أبي وعبد الله بن المقفع وفلسطين


عبدالرزاق دحنون
2020 / 2 / 23 - 10:36     

صورة باقية في ذاكرتي عن أبي يجلس في حديقة منزلي في "حي البيطرة" قبل ساعات من رحلة الرحيل عن مدينة إدلب في الشمال الغربي من سورية في خريف عام 2016. كان يتعكَّز علينا وعلى عكَّازه، برحيلنا عن ديارنا صار وحيداً مع عكَّازه الخشبي. فكَّرنا في أن يُرافقنا في رحلة الرحيل تلك-لأنه كان يرتعب من قصف الطائرات- ولكن المهرِّب استهجن الأمر ورفض بشدة أن يُرافقنا هذا "الختيار" إذ كان في السادسة والثمانين من عمره، وخيراً فعلنا، لأنها كانت بالفعل رحلة شاقة لا يمكنه الصمود أمام عثرات طريقها ووعورة مسالكها وطول دربها، كان يوماً أطول من قرن على حدِّ تعبير الكاتب القرغيزي جنكيز أيتماتوف في روايته "ويطول اليوم أكثر من قرن" لذلك بقي في منزله مع من بقي من أخوتي وأخواتي. في ذلك المساء قبل الرحيل بيوم واحد قلتُ لأبي:

اليوم أنهيت قراءة رواية زمن الخيول البيضاء للشاعر والروائي الفلسطيني إبراهيم نصر الله وفيها تحدث عن واحدة من عادات مؤدبة ولكنها مكلفة والتي يُعلن فيها الشباب، في كثير من قرى منطقة بحيرة طبريا في شمال فلسطين زمن الخيول البيضاء، أنهم لم يعودوا قادرين على احتمال العزوبية أكثر مما احتملوها فيلجؤون إلى حيلة تكسير صحون البلور الصيني في مطابخ أمهاتهم، حيث نُصادف بطل الرواية عمر في مطبخ البيت يمسك أحد الصحون ويكسره، تسمع أمه تهشُّم الصحن فتقول: انكسر الشر. أمسك بالثاني وكسره. فقالت أمه: انكسر الشر كمان مرة. والتفت إليه تسأله: ما بك هذا اليوم؟ وقبل أن تتم سؤالها كان واحدٌ آخر من عدة صحون صينية مُورَّدة يتناثر شظايا على الأرض. رأته يرفع صحناً جديداً فصرخت: الحق يا حاج إبنك قبل أن يُكسِّر لنا البيت.

قال أبي:

سأحكي لك عن واقعة حدثت أمامي عندما كنتُ شاباً في شتاء عام 1948 وفيها الكثير من صحون البلور المكسَّرة. كنا أمام البيدر الذي يقع غرب القشلة العسكرية التي تركتها فرنسية لنا بعد رحيلها من المدينة، ثمً أُزيلت في نهاية سبعينات القرن العشرين وبني مكانها مبنى محافظة إدلب. كنا نتصيد شمس الشتاء في المدخل القبلي لزقاق حمام الميري وأهلنا من الرجال يجلسون على سطح معصرة الزيتون يتشمسون تحت شمس عصر ذلك اليوم، فجأة سمعنا هدير محركات ثلاث شاحنات تسير خلف بعضها وتدخل ساحة البيدر الفسيحة وتصطف عل نسق واحد، وحين توقفت محركاتها عن الهدير بدأ الرجال يتساقطون من صناديق تلك الشاحنات إلى الأرض والنساء ينزلن على مهل من سلالم حديد معلقة على خواصر الشاحنات. كنا نتفرج من بعيد على هذه المشهد الغريب والجديد على بلدة إدلب الصغيرة تلك الأيام. من هؤلاء، هل هم غجر، ومن أين جاءوا، وهل سيحطون رحالهم على بيدرنا؟ أسئلة كثيرة راودتنا، وزاد فضولنا حين سمعناهم يتخاطبون بلهجة غريبة لم نسمعها من قبل. هؤلاء عرب ولكن لهجتهم غير مألوفة. ثمَّ راحوا يفرغون الشاحنات من أغراض غريبة هي الأخرى، فرش صوف، لحف، صناديق خشبية مغلقة، مواعين طبيخ، جرر ماء. رمى أحد الرجال صندوقاً خشبياً على الأرض فسمعنا صوت تكسير صحون البلور؛ ومن ثمً سمعنا عويل امرأة شابة، فهمنا أن الأمر حدث بالخطأ، فقد ظنَّ الرجل أن في الصندوق برتقالاً.

