أهلا كورونا


ناجح شاهين
2020 / 3 / 7 - 08:50     

وصل "كورينا" على حد الهفوة التي وقعت فيها وزيرة الصحة الفلسطينية أخيراً إلى مناطق السلطة الفلسطينية دون أن يكون ذلك مفاجئاً فيما نحسب على نحو جدي لأي أحد. كان كورونا قد بدأ في الزحف داخل فلسطين التاريخية مثلما أشارت مصادر إسرائيلية منذ بعض الوقت، لكن الجهات الفلسطينية لم تغلق مجالها "السياحي" في وجه الحركة لأسباب قد تكون اقتصادية أو سياسية، وهذا بدون لبس يعني أن فرصة دخول الفيروس كانت واسعة تماماً.
ارتبك الناس وهاجوا وماجوا وأصيب قسم منهم بالذعر وانتشرت الأقنعة والكمامات الجادة والهزلية. أما الأطفال فسرت بينهم موجة فرح عارمة نتيجة لقرار الطوارئ بتعطيل المدارس شهراً كاملاً بعد أن خاب أملهم صباح أمس الخميس بخبر فحواه أن مدارس بيت لحم فقط هي التي سيتم إغلاقها.
شرع الناس فوراً في إعداد عدتهم "المعتادة" لمواجهة الأزمات والمخاطر المتصلة بالفيروس المرعب. ومثلما بدا لجزء لا بأس به من أبناء شعبنا وأمتنا قبل أشهر أن كورونا هو ابتلاء من الله للصين بسبب خطاياها المتصلة باضطهاد المسلمين الإيغور حلفاء أمريكا وتركيا الذين يجاهد جزء منهم في سوريا ضد الدولة، هكذا يظن هؤلاء أنفسهم على الأغلب بأن هذا الفيروس جند من جنود الله، وأن الله تعالي هو الأقدر من بين الفرقاء جميعاً على مواجهته. وإذا كان هذا جميلاً من حيث المبدأ لأنه يخفف من ذعر المواطنين عن طريق التوكل على الله والاستناد إلى حمايته وقوته التي لا شك فيها، إلا أنه يمكن أن يرتد عكسياً في حال اعتقد الجمهور أن التجمعات الاجتماعية والدينية والترفيهية في الأفراح وبيوت العزاء والمساجد والكنائس والمقاهي والمطاعم ليست خطيرة ما دام الله هو السبب الأوحد لما يحصل. جزء منا لا يريد حتى أن يفعل الأشياء البسيطة من قبيل تعقيم اليدين بالكحول أو حتى غسل اليدين بالماء والصابون.
من نافلة القول إن البشرية ترتد إلى مستوى ما قبل ديني، أي إلى مستوى الأسطورة كلما واجهت مشاكل/كوارث/أمراض/أزمات لا يمكن للعلم البشري أو العقل الإنساني أن يواجهها بنجاح. ينطبق ذلك حتى على المواجهات العابرة أو المؤقتة مثل حالة فيروس كورونا الذي بدأ ينحسر في الصين ولا بد أنه سينتهي قبل شهر أيار في المناطق الدافئة من قبيل "الشرق الأوسط وشمال إفريقيا" التي تمثل الاسم الحركي للبلاد العربية المدمنة للتفسيرات الأسطورية للظواهر الصعبة والسهلة على السواء.
هكذا قررت طائفة من المعلمات والمهندسات وربات البيوت أن تواجه كورونا بالأدعية والقرآن. ركزنا على تأنيث الفعل لأن السيدات أكثر انتماء للأسرة من الرجال، وهن من يبادر إلى تسييج المنزل وحمايته من الخطر في مقابل أنانية الذكور الذين يؤمنون على الأغلب مثل الإناث بأهمية الأدعية في مقاومة الكورونا وغيرها من المخاطر.
هناك مواجهة "أسطورية" للفيروس تذكر تماما بمواجهة الكنعانيين والسومريين والبابليين للأمراض. مثلاً كتبت إحدى السيدات: "اللهم إن هذا الوباء قد غدا من حولنا وأمره بين يديك، فحل بيننا وبينه بلطفك وسترك وعفوك ورحمتك واحفظ بلادنا من شره وبلائه."
من الواضح أن هذه السيدة قد تقمصت موقف الحضارة العراقية التي كانت تعد مظاهر الطبيعة كلها جزءاً لا يتجزأ من حرب كبيرة يمكن أن تهدف إلى معاقبة البشر أو تهذيبهم أو ردعهم...الخ وبهذا المعنى فإن الفيضان أو المرض هو أداة أو سلاح في يد الآلهة أو الشياطين الكبار لينغصوا حياة البشر. لكن ما لفت نظرنا أكثر في هذا الدعاء هو أن هذه السيدة الفلسطينية لم تتنبه إلى هذا الموقف عندما كان الكورونا يقتحم العراق وإيران والأردن والكويت ..الخ. وهو ما يوحي بأنها لا تنسجم مع روح الدعاء الإسلامي بالتزامها الضمني بتوجيه الدعاء في نطاق الإطار السياسي الفلسطيني عوضاً عن أن يوجه الدعاء في سياق إسلامي واسع مثلاً.
