حقائق الكورونا وأساطيرها.


فريد العليبي
2020 / 3 / 15 - 14:23     

انتشر فيروس كورونا في بلدان كثيرة ،حتى أن منظمة الصحة العالمية أعلنته وباء كونيا ، ووًضعت مدن بأكملها تحت الحجر الصحي ، بل إن بلدا مثل إيطاليا أُعلن منطقة حمراء ، ولم يستثن الوافد الجديد على عالمنا من ضرباته المُوجعة والقاتلة أحيانا ، غنيا أو فقيرا ، امرأة أو رجلا ، كبيرا أو صغيرا. أصاب سفراء ووزراء وجنرالات وفي قائمة الانتظار ملوك ورؤساء ، مثلما أصاب عمالا وطلابا وجنودا وأطباء ، فهو فيروس عادل يصيب الجميع دون تمييز ، طالما الهواء ملكية مشتركة بين البشر كافة.
واذا كانت هذه حقيقة من حقائقه الكثيرة فإن هناك حقيقة أخرى ليست أقل شأنا منها وهى أن العالم غارق الآن في حالة اضطراب وهلع وخوف عارمة ، فقد أصبح المرض الناجم عن ذلك الفيروس حديث أغلب الناس ، كأنما يتعلق الأمر بهذيان جماعي ، ناجم في جانب منه عن العجز عن إيجاد دواء أو لقاح ، وازداد الهلع حدة فالفيروس قابل للتحول والتغير ليشتد فتكا من خلال الطفرات ، ويمكن أن يكون في ايران غيره في الصين ، وفي إيطاليا غيره في تونس الخ ..
وغني عن البيان أن هذه ليست أول مرة تباغت فيها الأوبئة البشر فهى قديمة قدمهم هم أنفسهم ، وكان ضحاياها بالآلاف حينا والملايين أحيانا أخرى . ومثلما كان الحال دوما في مجتمعات الاستغلال وتكديس الأرباح ، سرعان ما ظهر تجار الوباء ببضائعهم الفاسدة ، مثل الكمامات منتهية الصلاحية أو المصنعة في ورشات عشوائية ، فضلا عن الأدوية المزيفة وغيرها . ولم يقتصر الأمر على الأفراد والشركات فقد انخرطت فيه دول ، حتى أن وزير التجارة الأمريكية لم يستنكف من التصريح بأن أمريكا ستجنى أرباحا طائلة من تفشي المرض لدي غريمها الصيني.
وظهرت خطابات متنافرة حول الفيروس تعكس اختلاف أمزجة البشر، فبينما لجأ البعض الى تهويل خطره، مُتحصنا بالخوف الأقرب الى الجبن ، قلل البعض الآخر من شأنه ، متحصنا بالشجاعة الأقرب الى التهور، بينما يتطلب الأمر التعامل معه بحنكة ورصانة وهدوء .
كما جرى استثماره ايديولوجيا ،فعندما كان محصورا في الصين راج زعم اسلاموي يؤكد معاقبة الله ذلك البلد لاضطهاده المسلمين ، كما الموقف العنصري القائل إن الصينيين قذرين يأكلون الحشرات والثعابين والخفافيش فاستحقوا انتشار الفيروس بينهم ، والحال أنهم ظلوا يمارسون عاداتهم الغذائية تلك على مدى آلاف السنين دون ضرر يُذكر، وفي بعض البلدان تعرض صينيون ويابانيون وكوريون الى اعتداءات على خلفية ملامحهم البيولوجية ، قبل أن يعم الوباء العالم فتوارت تلك الأسطورة ومفاعيلها العملية .
كما انتشر زعم ليبرالي يقول إنه لو كانت الصين بلدا ديمقراطيا على شاكلة الولايات المتحدة وبلدان الاتحاد الأوربي ما تفشى فيها الوباء ، في اشارة الى حجبها خبر ظهوره مدة تزيد عن شهر، وبدا كما لو أن الأمر يتعلق بمباراة بين الديمقراطية الليبرالية والاشتراكية الصينية المُثيرة للجدل ، في استعادة لأسلحة الحرب الباردة . غير أن تفشيه في إيطاليا بعدها بطريقة دراماتيكية ، وفي غيرها من البلدان الأوربية ، فضلا عن الولايات المتحدة الأمريكية بين أن المرض أكبر من هذه الأسطورة التي نسجت خيوطها الأيديولوجيا وحدها.
وانتشرت نظرية المؤامرة بالقول إن ما حدث جزء من الحرب البيولوجية الخفية وأن الحاجة الى السلاح التقليدي تتناقص ، وأنه يكفي نقل خزان أوبئة الى مدن العدو لإحداث الضرر المطلوب ، ووُضع وزر انتاج الفيروس مرة على كاهل الصين وأخرى على كتف أمريكا .كما أتهمت العولمة بالوقوف وراء تفشيه فالتشابك والتداخل بين البلدان ووفرة وسائل المواصلات السريعة العابرة للحدود سهل ذلك ، غير أن مجتمعات ما قبل العولمة لم تكن فيها الأوبئة أقل انتشارا . وعلى أي حال فإن ما كان يبدو نعمة تحول الى نقمة ، لذلك تحصن بعضهم بالعزلة مُخزنين المؤونة ، منقطعين عن العالم الخارجي في انتظار مرور العاصفة الوبائية ، واتجه العالم ناحية التحول من قرية كونية الى جزر معزولة ومنازل مغلقة ، وشوارع خاوية ،حتى أنك تفتقد اليوم القدرة في مدن كثيرة على شرب فنجان شاي في أقرب مقهى .
وفي الأثناء تعززت سطوة خطاب الكارثة بالتأكيد على أن ما يحصل يكشف عن هشاشة البشرية وغرقها في أوحال ضعفها ووهنها ، مُذكرا اياها بليل حالك يمكن أن يخيم عليها في أي حين لكي يعلن عن نهايتها المنتظرة فالقيامة كانت دوما حية في مخيلتها وسوف تنالها واقعيا. وفي خضم ذلك كله برزت حقيقة أن العلم والتقنية سلاحان في ساحة المواجهة بينما توارت شيئا فشيئا الأساطير الواحدة تلو الأخرى ، فضلا عن اقرار أن سلامة البشرية في وحدتها وأن هزيمة الوباء ممكنة ، ولن تنغصها بعض الأفعال المؤسسة على الجشع والأنانية والاستخفاف بحياة الغير، فتلك شرور زائلة .