بعد فترة قصيرة من دخول الشاحنات ساحة بيدرنا صاح أهلنا من الرجال: يا شباب ليذهب أحدكم ويستطلع الأمر. ذهبنا إليهم، وكانت المفاجأة الكبرى، تبيَّن أن هؤلاء عائلات عربية من أهل فلسطين هجَّرهم اليهود من ديارهم وها هم هُنا في بلدة إدلب الصغيرة في الشمال السوري لا يعرفون أحداً ولا يعرفهم أحد. كانت مفاتيح بيوتهم في فلسطين معهم، وها هي معهم إلى اليوم، بعد أكثر من سبعين عاماً من تشردهم في بلاد الله الواسعة. قالوا لنا يومها نحن ضيوف عندكم، كم يوم، ونعود إلى بيوتنا وبيارات برتقالنا في فلسطين. ستعود هذه الشاحنات عمَّا قريب لتعيدنا إلى بيوتنا. ولكنهم لم يعودوا أبداً إلى فلسطين. عاشوا بيننا، تزوج شبابهم، خلفوا، ثمَّ تزوج أحفادهم، وبقيت مفاتيح بيوتهم في فلسطين معهم ذكرى لأولادهم. وما زال أولادهم في انتظار تلك الشاحنات التي ستعود عمَّا قريب وتأخذهم إلى ديارهم.

قلتُ لأبي: أنت عشت النكبة الفلسطينية من أيامها الأولى، والآن نحن في نهاية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، فهل تجد مخرجاً، أما من حلِّ يلوح في الأفق؟

قال: أعرف أنك تميل إلى أفكار ما طرحة الراحل جورج حبش والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وها هي أعداد مجلة "الهدف" بالمئات في مكتبتك، ولكن مع كل خبرتي السياسية وعملي في الحزب الشيوعي السوري أيام خالد بكداش وتركي الحزب في سبعينات القرن العشرين، فإنني سأحيلك إلى كتاب "كلية ودمنة" الذي وضعه عبد الله بن المقفع في القرن الثاني الهجري، أي قبل أكثر من ألف ومئتي عام، تجد فيه حكاية قد تفيدك في هذا الشأن، ففيها ما يُشبه حال أهل فلسطين، راجعها على مهل، واستخلص منها العبر، لعلك تهتدي إلى حل ما، وهي بعنوان: البوم والغربان، وكان ابن المقفع في كتابه كليلة ودمنة يضرب لنا الأمثال ولا يضع حلولاً لمشاكل البشر.

زعموا أنه كان في جبل من الجبال شجرة من شجر الدوح، فيها وكر ألف غراب، وعليهم والٍ من أنفسهنَّ؛ وكان عند هذه الشجرة كهف فيه ألف بومة، وعليهم والٍ منهنَّ. فخرج ملك البوم لبعض غدواته وروحاته؛ وفي نفسه العداوة لملك الغربان؛ وفي نفس الغربان وملكها مثل ذلك للبوم؛ فأغار ملك البوم في أصحابه على الغربان في أوكارها، فقتل وسبى منها خلقاً كثيراً، وكانت الغارة ليلاً. فلما أصبحت الغربان اجتمعت إلى ملكها فقلن له: قد علمت ما لقينا الليلة من ملك البوم، وما منا إلا من أصبح قتيلاً أو جريحاً أو مكسور الجناح أو منتوف الريش أو مقطوف الذنب وأشدُّ ممَّا أصابنا ضُرَّاً علينا جراءتهم علينا، وعلمهنَّ بمكاننا، وهنَّ عائدات إلينا غيرُ منقطعات عنَّا، لعلمهم بمكاننا، فإنما نحن لك، ولك الرأي، أيها الملك، فانظر لنا ولنفسك.

كان في الغربان خمسة معترف لهنَّ بحسن الرأي، يُسند إليهنَّ في الأمور، ويُلقى عليهنَ أزمَّة الأحوال. وكان الملك كثيراً ما يشاورهنَّ في الأمور، ويأخذ آراءهنَّ في الحوادث والنوازل. فقال الملك للأول من الخمسة: ما رأيك في هذا الأمر؟ قال: رأيي قد سبقنا إليه العلماء، وذلك أنهم قالوا: ليس للعدو الحنِقِ إلا الهرب منه. قال الملك للثاني: ما رأيك أنت في هذا الأمر؟ قال: رأيي ما رأى هذا من الهرب. قال الملك: لا أرى لكما ذلك رأياً، أن نرحل عن أوطاننا ونخليها لعدونا من أول نكبة أصابتنا منه، ولا ينبغي لنا ذلك؛ ولكن نجمع أمرنا، ونستعد لعدونا، ونذكي نار الحرب فيما بيننا وبين عدونا، ونحترس الغِرَّة إذا أقبل علينا، فنلقاه مستعدين، ونقاتله قتالاً غير مراجعين فيه، ولا مقصرين عنه؛ وتلقى أطرافنا أطراف العدو، ونحرز بحصوننا، وندافع عدونا، بالأناة مرة، وبالجلاد أخرى، حيث نصيب فرصتنا وبغيتنا، وقد ثنينا عدونا عنا.

