مقدمة كتاب التغلغل الصهيوني في مصر


محمد مدحت مصطفى
2020 / 3 / 2 - 09:22     

التغلغل الصهيوني في مصر
1- مقدمة كتاب التغلغل الصهيوني في مصر كتبها الصديق العزيز أ.د أحمد البغدادي

الحارة الفلسطينية مُتفرعة من الحارة المصرية... والعكس صحيح. هذه واحدة من حكايات الشوارع في التاريخ. هل تريد العنوان؟ اسمح لي عزيزي القارئ أن أبدأ مع المستعمر الغربي... ومشروعه الكبير: الحرب. تشعل الرأسمالية الحروب، وتخرج منها أكثر شراسة، وتشهد الحرب العالمية الأولى على هذه الظاهرة. لقد دخلت الدبابات والغواصات ميدان المعارك؛ وأصبحت الحرب أشد فتكا ودمارا. وبفضل هذا التطور التقني أصبحت الآلة العسكرية للاستعمار أكثر تفوقا. وهو الأمر الذى مكنها من التدخل في أي بقعة من العالم .. في أسرع وقت... بل وتوجيه الضربات العسكرية المُدمرة من بُعد!.
وهكذا أصبح بإمكان المستعمر أن يستغنى تدريجيا عن تواجده العسكري المُباشر في مستعمراته. ومن هنا ظهرت فكرة "البديل الاستعماري". وخلاصتها أن يعتمد المستعمر على وكيل يقوم بمهامه الاستعمارية في مناطق نفوذه... بالطبع ينبغي أن يمتلك هذا الوكيل قاعدة عسكرية متقدمة ومتفوقة؛ في المناطق المحيطة به. في ذات الوقت: يقوم المستعمر بإنشاء مجموعة من التحالفات؛ في الأقاليم التي تخضع لنفوذه الاستعماري. تتنوع هذه التحالفات: فقد تأخذ شكل أحلاف عسكرية... أو منظمات إقليمية... وقد تتم عن طريق المؤازرة التي يقدمها المستعمر؛ إلى مجموعة من الحكام أو الأسر الحاكمة...
وكما نلاحظ تقوم هذه الأفكار: على "يـد عليـا" تهدد وتضرب... و "يـد سـفلى" تخضع وتمول!. أما اليد العليا: فهو الوكيل الاستعماري الذى حدثتك عنه. بينما تشير اليـد السـفلى إلى المُستعمرات، التي كانت تحصل بالتدريج على قدر من الاستقلال الداخلي. وفي هذا إجابة على السؤال التالي: لماذا يقوم الاستعمار الغربي بدعم بعض النظم الحاكمة في المنطقة العربية؟ ولماذا لا يستنكف عن رعاية الحركات الرجعية في تلك النظم؟. بالطبع نعرف، حضرتك والعبد لله: ما تفرزه تلك الحركات من تخلف وانقسام وفُرقة بين شعوبها. ونعرف أيضا: شرائط التبعية الدائمة للاستعمار؛ وكيف يمكن إحكام عقدتها من فترة لأخرى.
في هذه التربة الخبيثة: نشأت العلاقة التاريخية بين القوى الاستعمارية من جهة؛ وبين النظم المُستبدة من جهة أخرى. وتلقفت الصهيونية دعوة الاستعمار؛ وهو يدعوها لتقوم بدور اليـد العليـا في منطقتنا. الدراما هنا أن فلسطين كانت في طريقها للاغتصاب؛ وأن الدماء الأولى التي أُريقت في ذلك المشروع الاستعماري: كانت الدماء المصرية. تُرى كيف تم ذلك؟.
 سنوات أربع هي عمر الحرب العالمية الأولى: كابد فيها أكثر من مليون وسبعمائة ألف مصري: ويلات السخرة. كانوا يُساقون بالكرابيج؛ ويُعاملون كالأنعام. وهم يعملون في خدمة جيوش الإنجليز وحلفائهم. يمهدون لهم الأرض ويحفرون الآبار ويجرون الآلات... كانت تلك الجيوش تزحف شرقا إلى سيناء... في طريقها إلى فلسطين. وكانت تحمل حجرا ألقمته العرب؛ ودشنت به الكيان الصهيوني.
 وسنوات بعدها خضعت فيها فلسطين للانتداب البريطاني. كان نظام "الانتـداب": هو الإطار القانوني الذى فرضه الاستعمار؛ للاعتراف بحقوقه الاستعمارية على المستوى الدولي. وكان الغطاء، الذى تسترت خلفه بريطانيا وفرنسا؛ لتقسيم وحكم منطقة الشام والعراق؛ طبقا لمعاهدة "ســـايكس بيكـــو" سنة 1916م.
 كان المستعمر البريطاني خلال فترة الحماية أو الانتداب على فلسطين: الحليف الأول للصهاينة. كُل مهاجر يهودي... وكل قطعة سلاح... وكل قرية خربة... وكل امرأة بُعثرت أحشاؤها: تشهد على هذا المستعمر وحلفه وجريمته!. هلا أجبتني عزيزي القارئ: لماذا لم نطالب المستعمر ـ يوما ـ بتحمل مسئوليته عن تلك الجرائم؟. بالطبع نعرف،ـ حضرتك والعبد لله ـ أن القانون الدولي يُلزم المستعمر بتعويض ضحاياه ماديا وأدبيا. هلا أجبتني إذن: لماذا كل هذا الخجل والحياء والأدب: ونحن نتعامل مع مُستعمر؟!.

