الامبريالية و العصر الجيولوجي البشري / 2


حسين علوان حسين
2020 / 3 / 21 - 15:47     

"الإمبريالية المتأخرة والعصر الجيولوجي البشري
وفقاً لسمير أمين ، فإن الأرباح العالية للغاية المستمدة من الريع الإمبريالي للثروات الطبيعية المستنزفة من دول المحيط [أو الجنوب العالمي] في عملية إنتاج السلع قد اتخذت تاريخيًا شكلين : (1) تحويلات قيمة التبادل ، و (2) تحويلات قيمة الاستخدام . و يمكن اعتبار هذه الأخيرة على أنها مصدر الصيرورة للإمبريالية البيئية (الإيكولوجية) حيث أدى استخراج هذه الثروات الطبيعية في كثير من الأحيان إلى تدمير البلدان الفقيرة التي عانت من المصادرة (الاستيلاء دون مقابل أو المعاملة بالمثل) "لهدايا الطبيعة المجانية لرأس المال" الموجودة في أراضيها ، علاوة على تحملها للتكاليف البيئية للاستخراج . فوفقًا لجييكيا تانوه ، رئيس وحدة الاقتصاد السياسي لشبكة العالم الثالث في إفريقيا ومقرها أكرا ، غانا ، فقد أظهرت بيانات مصرف غانا التي تم إصدارها مؤخرًا أنه من أصل( 5.2 ) مليار دولار من الذهب الذي تم تصديره من قبل شركات التعدين المملوكة للأجانب من غانا للفترة من 1990 إلى 2002 ، تلقت الحكومة منها فقط (68.6) مليون دولار بهيئة دفوعات لقاء حقوق الملكية و (18.7) مليون دولار كضرائب دخل على تلك الشركات . وبعبارة أخرى ، فقد تلقت الحكومة ما مجموعه أقل من (1.7%) من العوائد العالمية للذهب الخاص بها . وبما أن هذه الأرقام تقلل بشكل كبير من قيمة صادرات الذهب ، فإن العوائد الفعلية لغانا ستكون أقل بكثير . و ما هو الأكثر إثارة للصدمة هو أنه - استنادًا إلى تحليل بنك غانا - فإن حصة الثروة التي تذهب إلى المجتمعات المتأثرة مباشرة بالتعدين لا تزيد على (0.11%) من أصل( 5.2 ) مليار دولار من ذهبهم .
و على الرغم من أن الذهب يفدم هنا مثالاً واضحاً ومثيراً بشكل خاص ، إلا أن النهب من هذا النوع هو ظاهرة عامة موجودة بدرجات مختلفة فيما يتعلق بجميع الموارد الطبيعية تقريبًا - سواء الذهب أو الذروق أو الزيت أو القهوة أو فول الصويا - التي يتم استنزافها بشكل منهجي من عالم الجنوب من طرف الشركات المتعدية الجنسية . والنتيجة هي فرض خسائر بيئية واقتصادية هائلة على البلدان الفقيرة التي تعتمد عليها - وهي عملية تم فحصها على مدى قرون لارتباطها بالاستعمار والاستعمار الجديد في الأمريكتين من طرف "إدواردو غاليانو" (Eduardo Galeano) في كتابة "الأوردة المفتوحة لأمريكا اللاتينية" (Open Veins of Latin America) . و قد أدت الطريقة المتبعة في المحاسبة الاقتصادية الرأسمالية - التي تقيس قيم التبادل دون القيم الاستعمالية - إلى إخفاء ذلك الجزء من الريع الإمبريالي المرتبط بمصادرة قيم الاستخدام . وعلية ، فإن من المهم الغوص إلى العمق الكامل للسطو البيئوي على شعوب دول المحيط - وهي عملية عنيفة بطبيعتها ارتبطت تاريخياً "بالإبادة والاستعباد و القبر في المناجم" لسكان دول المحيط ، والتي ترتبط اليوم بأشكال أخرى من المصادرة والاستغلال المفرط ، والتي تتسم أيضًا بالعنف في طبيعتها.
تميزت الإمبريالية في القرنين العشرين والحادي والعشرين بهيمنة الشركات الاحتكارية الكبيرة . وقد دفع هذا بلينين إلى تحديد المرحلة الإمبريالية للرأسمالية بالرأسمالية الاحتكارية (مع الاعتراف صراحةً بأن "السياسة الاستعمارية والإمبريالية" بمعنى أعم كانت موجودة أيضًا قبل ذلك وحتى قبل الرأسمالية) . في مرحلتها المعاصرة ، منذ سبعينات القرن الماضي ، اتخذ النظام الإمبريالي شكل الهيمنة المتزايدة لرأس مال المالي الاحتكاري ، مما مثّل مستوى عال لعولمة الإنتاج بشكل سلاسل عالمية للسلع .
و تتكامل سلاسل السلع العالمية هذه مع النقل المتسارع على المدى الطويل لموارد المواد الخام المادية من الدول الفقيرة إلى الدول الغنية مع ترك "آثار أقدام مادية" شديدة التفاقم ، تُعرّف بكونها "المخصص العالمي جراء استخراج المواد الخام المستخدمة لتلبية لطلب النهائي للاقتصاد". و باستخدام تحليل آثار القًدَم المادية [تحليل التأثيرات البيئية الملموسة المترتبة على عمليات استخراج المواد الأولية] وجد أنه في عام 2008 ، كان (%40) من إجمالي استخراج المواد الخام العالمية إنما يهدف لتمكين التجارة في بلدان أخرى ، ليس إلا . فقد تم استخراج حوالي سبعين مليار طن من المواد الخام في ذلك العام ، وهو أعلى ما وصل إليه في التاريخ كله . و تعد الواردات من المتاجرة بالمواد الخام