إشكالات التنبؤ العلمي


هشام غصيب
2020 / 2 / 17 - 21:00     


تتمتّع النظرية العلمية بقدرة تنبّؤية هائلة لا مثيل لها. واختبار التنبّؤات هو الوسيلة الرئيسية لاختبار صحة النظريات. لكنّ التحقق من التنبؤ قد يستغرق وقتاً طويلاً وتوافر شروط قد لا تتوافر إلّا بعد مرور سنوات عديدة وربما قرون. ولنأخذ نظرية النسبية العامة على سبيل المثال. لقد وُضِعت هذه النظرية عام 1915، وتنبّأت أنّ الجاذبية تؤثّر على الأشعة الضوئية بطريقة معينة وبزاوية معينة.

وجاء التحقّق من ذلك بعد أربع سنوات من هذا التنبّؤ. وبعد بضعة أشهر من وضع هذه النظرية، تنبّأت النظرية رياضياً بوجود الثقوب السوداء. لكنّ التحقّق من صحة هذا التنبّؤ لم يتم قبل مرور أكثر من نصف قرن عليه. وفي العام ذاته، أي عام 1916، تنبّأ آينشتاين بوجود أمواج جاذبية. ولم يتسنَّ للبشرية أن تتحقّق من ذلك إلّا بعد مرور قرن كامل من الزمان.

ولنأخذ مثالاً آخر من حقل ميكانيكا الكونتم. عام 1924، تنبّأ الفيزيائي الفرنسي، لوي دي بروي، أن الإلكترونات تسلك سلوك الأمواج تحت ظروف تجريبية معينة، واقترح معادلة معيّنة تربط الخصائص الموجية للإلكترون بالخصائص الجسيميّة. وبالفعل جاء التحقّق من ذلك بعد مضي عامين فقط على طرح التنبّؤ. وفي عام 1928، تنبّأ الفيزيائي البريطاني، بول ديراك، بوجود نقيض المادة أو ضدّها. وفي عام 1932، وجد الفيزيائي الأميركي، أندرسون، نقيض الإلكترون، وهو ما اصطلح على تسميته البوزترون. وفي عام 1930، تنبّأ الفيزيائي النمساوي، باولي، والفيزيائي الإيطالي، فيرمي، بوجود جسيم أولي جديد سميَّ لاحقاً النيوترينو. وبالفعل، تمّ العثور عليه تجريبياً عام 1956. وفي عام 1964، تنبّأ كلٌّ من الفيزيائي الأميركي، غيلمان، والفيزيائي الروسي، جورج زفايغ، بوجود جسيمات أوليّة تتكوّن منها البروتونات والنيوترونات. وسُميّت هذه المكوّنات الأساسية الكواركات. وجاء أول دليل على وجودها في داخل البروتونات والنيوترونات عام 1968. ولا ننسى هنا تنبّؤ الأميركي واينبرغ والباكستاني عبد السلام بوجود جسيمات تنقل القوّة النووية الضعيفة وتتراوح كتلة الواحدة منها بين 80 إلى 90 مرّة قدر كتلة البروتون. وبالفعل، تمّ العثور عليها في جنيف بعد مضي 15 عاماً على طرح التنبّؤ. ولا بدّ من أن نذكر هنا بوزون هغز، وهو الجسيم الأولي الذي يكسب الجسيمات الأوليّة الأخرى كتلها. فقد تم التبؤ بوجوده في مطلع ستينيّات القرن الماضي من جانب عدد من العلماء، وفي مقدّمهم بيتر هغز السكتلندي وإنغلير البلجيكي. واحتاج التحقّق من وجوده إلى أكثر من نصف قرن عندما توافرت الشروط التجريبية لذلك في مسرع سيرن في جنيف.

والمشكلة هنا أنّ النظرية تستطيع أن تتنبّأ بظاهرة ما، لكننا لا نستطيع أن نعرف مسبقاً متى يمكن أن نتحقّق من ذلك وكم من الوقت سيمضي قبل التحقّق منها. وعلى سبيل المثال، برزت في النصف الثاني من القرن العشرين نظرية تدعى نظرية التناسق الفائق (السوبرسيميتري). وتنبّأت هذه النظرية بوجود حشد من الجسيمات الأوليّة المناظرة للجسيمات المعروفة والتي تتّسم بكتل كبيرة بالنسبة إلى الجسيمات المعروفة. وكان الأمل معقوداً على مُسرّع سيرن في جنيف للكشف عن وجودها. لكن، حتى الآن، لم يتم الكشف عن أيٍّ منها. ولا نعلم بالضبط ما إذا كانت موجودة أم لا، ولا نستطيع أن نجزم بصددها سلباً أم إيجاباً. وقد تمتدّ حالة عدم اليقين هذه لمدة طويلة. ولدينا أيضاً فكرة الأكوان المتعدّدة، تلك الفكرة الغريبة التي تتنبّأ بها كلٌّ من نظرية التضخّم الكونيّ ونظرية الأوتار الفائقة. ويبرز التساؤل الملّح: هل سوف نتمكّن من التحقّق من هذه الفكرة ولو بعد مدة طويلة؟ أم إن هناك استحالة لمثل هذا التحقّق؟ وإذا كان هناك استحالة لذلك، فهل تعد فكرة علمية مشروعة؟ وهل علينا أن ننتظر لمدة غير محدّدة للتحقّق منها؟. لكنّنا لا نستطيع أن نتجاهل هذه الفكرة لأنها تنبع من أطر نظرية مُختبَرة في جانب منها. وعليه، نرى أن مسألة التنبّؤات العلمية مسألة شائكة ويتخلّلها الكثير من الإشكالات العلمية والفلسفية.

وارتكازاً لهذه القدرة التنبّؤية المذهلة التي يتمتّع بها العلم، يتميّز العلم عن غيره من المنتجات البشرية ويُكسب الإنسان قوّةً كونيّةً استثنائية، ويفتح آفاقاً لانهائية أمام الإنسان تُكسبه إمكانية أن يكونَ سيّدَ الكون بلا منازع.