الثقافة وموقعها في المجتمع


حسين محمود التلاوي
2020 / 2 / 26 - 18:08     

لكل مجتمع إنساني ثقافة تميزه عن غيره من المجتمعات الأخرى، إلا أنه كما إن هذه الثقافة قد تميز هذا المجتمع عن مجموعة إنسانية أخرى، فإنها أيضًا تربطه ببعض الجماعات التي تتخذ ذات الثقافة عنوانًا لها.
لكن الفروق بين المجتمعات التي تتخذ النمط الثقافي الواحد اتجاهًا مشتركًا تظل قائمة؛ وهو ما يدفعنا إلى القول إن لكل مجتمع خصائصه الثقافية مهما تشارك مع مجتمعات غيره في أطر عامة للثقافة؛ أي أن الثقافة تبدأ إنسانية ذات مبادئ يتفق عليها عموم المجتمعات الإنسانية ثم تبدأ هذه العموميات في التقلص كلما اتجهنا نحو الخصوصية إلى أن نصل إلى مجتمعات تختلف اختلافًا شبه تام بعضها عن بعض، وتجمع بينها مبادئ بسيطة جدًا قد لا يلاحظها أحد، وكنموذج على ذلك يختلف الريف المصري عن المدينة الغربية، إلا أن لكلا المجتمعين إطارًا عامًا من الثقافة الإنسانية يجمعهما سويًّا.
ولكن ... ما الثقافة؟! وكيف تتشكل؟! وهل لها أسبقية على المجتمع؟! أم أن المجتمع هو الأسبق على التكون ثم يشكل ثقافته الخاصة؟!
يمكن القول دون خطأ كبير إنه في البداية يتكون المجتمع من عدة أفراد جمعتهم الرغبة في الاتحاد لمواجهة الظروف المحيطة بهم وللعيش يومًا إضافيًا، ونتيجة الظروف التي ذُكِرَتْ من قبل يتكون للمجتمع أسلوب حياة يصيغه الأفراد وفق هذه الظروف، وبمرور الوقت تتراكم المعارف والخبرات وتتبلور أساليب الحياة في هذا المجتمع وتبدأ في أن تتخذ نمطًا شبه ثابت حسب الأجواء التي نشأ فيها؛ وعندها تتشكل الثقافة الخاصة بهذا المجتمع.
وتنتقل هذه الثقافة عبر وسائل مختلفة — وفى مقدمتها الممارسة العامة — إلى الأجيال التي تلي جيل المؤسسين ثم تتحكم في سلوك أفراد الأجيال التالية. وقد تعمل هذه الأجيال على تطوير نمط الثقافة الخاص بها، وقد لا تعمل وذلك وفقًا لنوعية هذا النمط الثقافي، وكذلك وفقًا لمدى إرادة هؤلاء الأفراد الراغبين في التغيير؛ أي أن الثقافة منتج اجتماعي صنعه الأفراد وفق ظروفهم، ثم انتقل عبر الزمان إلى الأجيال التالية التي قد تغير أو لا تغير في هذا النمط الثقافي.

