح ستالين . في العام 43 السنة الثالثة للحرب جهز المارشال فورشيلوف خطته في الهجوم على قوات النازي على شواطئ البحر الأسود وأمر سكرتيره باستدعاء قادة الوحدات للتصويت على الخطة لكن السكرتير رد يقول أن القيادة العليا الرفيق ستالين حظر التصويت بصورة مشددة على الأعمال الحربية فكان جواب فورشيلوف .. لا عليك أدعُ قادة الوحدات . وظهر مؤخراً على التلفاز أحد مساعدي يلتسن من الذين جهدوا في تحويل النظام الإشتراكي إلى النظام الرأسمالي وقال .. كتبت مذكرة للرئيس يليسن بعد زيارتي لمصنع كبير يعمل فيه 58 ألف عامل ووجدت في ذلك المصنع أن المدير العام ينتخبه العمال ونبهت في المذكرة أن مدير المصنع في النظام الرأسمالي تعينه السلطة ولا ينتخبه العمال .
وثمة شهادة شهيرة لستالين يقول فيها .. كل ما أقوم به هو تنفيذ مقررات المؤتمر العام للحزب .
وهكذا فإن الديموقراطية البورجوازية غير جديرة بالمقارنة مع الديموقراطية السوفياتية .

رغم أن الحرب العالمية الثانية كانت أقسى امتحان واجهته محتلف الأنظمة الإجتماعية في العالم ، الرأسالية والفاشية والنازية والإشتراكية، ولم ينجح في ذلك الإمتحان الصعب سوى الإشتراكية السوفياتية، إشتراكية ستالين اللينينية تحديداً وبرهن السوفياتيون على أنهم أكثر تعلقاً بوطنهم وأكثر تحرراً من الفرنسيين الذين استسلموا للعدو بعد أسابيع قليلة فقط .
تبعاً لهذه العقيدة الخاطئة عن الديموقراطية السوفياتية حوّر الإشتراكيون الديموقراطيون (Democratic Socialists) تصنيفهم ليغدو الديموقراطيون الإجتماعيون (Social Democratics) . قصدهم من هذا التحوير هو التأكيد على أنهم ليسوا اشتراكيين، وهم لم يكونوا يوماً بحاجة لمثل هذا التأكيد .
مؤسس هذه المدرسة الخؤون هو الخائن المرتد كارل كاوتسكي (1854 – 1938) والذي بفضله دون سواه عبرت ألمانيا إلى النازية وتسببت بالحرب العالمية الثانية الكارثية على كل الصعد وخاصة سد الطريق أمام الثورة الإشتراكية في العالم
البرنامج الإجتماعي لهولاء الديموقراطيين الإجتماعيين يقوم على فصل الحقوق الإقتصادية عن الحقوق السياسية – يفترضون بالدولة أن تضمن حقوقاً سياسية متساوية لجميع المواطنين وتمتنع بذات الوقت عن التدخل في الحقوق الإقتصاديةتأميناً لاستغلال البروليتاريا بتطبيق مبدأ "دعه يعمل /Laissez Faire ". الإشتراكيون الديموقراطيون يعلمون تماماً أنهم يمارسون الخداع في دعاواهم الديموقراطية فدولتهم الاشتراكية الديموقراطية تعتمد في نفقاتها على ما يوفره لها الرأسماليون من أموال، ولذلك هي دولة الرأسماليين . يستل الرأسماليون قوى العمل من أجساد العمال يحولونها إلى نقود في جيوبهم كل يوم جديد ويتركون العمال في نهاية اليوم جثثا هامدة . قوى العمال الفعلية النافذة باتت نقودا في جيوب الرأسماليين، فما عسى العمال يفعلون بالحقوق السياسية!!؟ ولمّا لم يعد مثل هذا الخداع ينطلي على الكثيرين تقدم توني بلير رئيس وزراء بريطانيا (1997 – 2007)، متأثراً بفيلسوف حزب العمال أنتوني جيدنز (Anthony Giddens) لتطوير خديعة الدولة الاشتراكية الديموقراطية بادعاء أن هناك "الطريق الثالث / Third Way " والتي لا هي اشتراكية ولا هي رأسمالية .
تصادف أن كان في نهاية القرن المنصرم أربعة رؤساء من الديموقراطيين الإجتماعيين للدول الغربية الأربعة الكبرى، الرئيس الأميركي وليم كلنتون، رئيس وزراء بريطانيا توني بلير، ليونيل جوسبان رئيس وزراء فرنسا و جيرهارد شسرويدر مستشار ألمانيا ؛ إجتمع الرؤساء الأربعة في الأيام الأخيرة من القرن العشرين في لندن وراء أبواب مغلقة لثلاثة أيام، وعند فتح الأبواب وانتهاء المؤتمر لم يصدر بيان كما يقتضي البروتوكول يبيّن موضوع المؤتمر وما انتهى إليه المؤتمرون، بل رفض جميعهم الإفصاح عما بحثوا فيه . لكن الصحفيين الإنجليز لم يتركوا كلنتون يفلت من بين ايديهم ؛ أحاطوا به وأمطروه أسئلة يستفهمون عن أمر هام جمع رؤساء أربع دول عظمى لثلاثة أيام وراء أيواب مغلقة . إذاك إعترف كلنتون أن الرؤساء الأربعة قضوا الأيام الثلاثة يبحثون عن الطريق الثالث (Third Way) غير الرأسمالي وغير الإشتراكي وفشل بحثهم ولم يجدوا مثل هذا الطريق على الإطلاق .