في تلك السنوات ـ وما قبلها ـ كانت الصهيونية قد نجحت في ترويج فكرتها؛ وسعيها الاستعماري في فلسطين. يحتاج الاستعمار: إلى كيان شـبيه بـ "دولة أوروبية"؛ تحمى مصالحه في المنطقة العربية. وكأنما كان المستعمر الغربي يقوم باستنساخ كيان أوروبي في منطقة يعيش فيها "الهمج ... الضعفاء". هنا يمكنك عزيزي القارئ: أن تستمع إلى نابليون بونابرت ـ المستعمر الغازي ـ وهو على أبواب عكا؛ في إبريل سنة 1799م. في ذلك الوقت: أعلن نابليون ـ رسميا ـ عن تأييده لفكرة الكيان؛ الذى يقيمه اليهود في منطقتنا العربية. والحلم الذى سيحققه هذا الكيان للغرب المستعمر؛ وهو التحكم في "تجارة الهند وبلاد العرب وإفريقيا"!.
وفي إطار الأفكار التي أحدثك عنها نمت فكرة الشركات ذات الطابع الدولي. وأصبحت تلك الشركات إحدى الأدوات الهامة للاستعمار؛ وسعيه لإدامة نفوذه وتعظيم ثرواته. وتقوم هذه الفكرة على شركات تتجاوز إطارها القانوني كمشروع تجارى؛ لتصبح مؤسسة حاكمة لها أهدافها الاستعمارية في منطقة أو أكثر.
ومن هذه الزاوية: كانت شركة قناة السويس؛ جنبا إلى جنب مع المشروع الصهيوني في فلسطين؛ وبعض النظم الحليفة في المنطقة العربية: أدوات جديدة للمستعمر. ولذلك كانت إنجلترا تربط بين نفوذها في مصر من جهة؛ ومستقبل القنال من جهة أخرى. لاحظ ـ عزيزي القارئ ـ خطوات المستعمر الإنجليزي منذ أن سعى إلى شراء أغلب الأسهم؛ في شركة القنال في سنة 1875م ... وحين شرع بعدها: في التخطيط والتجهيز لاحتلال مصر ... وحين قام بحماية مصالحه في القنال: من خلال معاهدة القســـطنطينية ســنة 1888م ... وحين أخذ يتفاوض مع المصريين: على شروط الجلاء عن مصر. اسمح لي أن أنقل إليك ملاحظة هامة؛ تتعلق بالوعى بهذه المسألة؛ وارتباطها بالاستعمار العالمي. ملاحظة تحملنا على أجنحتها إلى أمريكا الجنوبية:

عزيزي القارئ: كانت الولايات المتحدة الأمريكية ـ في تلك لسنوات تتهيأ لدورها الاستعماري في الشرق؛ بصفتها الوريث للمستعمر البريطاني وعصره الذى كان في طريقه للأفول:
 كان هذا الوريث الاستعماري يردد دعوة الاستعمار الخبيثة؛ وهي الحاجة إلى حماية الشرق؛ والدفاع عن الأقليات الدينية ومقدساتها في منطقتنا العربية. ويصح أن نتساءل في مقامنا هذا هل كان الشرق بحاجة إلى من يستعمرونه وينهبونه؛ أم كان في شوق إلى من يساعدونه ويتعاونون معه؟!.
 ودافع هذا الوريث الأمريكي عن نظام الحماية التي فرضها الاستعمار على بلادنا؛ وهي الحماية التي ارتدت ـ كما لاحظنا ثوب "الانتداب". واعترف الرئيس الأمريكي (جونسون) بحقوق إنجلترا وفرنسا في مستعمراتها...
 ولم يزل هذا الوريث الأمريكي حتى يومنا هذا يخضع في سياساته لـ "الصهيونية المسيحية" ... وهو المذهب الذى يربط بين ظهور السيد المسيح؛ وبين عودة اليهود إلى فلسطين وتمكينهم منها.

