خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وانعطافها الحاد نحو اليمين / 2-2


حسين علوان حسين
2020 / 2 / 22 - 23:51     

سحق يسار حزب العمال
لم تكن سياسة حزب العمال الهزيلة بشأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي هي السبب الوحيد وراء انهيار شعبيته عند المقترعين ، و انما يجب تبريز سببين اثنين آخرين ، على وجه الخصوص .
أولاً ، على الرغم من أن البرامج الاقتصادية لحزب العمال كانت قد نالت شعبية رائجة بين أوساط العمال والشباب ، إلا أن القلة من هؤلاء كانت تؤمن بقدرة هذا الحزب على تحقيقها لهم فعلاً . فلقد وعد حزب العمل بزيادة الضرائب على الأغنياء وعلى أرباح الشركات بشكل ملحوظ ؛ و بتأميم شركات السكك الحديدية والمياه والبريد والكهرباء ؛ و بإجبار الشركات الكبيرة على تحويل ملكية 10 بالمائة من أسهمها إلى الموظفين ؛ وبفرض سقف محدد على الإيجارات وزيادة حقوق المستأجرين ؛ وبإطلاق 400 مليار جنيه إسترليني (1 جنيه إسترليني = 1.3 دولار) للصندوق الوطني للتحول لتمويل الانتقال إلى اقتصاد خالٍ من الكربون و "لترقية جميع المنازل البالغ عددها 27 مليون منزل في المملكة المتحدة إلى أعلى معايير كفاءة الطاقة" ؛ وبإنشاء صندوق تحول اجتماعي بقيمة 150 مليار جنيه استرليني لإصلاح أو استبدال المدارس والمستشفيات المتداعية ؛ وباقتراض 250 مليار جنيه إسترليني لتمويل بنك الاستثمار الوطني ؛ وبزيادة الحد الأدنى للأجور ومعاشات موظفي الدولة وغيرهم من التحويلات الاجتماعية زيادة حادة ؛ و بتوفير الرعاية المجانية لمدة 30 ساعة لجميع الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين سنتين إلى أربع سنوات ؛ و بإلغاء الرسوم الدراسية وتقديم منح الصيانة لطلاب الجامعة ؛ وبغير ذلك الكثير.
كانت الرغبة في ربح قائمة التسوق هذه ليست محلاً للشك ، إنما كان مصدر الشك يكمن في مصداقيتها بحد ذاته . فقد شعر الكثيرون ، لسبب وجيه ، بأن محاولات تنفيذ كل هذه الوعود من شأنها أن تؤدي إلى هروب رأس المال و إلى انهيار الجنيه ، الأمر الذي سيدفع باقتصاد المملكة المتحدة الهش بالفعل إلى دوامة أزمة عميقة ، مما يؤدي إلى تكثيف التقشف وليس إلى إنهائه .
كان معدل سعر الفائدة على الإقراض الرسمي لبنك إنجلترا قد بلغ نسبة ( 0.75٪ ) ، وهو معدل سلبي (أي أقل من الصفر بالمائة) بمجرد أخذ نسبة التضخم بعين الاعتبار. و هذا المعدل هو الأقل طوال الأربعة قرون من وجود هذا البنك . و تؤشر أسعار الفائدة هذه المتدنية للغاية في المملكة المتحدة وفي جميع البلدان الإمبريالية الأخرى إلى أقصى عمق بلغته الأزمة البنيوية للرأسمالية – أنها "سوبرنوفا تنتظر الانفجار" ، على حد تعبير تاجر السندات "بيل غروس" . ومع ذلك ، بالنسبة لليسار العمالي ، فإن أسعار الفائدة المنخفضة للغاية هذه لم توهج عندهم الضوء الأحمر الوامض ، بل عدَوها الضوء الأخضر الذي يدعوهم إلى اقتراض المبالغ الضخمة من المال من أولئك الذين يملكون ، أي من الرأسماليين . و التاريخ يعلمنا ، مثلما حصل على سبيل المثال اليونان في عهد حكومة سيريزا ، أنه كلما تم الطلب لاقتراض المال من طرف حكومة لا يثق الرأسماليون بها ، فإن من المؤكد أن هؤلاء الرأسماليين سيطالبون بسعر فائدة عال كهامش تأميني ضد المخاطر ، وهو الامر الذي من شأنه تدمير المالية العامة وتدمير الأحلام الإصلاحية .
