ورقة للإصلاح أم لتشريع الفساد والظلم الاجتماعي؟


كميل داغر
2006 / 6 / 4 - 09:36     

المشروع الاقتصادي - الاجتماعي، للأكثرية النيابية والحكومية الراهنة، والذي يعبر عنه ما أطلقت عليه حكومة السنيورة الحالية تسمية "الورقة الاصلاحية"، ليس في جوهره مشروعاً جديداً لهذه الحكومة، تحديداً، بل هو يندرج في سياق طويل يعود إلى السيرورة التي كانت قد أطلقتها حكومات رئيس الوزراء الراحل، رفيق الحريري، منذ أوائل التسعينيات من القرن الماضي، واستمرت في تحركها، المتعثر أحياناً، ولكن الدائب والمثابر، حتى الغياب المدّوي للرئيس المذكور. وهي سيرورة واعية بدأت مع جملة من الخطوات والتدابير المتكاملة، التي يسند بعضها بعضاً، والتي جرى البدء باتخاذها منذ الحكومة الحريرية الأولى في خريف عام 1992. وكان بين أهمها الشروع في سياسة الاستدانة بلا حدود، بحجة الإعمار ومتطلباته، وذلك بالتلازم مع التضييق على الحريات الديمقراطية ومنع التظاهر؛ والتجريد التدريجي لكادحي البلد وطبقاته الشعبية، وحتى الوسطى، من المكاسب الاقتصادية والاجتماعية التي كانت نجحت في تحقيقها في ظروف عالمية وإقليمية ومحلية سابقة؛ وضرب أدوات طبقية أساسية، ولا سيما الحركة النقابية، متمثلة بالاتحاد العمالي العام ، مع السعي الحثيث للسيطرة أيضاً على أدوات نقابية أخرى، في مجال التربية والتعليم، وسواء في التعليم الابتدائي والثانوي أو في التعليم الجامعي، أو على الأقل شلها.
كل ذلك في حين كان هنالك مسعى متواصل أيضاً لإحداث تغيير عميق في موازين القوى داخل الطبقة السائدة على المستوى الاقتصادي، وذلك لصالح دور ساحق للبرجوازية المصرفية والمالية بشكل عام، التي نجحت في اقتطاع حصة الأسد من أرباح السياسة الاقتصادية الجديدة، كما عبرت عن ذلك عملية رفع أسعار الفائدة على الديون إجمالاً، وعلى سندات الخزينة بوجه اخص، إلى حدود جنونية، تجاوزت في إحدى المراحل نسبة الأربعين بالمئة . وبالطبع كان ذلك كله يخدم عملية الانخراط المحلي في النهج الاقتصادي النيوليبرالي، الذي عرف اندفاعته القصوى ، عالمياً، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والدول التي كانت سائرة في فلكه، مع ما رافق ذلك من انطلاق جامح للعولمة الرأسمالية كانت احدى محطاته البارزة توقيع اتفاقية الغات في العام 1994.


"الورقة الاصلاحية " في بنودها الأساسية
في حين يظهر ، أكثر فأكثر، على مستوى عالمي، مأزق الانخراط في السياسة النيوليبرالية وما أدى إليه ذلك من كوارث اجتماعية، وحتى اقتصادية، ولا سيما في البلدان النامية والمتخلفة، مع إعادة نظر قسرية في هذه السياسة في العديد من البلدان أو الاضطرار تحت الضغط الشعبي والنقابي للعدول عن جوانب أساسية فيها - كما حصل أخيراً في فرنسا حيث نزل الملايين إلى الشوارع دفاعاً عن ديمومة العمل – تطرح الورقة صراحة توجه أصحابها إلى اعتمادها، جملة وتفصيلاً. وهي لا تجد غضاضة في الإشارة إلى أن ذلك يتم بالتنسيق الوثيق مع المؤسسات المالية الدولية، كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي. ونحن ننقل أدناه حرفياً اعتراف الورقة بهذا الواقع، حيث ورد، على سبيل "المثال" لا الحصر:
أ – في البند 14: "وبمناسبة مناقشة المادة الرابعة التشاورية، كانت توصيات صندوق النقد الدولي متماشية إلى حد كبير مع برنامج الاصلاح ...الخ".
ب – في البند 20:" وبمساعدة البنك الدولي ستحدد الحكومة، على مدى السنوات الثلاث المقبلة 2006 – 2008، هذا الفائض من العمالة وتصمم التعويضات المناسبة (...)".
ج – في البند 57:"وفي قطاعي الصحة والتعليم، يعمل البنك الدولي في شراكة مع الحكومة بشأن رزمة إصلاحات تركز على قضايا أساسية(...).
هذا ويعتبر واضعو الورقة والمدافعون عنها أن "البرنامج رزمة متكاملة ينبغي اعتمادها بالكامل"، ويضيفون أن "ترك احد عناصر الرزمة يعرّض نجاح البرنامج بأكمله للخطر".