كان لدى هذا الوريث الاستعماري الجديد إرثه من الإجرام، وهو الإرث الذى يتشابه مع جرائم الصهاينة في منطقتنا العربية!. كانوا جميعا من "أرباب السوابق" في "التخلص" من الشعوب وفي "إبادتهم". جرائم ارتكبها الأمريكي الأبيض في حق "الهنود الحمر" .. ومازال العرب الفلسطينيون يدفعون ثمنها حتى يومنا هذا. إليك عزيزي القارئ كلمات (مارك توين): أبو الأدب الأمريكي. ولاحظ كيف يصــف الفلسطينيين في رحلته؛ والتي تضمنها كتابـــه "أبرياء في الخارج"؛ الذى صدر سنة 1869م:

عزيزي القاري: أرجو أن تغفر لي؛ ومعك أستاذنا المؤلف: هذا الحديث عن جذور الصهيونية؛ وصلتها المُبكرة بالاستعمار والوطن العربي. فقد ارتضى أستاذنا أن يكون هذا الحديث مقدمة لكتابه. ومن هنا: انطلق أستاذنا في تتبع النشاط الصهيوني في مصر؛ قبيل الزيارة التي قام بها (تيودور هرتزل) إليها في مارس 1903م؛ وحتى ما بعد نكبة فلسطين في مايو 1948م.
وستجد في هذا السفر الموجز: ملاحظات قيِّمة عن حرية الحركة التي تمتعت بها الصهيونية في مصر خلال تلك السنوات. والدعم الذى كانت تتلقاه من شخصيات وهيئات شتى؛ بدءا من الأسرة المالكة؛ مرورا بالنخب السياسية؛ وانتهاءً بالكثير من الأدباء والمثقفين. وفي هذا الإطار: تناول أستاذنا مسألة العلاقة بين المحافل الماسونية في مصر والحركة الصهيونية. وهي المسألة التي كانت، ولم تزل. في حاجة إلى المزيد من البحث؛ نظرا للعلاقة بين تلك المحافل؛ وبين بعض قادة الحركة الوطنية المصرية حتى قيام ثورة 1919م.
وكان نصيبنا من الدقة والأناة التي يتمتع بها أستاذنا، تلك اللفتة الهامة. ونقصد بها: كيف أنه رصد واحدة من أقدم الحركات المعادية للصهيونية في مصر. وهي الحركة التي قادها نفر من اليهود الشيوعيين في مصر؛ واتخذت اسما لها هو "الرابطة الإسرائيلية لمناهضة الصهيونية"؛ والتي أصدرت بيانها التأسيسيّ في شهر يونيه 1947م.
وإليك ـ عزيزي القارئ العبارات التي وثقها أستاذنا المؤلف؛ نقلا عن سكرتير الرابطة (عزرا هراري) في الخامس من مايو سنة 1947م. لا حظ فيها الوعى بمسألة الصهيونية وعلاقتها بالاستعمار:

كان من الطبيعي أن يعرُج أستاذنا على الجانب الاقتصادي للظاهرة؛ وما رافقها من الدعاية الإعلامية والأنشطة الخيرية. وذلك حين انبرى يفسر الازدواجية التي خضعت لها الشخصية اليهودية في مصر خلال تلك السنوات. وكيف كان الكثير من اليهود المصريين ينازعون إيمانهم بالفكرة الصهيونية ومزاعمها في فلسطين؛ وحرصهم على مكاسبهم الاقتصادية والاجتماعية في مصر.
وستجد في هذا السفر فصلا في أهم الشخصيات والعائلات اليهودية؛ ودائرة نفوذها الاجتماعي والسياسي. وستجد أيضا أستاذنا وقد وضع علامة الاستفهام الحاسمة: وهو يشير إلى الجانب المُسلح في الحركة الصهيونية في مصر؛ وإرهابها ضد المصريين ومصالحهم؛ وخطتها في الاستيلاء على الأراضي العربية واستيطانها...
وستجد أيضا صفحات طوال قدم أستاذنا فيها ملاحظاته عن الدعم الذى قدمته التنظيمات الماسونية في مصر؛ للصهاينة وحركتهم وأنشطتهم. وعرض فيها تفسيره للغط الذى يتعلق بعلاقة الكثير من رموز الحركة الوطنية والأدبية والفنية في مصر بالتنظيمات الماسونية. وهي مسألة يحلو للبعض فيها أن يهاجم بعض الزعماء السياسيين والمفكرين؛ أمثال: جمال الدين الأفغاني وعبد الله النديم ومحمد فريد ومحمد عبده وسعد زغلول...
وهنا لاحظ أستاذنا تأثير السمعة الطيبة للتنظيمات الماسونية. وهي السمعة التي نشأت بالأساس بسبب تبنيها شعار الثورة الفرنسية بخصوص "الحرية والإخاء والمساواة". كانت تلك الدعاية قد تكشف خواءها بعد سنوات. حينما حاول نفر من الزعماء المصريين الحصول على تأييد التنظيمات الماسونية؛ في نضالهم ضد الظلم والاحتلال الأجنبي.
وقد احتاج الأمر سنوات أخرى حتى صدر القرار بإلغاء كافة الجمعيات الماسونية في مصر سنة 1964م. فقد تراكمت عناصر الشك والريبة؛ بسبب إصرار تلك التنظيمات على الطابع السرى في أهدافها وهياكلها... وتحول الحديث الخافت عن علاقتها بالحركة الصهيونية إلى اتهامات صريحة واضحة. في الوقت الذى تبددت فيه الشكوك حول أطماع الكيان الصهيوني وحلفه الاستعماري؛ في الأرض العربية وثرواتها وخيراتها وأسواقها...
ومع ذلك سيبقى السؤال: عن الوعى المُتأخر بين المصريين بالصهيونية وخطورتها في تلك السنوات. ونقصد بها السنوات التي تناولها أستاذنا بالدراسة والتحليل: من 1897م إلى 1948م. وقد يقول قائل: إن الأمر كان قد ارتبط بالعهد الذى لم يكن أمر المصريين فيه بأيديهم. فقد كانوا يخضعون فيه للمُحتل الإنجليزي؛ حليف الصهيونية الأول في منطقتنا. ومن وراء هذا الحلف الاستعماري: تحالف آخر يقوده ملوك مصر وأعوانهم؛ ممن ارتبطت مصالحهم الاقتصادية والسياسية بالغرب الأوروبي عامةً؛ وبالاحتلال الإنجليزي على وجه الخصوص.
وقد يُقال أيضا: إنها السنوات التي كان فيها مبدأ القوميات في أوج انتشاره. وفيها كانت القومية والليبرالية المصرية تخطو خطواتها الواثقة. وفي هذا الإطار، كان التعاطف الذى وجدته الصهيونية ومزاعمها القومية، بين قادة الليبرالية ودعاة القومية المصرية. سواء صح هذا التفسير أو ذاك .. وسواء اجتهد آخرون .. وتحلقوا حول تفسيرات جديدة ستبقى مصر وفلسطين: حارة متصلة .. وعنواناً واحداً .. ومستقبلاً مفتوحاً بالأمل والصباح المُشرق .. لمن كان شعاره ولم يزل: "قـــــاوم".
وأخيرا: فإنه ليحزُنني أن أنعى صديقي: د. السيد عبد السلام .. المناضل السياسي .. وطبيب الغلابة في شبراخيت. والذى وافته المنية أثناء إنهاء هذه المقدمة: الأربعاء 21 أغسطس 2019م. وكنت قد شرُفت بإصدار كتابه الهام ودراسته القيمة: "الصراع فوق أرض فلسطين"؛ ضمن إصدارات "المعمل القانوني". صدرت الطبعة الأولى من الكتاب: في العام 2018م. وتضمنت "مقدمة" كتبتها له؛ في طبيعة هذا الصراع ومسألة الاستعمار. وفي ختام تلك المقدمة كانت كلماتي عنه .. وكلماتي إليه. أختتم بها مقدمتي هذه .. وأبدأ بها فصلا ـ جديدا ـ من الوفاء للأصحاب .. وألم الفراق:

نعم أشرف تحية ..
لمن أخلص للمصريين ..
وحلمهم بالحرية والكرامة والعدالة!.


المُخلص: أحمد البغدادي
الإســـكندرية
أغسطس 2019م ـ ذي الحجة 1440هـ