ما يثير الإستغراب في هذا المقام هو إحتجاج منظر حزب العمال أنتوني جيدنز متسائلاً .. كيف لا يجد القادة الأربعة الطريق الثالث والإنتاج السائد في بلادهم إنتاج فردي (Individual Production) . الحق أن ما هو أكثر غرابة من استغراب جيدنز هو ما الذي حاش جيدنز إلى حزب العمال والعمال لا ينتجون إلا في جماعات ولذلك فإن إنتاجهم هو جمعي أو تشاركي (Social)أو (Socialist) . الإنتاج الفردي لا يحقق أي فائض للقيمة كما هو معروف وهو لذلك يحول دون تطور النظام الإجتماعي ويتسبب بالتالي بعجز المجتمع والإعتماد على الإستدانة أو المساعدات الخارجية . كذلك هي الأنظمة في المجمعات المعتمدة على الإنتاج الفردي .
كان توني بلير رئيس وزراء بريطانيا السابق هو فارس "الطريق الثالث" وهو من دعا الزعماء الثلاثة الديموقراطيي الإجتماعيين إلى مؤتمر لندن للبحث عن أصول الطريق الثالث ولما فشل المؤتمر، وغاب الرؤساء الثلاثة الآخرون عن المشهد أعلن توني بلير أنه مع الرأسمالية الحديثة (New Capitalism) والرأسمالية الحديثة لمن لا يعلم هي الرأسمالية التي تتلطف في استغلال الطبقة العاملة وهو ما دعا إليه االإقتصادي الإنجليزي كينز (John Minard Keynes) كأن يقبل الرأسماليون بفائض قيمة بنسبة 10% من قيمة الإنتاج بدل 20% وهو ما من شأنه أن يبعد العمال عن الأحزاب الاشتراكية الثورية ويطيل يالتالي من عمر النظام الرأسمالي .
لنفرض أن الإشتراكية الديموقراطية أو "الرأسمالية الحديثة" كما سماها توني بلير ما زالت قائمة في الدول الغربية وأن الرأسماليين في هذه الدول تحسنت أخلاقهم وتلطفوا بالعمال وقبلوا بنصف فائض القيمة الذي اعتادوا على تحصيله من جهد العمال فستتحقق أزمة الكساد حالتئذٍ كل عشرين عاماً بدل عشرة أعوام فكبف للرأسماليين أن يعبروا أزمة الكساد بعد أن سدت منافذ الاستعمار نهائياً في العام 72 كما أكدت الأمم المتحدة آنذاك !!؟ مهما أبدع الإشتراكيون الديموقراطيون ام الديموقراطيون الإجتماعيون أم مناصرو الرأسمالية الحديثة في الخداع فلن يخدعوا إلا أنفسهم بعد أن تحولت أسواق الإمبريالية الكلاسيكية إلى دول مستقلة وهو ما أنهى عصر الرأسمالية إلى الأبد .

ثمة حقائق على الأرض تفري عيون أضل الضالين من الذين يرفعون عقيرتهم اليوم منتصرين لما يسمونه الإشتراكية الديموقراطية . أولى هذه لحقائق أن الدول الموسومة بالاشتراكية الديموقراطية تعاني اليوم جميعها من قصور هائل في الإنتاج وهو ما يعني أن هذه الدول لا تمتلك نظاماً متكاملاً للإنتاج قابلاً للحياة، لا رأسمالياً ولا اشتراكيا فالنظامان يوفران فيضاً من الإنتاج . تغطي هذه الدول قصورها في الإنتاج بالإستدانة من الخارج . كل فرد في أميركا مدين اليوم بـ 58000-$- - وهو بالحقيقة أضعاف ذلك - وفي بريطانيا 127000-$-، وفي فرنسا 87000-$-، وفي ألمانيا 65000-$-، وفي هولندا 265000-$-، وفي بلجيكا 112000-$-، وفي السويد 94000-$-
في حقيقة الأمر أن هذه الديون لا تمثل إلا أقل من نصف حقيقتها بسبب اعتبارات خاطئة لقطاع الخدمات غير المؤهل للإحتساب في الديون
المراقبة الحثيثة لمدينية هذه البلدان تشير على الدوام أن هذه الدول لم تستطع يوماً تسديد أية مبالغ مستحقة وما تستجره من فوائد الأمر الذي يؤكد انهيار أنظمتها في الإنتاج تحت وطأة الديون المتعاظمة دون توقف بعد أن لم يبق هناك من يُديّن وما يستدان بعد سنوات قليلة .