وهذا يطرح علامات استفهام كبرى، بالتالي، حول مدى صدق الحكومة الحالية حين عمدت - تحت ضغط الاحتجاج الشعبي الكبير الذي سبق، ثم رافق، مظاهرة 10 أيار الحاشدة الأخيرة (أكثر من أربعمائة ألف متظاهر، في الواقع، و250 ألفا باعتراف وزير الداخلية!) – إلى تأكيد سحبها أكثر من عنصر في هذا البرنامج، وبالتحديد مسألة التعاقد الوظيفي، من جهة، والضرائب الجديدة، من جهة أخرى. وقد كان رئيس رابطة أساتذة التعليم الثانوي الرسمي، حنا غريب، على حق، حين أعلن في الكلمة التي ألقاها خلال التظاهرة ، باسم هيئة التنسيق النقابية، وحدد فيها جملة مطالب تؤدي استجابتها إلى إلغاء جوانب حاسمة في الورقة الاصلاحية، أن ثمة اهمية قصوى "لإلغاء مشروع التعاقد الوظيفي نهائياً وفي كل الفئات الوظيفية ، وليس فقط سحبه من التداول لكي يعودوا مرة أخرى ويطرحوه مجدداً(...)"
وفي كل حال، سوف نقتصر أدناه على تحليل العناصر الأهم والأشد خطورة في الورقة المشار إليها، وهي التالية:

1 – الخصخصة:
لقد كان هذا العنصر جوهرياً جداً في برامج الحكومات الحريرية السابقة. وقد عجزت تلك الحكومات عن المضيّ به بعيداً، بسبب الخلافات التي استعرت في ما بين الرئاستين الأولى والثالثة، سواء حوله هو بالذات أو حول نقاط برنامجية أخرى. وهو يعود ليتصدر الآن "الورقة الاصلاحية" لحكومة السنيورة، في ظروف جديدة، بعد خروج الجيش السوري من لبنان وتراجع هيمنة دمشق على الحياة السياسية والاقتصادية في لبنان، وإحلال هيمنة أخرى محلها ( اميركية بوجه خاص ، وغربية عامة).
وقد كانت الورقة المذكورة واضحة تماماً في اعتبارها أن "خطط الخصخصة جزء لا يتجزأ من خطة الإصلاح وتندمج جيداً في نية الحكومة الأوسع إعادة تعريف دور الدولة في الاقتصاد". والمقصود هو انتزاع أي دور تدخلي جدي لها في الحياة الاقتصادية والمالية، والقضاء تماماً على ذلك الجانب ، ولو الضئيل، من الوظيفة الحمائية ، الذي لا تزال تملكه الدولة في بلدنا، والذي يعود ببعض النفع على الطبقات الشعبية ويحول دون وقوعها عارية بالكامل إزاء هجمة الرأسمال المتوحش .
ومن الواضح أن الخطة التي تطرحها "الورقة الاصلاحية" تتوخى أقصى السرعة في تمرير جملة واسعة من تدابير الخصخصة، ربما استباقاً لتغييرات محتملة، لاحقاً، في التوازن الطبقي والاجتماعي، لغير صالح مسار من هذا النوع. فهي تشير إلى أن المصرف المركزي يخطط لبيع حصصه في كل من طيران الشرق الأوسط، وبنك انترا، وكازينو لبنان على مدى السنوات الثلاث القادمة" ( أي حتى نهاية 2008). وتعتبر كذلك أن "الخصخصة في قطاع الاتصالات السلكية واللاسلكية احد العناصر الرئيسية في البرنامج" (...)، وأن "الحكومة ملتزمة أيضاً بخصخصة شركة ليبان تيليكوم للخطوط الثابتة بحلول منتصف عام 2007 (...)".
أكثر من ذلك، وبعد التذكير بأنه تم وضع الإطار القانوني لخصخصة قطاع الطاقة في العام 2002، تتم الإشارة إلى أن الخطط الحالية لشركة الكهرباء تقضي بمشركة (Corporatization) التوليد والنقل والتوزيع بحلول منتصف العام الحالي 2006. كما سيتم عرض مصفاتي التكرير العام للنفط في طرابلس والزهراني للبيع للمستثمرين الخاصين، على أن يتم قيام الحكومة بجرد صوامع الحبوب، تمهيداً لخصخصتها، في تاريخ لاحق.
وهو برنامج حافل لبيع أفضل القطاعات المنتجة، والقادرة على توفير أموال طائلة للخزانة العامة، لو جرى الاحتفاظ بملكيتها للدولة، ولكن مع فرض رقابة جدية ومشددة على تسييرها يلعب على صعيدها العاملون فيها دوراً أساسياً، بما يحول دون استمرار الفساد والنهب والهدر فيها.
وبالطبع، فالمعلومات المتسربة من داخل هذه القطاعات، والانطباعات المتوفرة عن استعدادات القوى المسيطرة داخل الدولة الراهنة، تعطي صورة قاتمة جداً عن الشروط التي ستتم ضمنها عملية الخصخصة، والتي سيتكرر وفقاً لها ما حدث في الكثير من البلدان التي لجأت إلى تدابير مشابهة، بحجة ضرورة دفع أجزاء أساسية من الدين العام، من أعمال بيع يشوبها الغش والتزوير والتلاعب والحصول على عمولات ضخمة، وذلك من دون أن تؤدي أعمال الخصخصة تلك إلى تسديد أجزاء جدية من تلك الديون، أو إحداث خفض حقيقي لنفقات خدمتها.
بمعنى آخر، إذا كان "البرنامج الاصلاحي" يشدد في أكثر من بند من بنوده على التوجه الحاسم لضرب الفساد او تقليصه على الأقل، في سياق عملية الخصخصة تلك، فإن ما سيحصل عملياً إنما هو إضفاء الشرعية على هذا الفساد، تحت غطاء العقود القانونية التي سيتم البيع وفقاً لها؛ فضلاً عن حرمان الدولة، والفئات الشعبية إجمالاً، من مصادر دخل ثابتة ودائمة هي تلك التي يشكلها ، في الواقع، القطاع العام ، ولا سيما حين يدار وفقاً للأصول القانونية، وبصورة تتسم بالنزاهة والمحاسبة والرقابة السليمة.
هذا مع العلم أنه لا شيء سيحول لاحقاً وفيما لو تمت الخصخصة المشار إليها، دون وقوع إفلاسات في المنشآت والمؤسسات التي سوف تطولها أعمال البيع، كما حصل في الارجنتين، على سبيل المثال، في أكثر من مجال، ولا سيما على صعيد الخطوط الجوية الارجنتينية، في أوائل هذا العقد.