لو ان كوربين وأنصاره كانوا قد أبدوا أي شك في أن الرأسماليين البريطانيين سيوافقون سلمياً على برنامج الإصلاحات الجذرية هذا ، لما سمحوا لأنفسهم بإطلاق كل تلك البرامج . كما أنه لا يمكنك أن تقود الناس إلى المعركة من خلال التظاهر بكونها ليست معركة حقيقية . فبعد أن خسروا عقوداً جراء الهزائم ، و تم خداعهم من طرف الزعماء النقابيين المتنفذين من معسولي الألسن ، وبعد أن أصيبوا بالذهول بسبب الوابل المتواصل من الدعاية الإمبريالية المضادة من طرف كل من اليسار الليبرالي واليمين القومي الأبيض ، فقد أظهر معظم العمال البريطانيين بتصويتهم في الانتخابات الأخيرة بأنهم لا يريدون محاربة حكامهم ، بل انهم يتوقون فقط إلى الفوز بدعمهم لهم . منذ القرن التاسع عشر ، سعى حكام بريطانيا الاستبداديون إلى ربط العمال في تحالف إمبريالي معهم ضد بقية العالم . و في أعقاب الحرب العالمية الثانية ، على سبيل المثال ، أدت الصراعات ضد حركات التحرر الوطني المتزايدة في مستعمرات بريطانيا والمستعمرات الجديدة - وليس فقط حركة الإصلاح الاجتماعي في الداخل - إلى إقناع هؤلاء الحكام بالتنازل لمطاليب العمال بتوفير الرعاية الصحية والتعليم المجانيين لهم . كان هدفهم آنذاك هو تهدئة الطبقة العاملة وتأمين الدعم النشط من قِبل نقاباتها وقادتها السياسيين للحروب ضد الحكومات الثائرة والشعوب المتمردة في جميع أنحاء العالم . هذا العقد الاجتماعي الإمبريالي هو جوهر الديمقراطية الاشتراكية البريطانية ، بغض النظر عن كل المتغيرات نحو اليسار أو اليمين . و الآن ، وبسبب عمق الأزمة الرأسمالية الحالية ، يتحرك حكام بريطانيا لتفكيك هذا العقد الاجتماعي ، مما يدفع بالديمقراطية الاشتراكية إلى الولوج في مأزق الهبوط اللولبي .
العامل الثاني في هزيمة كوربين تمثّل بمحاولته التوفيق بين وجهات النظر المتعارضة تمامًا داخل حزب العمال حول حرية التنقل و حول مجموعة واسعة من القضايا المثيرة للجدل الأخرى ، مما أدى ، في الممارسة العملية ، إلى تخليه عن مبادئه المعلنة والاستسلام للجناح اليميني في حزبه .
لقد أمضى جيريمي كوربين - الذي يصف نفسه بوضوح بأنه "اشتراكي ديمقراطي" وليس "ديمقراطياً اشتراكياً" - حياته السياسية كلها بصفته منشقًا في الجناح اليساري لحزب العمال ، حيث اكتسب سمعة عريضة باعتباره معارضًا ثابتًا للحروب الإمبريالية ، بما في ذلك تلك التي شنتها حكومات حزب العمال نفسها ، وكمدافع عن حقوق الفلسطينيين وغيرهم الذين يكافحون العنصرية والإمبريالية في جميع أنحاء العالم . و لقد اجتاح زعامة حزب العمال في عام 2015 من خلال تدفق العمال والشباب الذين انتفضوا بسبب مشاركة بريطانيا في الغزو الذي قادته الولايات المتحدة ضد العراق في عام 2003 والأزمة المالية العالمية التي اندلعت في عام 2008 والتي كان مركزها هو لندن - نيويورك - و كل واحد من هذين الحدثين حصل في ظل حكومات حزب العمال بقيادة الديمقراطيين الاشتراكيين اليمنيين الصريحين المؤيدين للإمبريالية .