ثمَّ قال الملك للثالث: ما رأيك أنت؟ قال: ما أرى ما قالا رأياً. ولكن نبث العيون، ونبعث الجواسيس، ونرسل الطلائع بيننا وبين عدونا؛ فنعلم أيريد صلحنا أم يريد حربنا أم يريد الفدية؟ فإن رأينا أمره أمر طامع في مال، لم نكره الصلح على خَراج نؤدّيه إليه في كل سنة، ندفع به عن أنفسنا، ونطمئنُّ في أوطاننا. فإن من آراء الملوك إذا اشتدت شوكة عدوهم، فخافوا على أنفسهم وبلادهم، أن يجعلوا الأموال جُنَّةَ البلاد والملك والرَّعيّّة.

قال الملك للرابع: فما رأيك في هذا الصلح؟ قال: لا أراه رأياً؛ بل أن نفارق أوطاننا ونَصْبِر على الغربة وشدة المعيشة خيرٌ من أن نضيع أحسابنا ونخضع للعدو الذي نحن أشرفُ منه؛ مع أن البوم لو عرضنا ذلك عليهنَّ لما رضين منا إلا بالشطط. ويقال في الأمثال: قارب عدوك بعض المقاربة لتنال حاجتك، ولا تقاربه كل المقاربة فيجترئ عليك، ويضعف جندك، وتذلَّ نفسك. ومَثَلُ ذلك مَثَلُ الخشبة المنصوبة في الشمس: إذا أملتها قليلاً زاد ظلها، وإذا جاوزت الحد في إمالتها نقص الظل. وليس عدونا راضياً منا بالدُّون في المقاربة. فالرأي لنا ولك المحاربة.

قال الملك للخامس: ما تقول أنت؟ وماذا ترى؟ القتال أم الصلح أم الجلاء عن الأوطان؟ قال: أما القتال فلا سبيل للمرء إلى قتال من لا يقوى عليه، وقد يُقال: إنَّه من لا يعرف نفسه وعدوه، وقاتل من لا يقوى عليه، حمل نفسه على حتفها، مع أن العاقل لا يستصغر عدواً، فإن من استصغر عدوه اغترَّ به، ومن اغترَّ بعدوه لم يسلم منه. وقد استشرتني في أمر جوابك مني عنه، في بعضه علانية، وفي بعضه سرٌّ. وللأسرار منازل: منها ما يدخل فيه الرهط، ومنها ما يستعين فيه بالقوم، ومنها ما يدخل فيه الرجلان. ولست أرى لهذا السرِّ على قدر منزلته أن يشارك فيه إلا أربع آذان ولسانان. فنهض الملك من ساعته، وخلا به، فاستشاره، فقال: أما القتال فقد علمت رأيي فيه أيها الملك، ولكن عندي من الرأي والحيلة غير القتال ما يكون فيه الفرج. أريد من الملك أن ينقرني على رؤوس الأشهاد، وينتف ريشي وذنبي؛ ثمِّ يطرحني في أصل هذه الشجرة، ويرتحل الملك هو وجنوده، فأرجو أني أصبر وأطلع على أحوال البوم، ومواضع تحصينهم وأبوابهم، فأخادعهم وآتي إليكم لنهجم عليهم. قال الملك: أتطيب نفسك لذلك؟ قال: نعم، وكيف لا تطيب نفسي لذلك وفيه أعظم الراحات للملك وجنوده؟ ففعل الملك بالغراب ما ذكر؛ ثمَّ ارتحل عنه.