2 – إضفاء الهشاشة على وضع ذوي الأجر
إن "الورقة الاصلاحية" حافلة بالتدابير والتوجهات التي من شأنها إذا نجحت في المرور، بصورة أو بأخرى، أن تضفي الهشاشة، والمزيد من الهشاشة، على وضع العمال والموظفين، والمستخدمين وغيرهم من ذوي الأجر. ونحن نورد أدناه، وإن دون الكثير من التفصيل، بعضاً من هذه التوجهات، التي بين أهمها:
أ – التعاقد الوظيفي
على الرغم من وعد وزير المال، من جهة، ورئيس الوزراء الحالي أيضاً، من جهة اخرى، بسحب "التعاقد الوظيفي" من التداول، فليس ثمة ما يؤكد ذلك بصورة جازمة. وقد أوضح هذا الواقع عضو الهيئة التنفيذية لأساتذة الجامعة اللبنانية، الدكتور عصام خليفة في بيان له بعد مظاهرة 10 أيار الأخيرة، حين أوضح التالي (انظر السفير 13 أيار):
"أما التعاقد الوظيفي فبدأ العمل به في عدد من مباريات مجلس الخدمة المدنية، وثمة مشروع قانون للفئة الأولى اقره مجلس الوزراء واحيل بتاريخ 9/10/2005 على مجلس النواب". وأضاف:
"إن حوار هيئة التنسيق مع رئيس مجلس الوزراء لم يؤد الى سحب مشروع القانون من مجلس النواب وإلغائه، إنما كان هناك كلام عام عن سحب الموضوع من التداول للفئتين الثانية والثالثة. والمشروع الثاني الذي تمسك به رئيس الوزراء في الحوار يعطي الوزير حق تقويم اداء المتعاقد ليبقى أو يخرج من الإدارة مع العلم بان مطالعة مجلس الخدمة المدنية تعارض ذلك".
وقد كشف د. خليفة، إلى ذلك، أن المسؤولين "يتقاعسون عن تعيين عمداء لكليات الجامعة ومعاهدها منذ 17 شهراً (...) ولا يدخلون أي متعاقد للتفرغ او أي متفرغ للملاك (...)، أي انهم يطبقون التعاقد الوظيفي عملياً".
وهذا الواقع يبيّن ان المعركة ضد العناصر الأكثر خطورة في "الورقة الاصلاحية" لم تنته بعد. لا بل هي تكاد تكون بدأت. وسوف تستعمل السلطة القائمة كل ما في ترسانتها من التحايل والمراوغة لأجل تطبيق برنامجها بكامل عناصره، مثلما أوحت للجميع حين شددت على أنه كل لا يتجزأ، وعلى أن "ترك احد عناصر الرزمة يعرض البرنامج بأكمله للخطر!!"
ب – تصفية معاشات التقاعد وإلا خفضها
لقد ورد في "الورقة الاصلاحية" ان التكلفة الحالية لمعاشات التقاعد مرتفعة جداً بحسب المعايير الدولية والاقليمية، وستزداد حدتها على المديين المتوسط والبعيد إذا لم تعالج بسرعة". أما بخصوص معاشات القطاع الخاص التقاعدية فهي، وفقاً لما ورد فيها، "لا تسهل الانتقال بين الوظائف وتفرض عبئاً ثقيلاً على كامل أصحاب العمل." وهي (أي الورقة..) تعترف بأن "النظام الجديد سيقدم المعاشات التقاعدية الأدنى". ومن الواضح أنه إذا نجح مشروع "التقاعد الوظيفي" في المرور، فذلك يعني إلغاء التقاعد بالكامل على صعيد الوظيفة العامة، بينما سيكون بقاؤه أو زواله في القطاع الخاص مرتهناً بموازين القوى الطبقية في المرحلة القادمة، وبتطورها المحتمل في هذا الاتجاه أو ذاك.
ج – تعديل قانون العمل لصالح ما يسمونه "المرونة في سوق العمل"، وبالتالي "سهولة الاستخدام أو الطرد". وبيت القصيد الحقيقي هو هنا، تحديداً، أي ممثلاً بالطرد بالذات. بمعنى آخر، ثمة تلميح واضح إلى إمكان أن يجيء الوقت الذي يتم فيه تعديل المادة 50 من قانون العمل نحو إلغاء مفهوم الطرد التعسفي ومفاعيله، وذلك لصالح أرباب العمل. وهو ما يجب التنبه له منذ الآن لأجل الحيلولة دون أن يصبح واقعاً في غفلة من الزمن، وفي تاريخ لاحق.