المعادلة (المواد الأولية المجسدة) أكبر مصدر لدخل الفرد في الاقتصادات الغنية بقيادة اليابان والمملكة المتحدة والولايات المتحدة . إن الاتجاه العام في الاقتصادات المتطورة يتجه نحو "إضفاء الطابع الخارجي على العمليات كثيفة الاستعمال للموارد" مما يجعلها تعتمد أكثر فأكثر على الواردات المعادلة للمواد الخام الآتية من بقية العالم . وفي الوقت نفسه ، يبقى حوالي ثلثي إجمالي مخلفات الموارد المستخرجة المرتبطة بالصادرات في البلدان المصدرة في المقام الأول كنفايات للمعالجة وكنضوحات لمواد مساعدة ، وغالبًا ما تتسبب في أضرار بيئية كبيرة تصنّف على كونها "عوامل اقتصادية عرضية" .
و رغم أن الصين غالبًا ما يجري تصنيفها كصاحبة لأكبر آثار للقًدَم المادية المرتبطة بعملية استخراج الموارد الطبيعية على صعيد العالم بأسره ، إلا أن هذه الصورة المنقولة خاطئة ، نظرًا لكون الصين تعد أكبر مصدّر صاف للمواد الأولية المجسدة لآثار القًدَم المادية هذه . ويترك نمط التنمية هذا المرتبط ببلدان جنوب العالم بشكل عام تكاليفه البيئية الباهظة على هذه الدول القومية ، في حين أن عوائد الموارد الطبيعية ، من حيث الاستهلاك ، تذهب بشكل رئيسي إلى الدول الغنية في ظل ظروف يهيمن عليها التبادل الإيكولوجي غير المتكافئ .
و إذا كان النهب البيئوي المتواصل على مدى قرون قد اتخذ أنماطاً مختلفة من المصادرة والاستغلال المفروض مباشرة على أراضي بلدان المستعمرات والمستعمرات الجديدة في الجنوب العالمي ، فإن آثار الإمبريالية البيئوية واضحة أيضًا فيما يتعلق بالمشاعات العالمية ، أي في البحار و المحيطات والغلاف الجوي . فمنذ إصدار قانون البحار لعام 1982 ، وقع ما يقرب من نصف مساحة محيطات العالم تحت الولاية القضائية للدول القومية ، ومعظمها كائن في "مناطق اقتصادية حصرية". و لكننا نجد أن المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية تمتلكان الآن مساحات في المحيطات أكبر من مساحات أرض ولاياتهما الإقليمية و أوسع من مجموع مساحة المحيطات التي تمتلكها 83 دولة معظمها دول جزرية صغيرة . وقد سهّل هذا مصادرة موارد المحيطات ، و مَنَح الهيمنة في هذا المجال للدول الإمبريالية الرائدة الحائزة على رأس المال والتكنولوجيا لنهب هذه الموارد . و كثيرا ما تكون هذه الدول المركزية قادرة على السيطرة على الدول الطرفية واستغلالها ، لا سيما مع النفوذ الاقتصادي الذي توفره زيادة دخول الدول لأنظمة الخصخصة لإدارة المحيطات . و كانت النتيجة في السنوات الأخيرة حصول ما يعرف باسم ظاهرة "الاستيلاء على المحيطات" ، وإغلاق المجال البحري أمام الأمم الصغيرة والصيادين الصغار ، والسماح للشركات المتعدية الجنسية بالتحرك والاستغلال المفرط لمصائد الأسماك وموارد قاع البحار . و في الوقت نفسه ، تسمح السلطة الدولية لقاع البحار لهذه الدول والشركات باستغلال النفط والغاز الطبيعي والمعادن النفيسة و غير النفيسة لمنفعتها الخاصة في المياه الدولية وتحتها ، على الرغم من كونها واقعة ضمن المشاعات البحرية [المتاحة لكل الأمم قاطبة سواءً بسواء].
ومثلما أعلن مقرر الأمم المتحدة الخاص المعني بالحق في الغذاء ، أوليفييه دي شوتر ، في عام 2012 ، فإن "الاستيلاء على المحيطات" – عبر الاتفاقيات المظللة الضارّة بمصالح صغار الصيادين ... وتحويل الموارد بعيداً عن السكان المحليين - يشكل تهديدًا خطيرًا مثله مثل "الاستيلاء على الأرض". وبالتالي فإن الاستيلاء على المحيط هو بمثابة عملية إلحاق للمشاعات البحرية بسيادة الدول الإمبريالية الكبيرة حصراً . و قد أصدر "المعهد العابر للقوميات" (The Transnational Institute) في عام 2012 قراره بأن "الأساطيل الكبيرة التي تعمل في مناطق المناطق البحرية الإقليمية" تستولي على "الموارد من الصيادين المحليين و من سلسلة كاملة من الأشخاص الذين يعتمدون على أنشطة الصيد التقليدية . إن اتفاقيات الصيد التي أبرمها الاتحاد الأوروبي مع المغرب ، وموريشيوس ، وموريتانيا ، ودول جزر المحيط الهادئ ، على سبيل المثال ، تعزز هذا النوع من نزع الملكية ". و لقد ضاعفت أساطيل الصيد العالمية قدراتها لتصل إلى 3.5 مليون سفينة منذ السبعينيات ، في حين تصل حصة فقط (1 %) مما تمتلكه من السفن الصناعية الضخمة إلى (60 %) من إجمالي صيد الأسماك البحرية . و غالبًا ما تحصل الدول الجزرية الصغيرة على عوائد بخسة مقابل بيع حقوق الصيد الخاصة بها لصالح الأساطيل الدولية . "

يتبع ، لطفاً .