ما الثقافة؟!
بعد ذلك يبقى السؤال الأهم.. ما الثقافة؟!
تتعدد التعريفات التي تقدم للثقافة وذلك لتعدد المفاهيم والاستخدامات التي يبرز فيها هذا المصطلح. فعلى سبيل المثال ارتبطت الثقافة في الذهن العربي القديم بالقتال والصيد يكون الثقافة مشتقة من تهذيب الرمح كما أن المفهوم كان شائعًا في الفكر الإنجليزي في الجانب الزراعي؛ وهذا يعطينا صورة عن مفهوم الثقافة في الذهنيات الاجتماعية القديمة.
إلا أن الوضع تغير في العصر الحديث وصارت كلمة ثقافة ترتبط بالفكر الاجتماعي. ويمكن أن نورد بعض التعريفات لكلمة ثقافة ومنها تعريف تايلور الذى قال بأنها "الكل المركب الذى يشمل المعرفة والمعتقدات والفن والقيم والقانون والعرف وأي قدرات يكتسبها الفرد بوصفه عضوًا في المجتمع"؛ أي أن هذا التعريف يؤكد على أن الثقافة منتج اجتماعي من الدرجة الأولى وكذلك فإن الثقافة هي أسلوب الحياة في المجتمع؛ وذلك كما قال الدكتور فكرى شحاتة أحد كبار إخصائيي أصول التربية عند مناقشته لهذا التعريف.
كذلك قدم الدكتور شحاتة تعريفًا بين فيه أن الثقافة "مجموع ما أنتجه الإنسان من خلال عمليات التفاعل الاجتماعي، والذى يجعله قادرًا على تجاوز حدود الزمان والمكان". وهذا التعريف لا يؤثر فيه اجتماعية على أخرى في المجتمع من ناحية الثقافة؛ فالكل مثقف ما دام يشارك في صياغة المجموع الفكري والقيمي للمجتمع، وذلك خلافًا للتعريف الذى وضعه تايلور والذى يجعل الفرد متلقيًا لخبرات اجتماعية؛ ومن ثم توجد إمكانية في تفاوت هذه الخبرات؛ الأمر الذى يشير إلى التفاوت في مواقع الأفراد في مسألة الثقافة.
على ضوء ما سبق يمكن أن نقدم رؤية لمفهوم الثقافة باعتبارها منتجًا اجتماعيًا، ويتلخص هذا المفهوم في أن الثقافة "كل ما أنجزه الإنسان باعتباره فردًا في مجتمع ما من أفكار وسلوكيات لأجل تنظيم الحياة الإنسانية في المجتمع، وتحقيق أهدافه؛ وهو المنجز الذى يتسم بالمرونة الكافية للتأثير والتأثر في غيره من المنجزات الخاصة بالمجتمعات الأخرى، وكذلك الذى يمكن نقله للأجيال الأخرى في المجتمع، ويمكن تعديل هذا المنتج وفق حاجات المجتمع".

سمات تميز الثقافة...
وعلى هذا فإننا يمكننا أن نستخلص العديد من السمات التي تميز فكرة الثقافة في المجتمع الإنساني ومن أهم هذه السمات:
1. أن الثقافة منجز اجتماعي نشأة الفرد باعتباره جزءًا من المجتمع الذى يعيش فيه.
2. الثقافة من الوسائل التي يوجدها المجتمع لأجل تطوير ذاته وتحقيق أهدافه؛ وفى مقدمتها الاستمرار في الوجود.
3. تجمع الثقافة بين الفكرة والتطبيق؛ فكل إنجاز نظري أو أخلاقي أو قيمي على المستوى العام في المجتمع يدخل في نطاق الثقافة، كذلك كل سلوك أو اتجاه للعلاقات في المجتمع يدخل في ذات النطاق.
4. تتسم الثقافة بالمرونة والقابلية للتأثر بالثقافات الأخرى في المجتمع الإنساني الكبير كما أنها يمكن أن تؤثر في نفس هذه الثقافات الأمر الذى يضيف عموميات جديدة للفكر الإنساني.
5. نقد الذات يعد من السمات الأساسية للثقافة الإنسانية، ونعني به تطوير الذات، وإزالة العقبات من أمام هذا التطور المطلوب، على أن هناك الكثير من الثقافات التي تعاني جمودًا؛ فتفقد هذه القدرة، كما تفقد القدرة على التأثير والتأثر على النطاق الإنساني الواسع.

بطبيعة الحال أن الثقافات الإنسانية لا تسير في ذات الاتجاه؛ فبعض أنماط الثقافات تتجه صعودًا نحو التطور، وأخرى تبقى مكانها، وأخرى تتطور لأسفل؛ أي تهبط الأمر الذى يهددها بالفناء. ومن المؤكد أن العديد من الثقافات قد اندثرت نتيجة عدة أسباب وفى الموضوعات القادمة بإذن الله، سوف نحاول أن نرى الكيفية التي تطور بها الثقافة، والعوامل التي تؤثر في هذا التطور، والأسباب التي قد تنهار الثقافات جراءها، والعلاقة بين الثقافة والحضارة.