د – زيادة ساعات العمل في القطاع العام
وهو ما ورد صراحة في "الورقة...."، بحيث يرتفع عددها من 32 ساعة إلى 35، وذلك من دون زيادة مقابلة في الرواتب. ناهيكم بالحديث جدياً عن احتمال خفض الرواتب والأجور، في القطاعين العام كما الخاص، فضلاً عن تجميدها. وفي كل هذه الحالات، ثمة اعتداء واضح على الوضع الراهن لوظائف الدولة، بوجه اخص.

ه‍ - محاكم من دون حق الاستئناف
هذا وتتحدث الورقة الاصلاحية أيضا عن دعم واختصار تنفيذ العقود القانونية عبر زيادة القضاة (...) "فتح محاكم ادعاء صغيرة دون حق الاستئناف". وهو أمر لا بد من أن تكون اليد العاملة هي الأكثر تأثراً سلبياً به، إما بسبب تقليل فرص الفوز بالحقوق أمامهم بنتيجة انبرام الأحكام البدائية بحقهم حكماً، وتغييب فرص المراجعة امام محاكم أعلى في حال الحكم لغير مصلحتهم، أو لأن اضطرارهم للمثول فقط أمام قاضٍ واحد يصعّب عليهم الركون إلى النزاهة المطلقة لديه، ويجعلهم أضعف أمامه ، بوضوح، من أرباب عملهم الحائزين شتى وسائل "الإقناع"، ولا سيما غير الشرعية بينها.
وفي شتى الحالات التي اشرنا إليها أعلاه، نلاحظ هذا الاتجاه الأكيد في برنامج السلطة الراهنة إلى إدخال المزيد من الهشاشة إلى أوضاع اليد العاملة المحلية، وباقي الحاصلين على أجر.

3 – الإصلاح الضريبي
لقد وعدت الحكومة، في المجال الضريبي، بما وعدت به ايضاً بخصوص التقاعد الوظيفي، أي بالتحديد بسحب مشروعها المتعلق بزيادة الضرائب. إلا أننا هنا أيضاً، سنكون مضطرين باستمرار إلى اعتماد موقف ثابت، قائم على عدم الثقة إطلاقاً بالوعود الحكومية.
في كل حال، إن سياسة الدولة الضريبية، كما تعلن عنها "الورقة الاصلاحية"، لا تقتصر على موضوع الزيادات، بل تتجاوزه إلى تدابير اخرى عديدة، ولا سيما بخصوص اعتماد "الضريبة الموحدة على الدخل الإجمالي"، التي تأتي في امتداد تدبير سابق اتخذته أول حكومة حريرية، في العام 1993، على هذا الصعيد، حين عمدت إلى إلغاء الجانب من قوانيننا الضريبية الذي كان يأخذ بالضرائب التصاعدية، ويؤمّن بالتالي حداً أدنى من العدالة في هذا المجال.
ولقد ترافق ذلك، مراراً، بزيادة العبء الضريبي على الطبقات الشعبية والوسطى، عن طريق الارتفاع بالضرائب غير المباشرة إلى مستويات أعلى. وهو الأمر الذي استكملته الحكومات السابقة عن طريق الضريبة على القيمة المضافة، التي اشتهرت باسم الـ (T.V.A) . وهي الضريبة نفسها التي جاءت الورقة الاصلاحية أخيراً تتوعدنا برفعها في العام الحالي من 10% إلى 12%، والى 15% في العام 2008، وإن كان وزير المال السيد أزعور، عاد فأكد التخلي عن هذا الاتجاه.
لقد "طمأنتنا" الورقة بالتأكيد إلى أن أي تغيير في السياسة الضريبية في إطار البرنامج الاصلاحي الحالي يجب أن "يسترشد بضرورة تقليل التشويهات وتعزيز المساواة والعدالة في توزيع العبء الضريبي"، مع الاستدراك بان ذلك سيتم "مع مراعاة الأهداف العريضة لهذا البرنامج". وهذا يعني ، في الواقع، إذا أخذنا بالاعتبار أن هذه الأهداف تتدرج في التحول النيوليبرالي المعروف، قطع وعود فارغة تماماً من المضمون، علماً بأن الحالة الوحيدة التي يمكن فيها تصديق تلك الوعود هي تلك المتمثلة في اعتماد الضرائب التصاعدية على الدخل، وهو الأمر غير الوارد إطلاقاً في برنامج الحكومة الذي نحن بصدده. على العكس فهو بعد أن كانت حكومة عام 1993 قد خفضت الضرائب على الأرباح إلى العشرة بالمئة، وساوت بين أصحاب الأرباح المتواضعة جداً وأصحاب الارباح الفاحشة ، جاء ليخفض هذه الضريبة مجدداً من العشرة بالمئة إلى الخمسة بالمئة، وعلى أساس مبدأ المساواة نفسه !
أما الحديث عن تحويل عبء الضريبة بشكل أساسي إلى ذوي الدخل المرتفع، فلا يعدو ان يكون، كما يقول الشاعر العربي القديم، "حديث خرافةٍ يا أم عمرو‍!، إذ امتنعت الورقة الاصلاحية عن تحديد الطريقة التي سيتم فيها ذلك.