و بسبب من أن كوربين لا يمكن الوثوق به في الدفاع عن مصالح بريطانيا الإمبريالية الواسعة في الشرق الأوسط و في أماكن أخرى ، فقد تم إطلاق حملة واسعة - شارك فيها سياسيون يمينيون داخل حزب العمال نفسه ومعهم جميع وسائل الإعلام المطبوعة والإذاعية بالكامل والسفارة الإسرائيلية والشخصيات الرئيسية داخل المؤسسة البريطانية – لاتهامه هو و يسار حزب العمل بمعاداة للسامية . و من المعلوم أن كراهية اليهود هي تهديد مميت بالفعل ، ويعلمنا التاريخ أنها تزدهر في زمن الأزمة الرأسمالية البنيوية ، كما هي الحال الآن ، عندما يحوّل الديماغوجيون في كل من اليسار واليمين غضب العمال والمحرومين ضد الطبقة الرأسمالية ككل إلى الغضب ضد الرأسماليين اليهود فقط دون غيرهم . كما يتم دعم معاداة السامية أيضًا من قِبل القوميين البرجوازيين في الشرق الأوسط المستائين من تساهل الإمبرياليين مع إسرائيل و الراغبين في أن يعاملوا بالمثل . إذاً ، معاداة السامية ليست هي حكراً عن الجناح اليميني الفاشي . على العكس من ذلك ، فإن عدوى سمها قد أصابت اليسار والحركة العالمية تضامنا مع الشعب الفلسطيني المضطهد بوحشية .
إن التحليل المفصل لهذا الموضوع يقع خارج نطاق هذه المقالة . و لكن ما تجب الإشارة إليه هنا هو ذلك العجز التام لكوربين و ليسار حزب العمال في الدفاع عن أنفسهم . للقيام بذلك ، كان لابد من التثقيف الذاتي و للحركة الأوسع حول طبيعة معاداة السامية ولماذا تصبح ضارية في أوقات الأزمات بالذات . و لفضح رياء من يتهمونهم بها ، كان ينبغي ليسار حزب العمال أن يتحول للهجوم من خلال الكشف عن التاريخ البائس للإمبريالية البريطانية في الشرق الأوسط ، و بضمن ذلك و بشكل حاسم ، تورط بريطانيا في المحرقة عندما أغلقت بريطانيا بابها في وجه اللاجئين اليهود خلال ثلاثينيات القرن العشرين . و في وقت لاحق ، أثناء اندلاع الحرب العالمية الثانية ، فقد قمع ونستون تشرشل أنباء الإبادة الجماعية لأنه كان لا يريد أن يصرف الانتباه عن حروب بريطانيا الاستعمارية في شمال إفريقيا وبورما . لكن كوربين وحزب العمل اليسار لم يفعلوا أي شيء من هذا . منذ اللحظة التي انتخب فيها زعيماً لحزب العمل فقد توقف كوربين عن الحديث عن فلسطين ، كما التزم الصمت التام حيال الانتقادات الصاخبة ضد سجله الشخصي في التحدث علنا ضد انتهاك الجيش البريطاني لحقوق الإنسان وتواطؤ هذا الجيش مع فرق الموت شبه العسكرية في إيرلندا الشمالية ، و كذلك ضد سجله في دعم الحكومات المناهضة للإمبريالية في أمريكا اللاتينية .
إذا ما هو التالي؟
تمر الآن أزمة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بمرحلة من السكون المؤقت . غير أن المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي حول العلاقة التجارية الدائمة معه ، ومع الولايات المتحدة بشأن صفقة تجارية جديدة معها ستكونان أكثر إثارة للمشاعر من تلك التي تؤدي إلى خروج بريطانيا.
لا شك في أن الركود الاقتصادي في بريطانيا سوف يتفاقم بسبب تعطل التجارة مع الاتحاد الأوروبي باعتباره الوجهة لأكثر من ( 40٪ ) من صادرات المملكة المتحدة . و سوف تؤدي القومية الاقتصادية والحنين إلى الإمبراطورية إلى متغيرات أكثر قسوة .
و لقد وجه خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ضربة قاسية لهيمنة بريطانيا على إيرلندا الشمالية ، حيث عادت المطالبة بإعادة توحيد إيرلندا الآن بقوة إلى جدول الأعمال ، كما أدى إلى تباعد اسكتلندا عن إنجلترا . و ستزداد المطالب بإجراء الاستفتاء الثاني على الاستقلال الاسكتلندي . المملكة المتحدة تتفكك – و هذا سبب للاحتفال ، وليس للحداد !
و انتهت محاولة كوربين لتحويل حزب العمل إلى حزب اشتراكي بالفشل . إن الديمقراطية الاشتراكية في بريطانيا - كما في فرنسا وألمانيا وإيطاليا واليونان وغيرها من الديمقراطيات الإمبريالية - قد ماتت و بان العقم في محاولات إنعاشها . و يجب الاحتفال بهذا الموت ، وليس الحداد عليه . و يجب على الحركة الاشتراكية أن تكون أممية ومعادية للإمبريالية وثورية ، وإلا فإنها ليست اشتراكية ولا يمكنها أن تتقدم إلى الأمام .

تم المقال .