فجعل الغراب يئن ويهمس حتى رأته البوم وسمعته يئن؛ فأخبرن ملكهن بذلك، فقصد نحوه ليسأله عن الغربان. فلما دنا منه أمر بوماً أن يسأله فقال له: من أنت؟ وأين الغربان؟ فقال: إني أحسبك ترى أن حالي حال من لا يعلم الأسرار. فقيل لملك البوم: هذا وزير ملك الغربان وصاحب رأيه؛ فسأله بأي ذنب صنع به ما صنع؟ فسُئل الغراب عنه أمره فقال: إن ملكنا استشار جماعتنا فيكن، وكنت يومئذ بمحضر من الأمر؛ فقال: أيها الغربان، ما ترون في ذلك؟ فقلتُ: أيها الملك لا طاقة لنا بقتال البوم، لأنهن أشد بطشاً، وأحدُّ قلباً منّا. ولكن أرى أن نلتمس الصلح؛ ثمَّ نبذل الفدية في ذلك؛ فإن قبلت البوم ذلك منّا، وإلا هربنا في البلاد. وإذا كان القتال بيننا وبين البوم كان خيراً لهم وشراً لنا، فالصلح أفضل من الخصومة. وأمرتهن بالرجوع عن الحرب؛ وضربت لهم الأمثال في ذلك؛ وقلتُ لهنَّ: إن العدو الشديد لا يردُّ بأسه وغضبه مثل الخضوع له. ألا ترين إلى الحشيش كيف يسلم من عاصف الريح للينه وميله معها حيث مالت؟ فعصينني في ذلك؛ وزعمن أنهنَّ يردن القتال واتهمنني فيما قلت، وقلن: إنك قد مالأت البوم علينا؛ ورددن قولي ونصيحتي، وعذبتني بهذا العذاب. وتركني الملك وجنوده وارتحل. ولا علم لي بهنَّ بعد ذلك.

فلما سمع ملك البوم مقالة الغراب قال لبعض وزراءه: ما تقول في الغراب؟ وما ترى فيه؟ قال: ما أرى إلا المعالجة له بالقتل، فإن هذا أفضل عُدَدِ الغربان، وفي قتله لنا راحةٌ من مكره، وفقده على الغربان شديد. ويُقال من ظفر بالساعة التي فيها ينجح العمل، ثمَّ لا يعالجه بالذي ينبغي له، فليس بحكيم، فإن الأمور مرهونة بأوقاتها. ومن طلب الأمر الجسيم، فأمكنه ذلك، فأغفله، فاته الأمر؛ وهو خليق ألا تعود له الفرصة ثانية. ومن وجد عدوه ضعيفاً ولم ينجز قتله، ندم إذا استقوى ولم يقدر عليه. قال الملك لوزير آخر: ما ترى انت في هذا الغراب؟ قال: أرى ألا تقتله، لأنه رأى من أصحابه ما تراه، فهو خليق أن يكون دليلاً لك على عوراتهم، ومعيناً لك على ما فيه هلاكهم، فإن العدو الذليل الذي لا ناصر له أهل لأن يستبقى ويرحم ويصفح عنه، لا سيما المستجير الخائف فإنه أهل لأن يؤمن. والعدو، إذا صدرت منه المنفعة، ولو كان غير متعمد لها، أهل لأن يصفح عنه بسببها.

لم يلتفت ملك البوم لقول وزراءه، ورفق بالغراب، ولم يزدد له إلا إكراماً، حتى إذا طاب عيشه، ونبت ريشه، واطلع على ما أراد الاطلاع عليه، راغ روغة. فأتى أصحابه بما رأى وسمع. فقال لملك الغربان: إني قد فرغت مما كنت أريد، ولم يبق إلا أن تسمع وتطيع، قال له: أنا والجند تحت أمرك، فاحتكم كيف شئت. قال الغراب: إن البوم في جبل كثير الحطب، وفي ذلك الموضع قطيع من الغنم، مع رجل راع؛ ونحن مصيبون هناك ناراً، ونلقيها في أنقاب البوم، ونقذف عليها من يابس الحطب، ونتراوح عليها ضرباً بأجنحتنا، حتى تضطرم النار في الحطب، فمن خرج منهنَّ احترق ومن لم يخرج مات بالدخان موضعه. ففعل الغربان ذلك، فأهلكن البوم قاطبة، ورجعن إلى منازلهنَّ سالمات آمنات.

ثمَّ أن ملك الغربان قال لذلك الغراب: كيف صبرت على صحبة البوم، ولا صبر للأخيار على صحبة الأشرار؟ فقال الغراب: إنَّ ما قتله أيها الملك لكذلك. ولكن العاقل إذا أتاه الأمر الفظيع العظيم الذي يخاف من عدم تحمله الجائحة على نفسه وقومه، لم يجزع من شجة الصبر عليه، لما يرجو من أن يعقبه صبره حسن العاقبة وكثيرَ الخير فلم يجد لذلك ألماً، ولم تكره نفسه الخضوع لمن هو دونه، حتى يبلغ حاجته، فيغتبط بخاتمة أمره، وعاقبة صبره. فهذا مثل أهل العداوة الذين لا ينبغي أن يغتر بهم؛ وإن هم أظهروا تودداً وتضرعاً.