ومن بين الأدعية التي ملأت صفحات التواصل الاجتماعي خلال دقائق من الإعلان عن وصول كورونا:"اللهم إنا نعوذ بك من البرص ونعوذ بك من الجنون ونعوذ بك من الجذام ونعوذ بك من سيء الأسقام." من الواضح أن الجمهور الذي يتداول هذا الدعاء يبالغ تماماً في تصنيف فيروس كورونا الذي هو بالطبع فيروس أشبه بالإنفلونزا ولا يمكن مقارنته بالأوبئة المرعبة التي كانت تجتاح بلادنا من قبيل الطاعون أو الكوليراً. لكن الدعاء كأنما ينظر إليه باعتباره من "سيء الأسقام" مما يخلق ذعراً مبالغاً به في تعاطي الجمهور مع المرض.
بالطبع شرع جزء من الجمهور في تقديم الوصفات المفيدة في تجنب المرض ومن ذلك ذكر الله والصلاة على رسول الله على نحو مستمر، وذلك لأن حركة اللسان تستجلب اللعاب مما يجعل الحلق رطباً وهو ما يغني عن السوائل –بحسب هذا الفهم- ويقي المرء من مخاطر هذا العدو الخطير.
ومثلما أشرنا أعلاه فإن فكرة الغضب الإلهي لتفسير الفيروس هي فكرة منتشرة على نطاق واسع بالترافق مع فكرة أخرى فحواها إن الله جلت قدرته يعاقب الناس بإبعادهم عن بيته. ولذلك يتركز أحد الأدعية حول ذلك: "اللهم ارفع غضبك عنا ورد المسلمين إلى بيتك رداً جميلاً". وانطلاقاً من ذلك فإن الخوف من الكورونا لا مسوغ له باعتبار أنه إنما يصيب من يريد الله لذلك. وربما يصيب تحديداً العصاة والفاسقين والكفار. وقد ذهب بعض الناس مثلما هو متوقع إلى توضيح الفوائد الجمة للفيروس والمتمثلة في ردعه للمظاهر الفاسقة والخليعة من قبيل السهر في المطاعم والكوفي شوبات...الخ.
في السياق أعلاه كتبت إحدى السيدات: "كيف نخاف من فيروس كورونا وعمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: لو نزلت صاعقة من السماء ما أصابت مستغفراً. استغفروا". هناك إصرار واضح على اقتراح سببية لا علاقة لها بالسببية العلمية تختصر ما يحصل في الواقع في سبب واحد هو الله وتختزل الوقاية في التقوى والاستغفار والدعاء...الخ. ولا بد أن العلاج يدور حول الطريقة نفسها.
نتوهم أن الخطر الذي تمثله هذه الطريقة في التفكير خطر مزدوج قد يساهم في تعرضنا لخسائر افدح بسبب المرض من ناحية، ولكن هناك الخطر الدائم لتقويض فرص التفكير العاقل المستند إلى قواعد المنطق وأصول إنتاج المعرفة في فروع العلم المختلفة عن طريق الاكتفاء بفكرة السبب الواحد أو الفاعل الواحد "الأشعرية/الغزالية" التي تهيمن على عقل البسطاء من المحيط إلى الخليج وتستخدم على نطاق واسع لتفسير الظواهر المختلفة إن تكن سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو صحية بغض النظر عن كونها فردية أو جماعية.
ربما يجدر بنا أن "نستغل" هذا الضيف الثقيل الظل لكي نحاول "إنعاش" عقلية الانضباط والالتزام بقواعد النظافة ومبادئ الوقاية العامة، والتعاون الإيجابي المثمر في سياق المقاومة الجمعية لخطر عام يفتقر إلى العقلانية التامة أو إمكانية التوقع الدقيق. ينبغي أن يكون فرصة لإرساء العقلية الجمعية المتعاونة في نطاق الحيز العام الذي اعتدنا من المحيط إلى الخليج على النظر إليه بوصفه المشاع الذي لا يخص أحداً، أو النطاق الذي يتسابق الجميع في تدميره أو تشويهه أو سرقته.
في المواجهات الكبرى إن يكن في المرض أو مواجهة عدو خارجي سياسي تتجلى قدرة الانتماء الجمعي الواعي على مواجهة العدو ودحره. ربما لهذا السبب لم نقع في أية أوهام باتجاه مدى خطر الفيروس على الصين الشعبية. لقد أثبتت الصين في التجارب المختلفة في مواجهة الأزمات السياسية والصحية وغيرها أنها تعرف كيف تنسق جهود أبنائها الشجعان الأذكياء لدحر العدو. ربما يجدر بنا أن نفكر هنا في فلسطين وباقي بلاد العرب بالطريقة ذاتها خصوصاً أن لدينا أعداء سياسيين أشد خطراً من كورونا بألف مرة.