4 – تحرير البنزين وباقي السلع
يعتبر "البرنامج الإصلاحي" للحكومة الراهنة أنه لما كانت كل الدلائل تشير إلى استمرار ارتفاع أسعار النفط، فسيتم تعديل الرسوم الضريبية تدريجياً، على أساس ربع سنوي، إلى أن تصل إلى معدلها ما قبل الحد الأقصى بحلول نهاية 2008. ويضيف: "في الوقت نفسه، سيتم رفع الحد الأقصى للسماح بالمرور الكامل للأسعار العالمية إلى أسعار التجزئة المحلية (...)". بمعنى آخر، سيؤدي ذلك عملياً إلى حدوث ارتفاعات مذهلة، لاحقاً، في أسعار البنزين والمشتقات النفطية، مع انعكاسات ذلك المدمّرة على نسبة واسعة جداً من المواطنين، من ضمن سياسة تحرير كاملة لهذه المواد الضرورية جداً للمواطن.
ومن الواضح أن هذه المسألة بدأت تنسحب من الآن لتشمل سلعاً ضرورية أخرى، لا بل بالغة الضرورة، كالخبز والطحين، وما إلى ذلك. فبعد أن كان وزير الاقتصاد قد عمد إلى اتخاذ قرار إنقاص وزن ربطة الخبز مئة غرام مع احتفاظها بالسعر عينه، عاد أخيراً (في 24/5/2006) فأصدر قراراً بتحرير الطحين بحيث يصبح بيعه يتم على أساس أسعار السوق. إن مرحلة جديدة جداً قد بدأت عنوانها الرئيسي الاستهانة كلياً بالوضع المعيشي للمواطن العادي، ولاوسع شريحة من الفقراء والمعدمين.

5 - الانضمام لمنظمة التجارة العالمية!
يقول احد الامثال المشهورة عالمياً إنه "حين يتقاتل فيلان يتأذّى العشب". ولقد نصت "الورقة الاصلاحية"، في ما نصت عليه، على ان لبنان يعمل الآن "باتجاه الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، بحلول نهاية العام 2006"، وذلك، بحسب تحليل واضعيها، "لتحسين القدرة التنافسية (لمن ضد من ؟!) وتوفير المزيد من الضمانات للمستثمرين الأجانب (كذا!) ضد المنافسة غير المشروعة".
وبالطبع، كنا لنتفهم ، إلى هذا الحد أو ذاك، اهتمام دولة عظمى (أو إذا شئتم فيل كبير) كالصين بالانضمام إلى المنظمة المشار إليها، سواء بسبب الضخامة الاستثنائية لسوقها، أو بسبب ضخامة إنتاجها وإنتاجيتها، في آن معاً، وبالتالي قدرتها الخارقة على المنافسة .
أما بخصوص لبنان الحريصة حكومته الحالية على أن يصبح ساحة للمنافسة بين بضائع بلدان العالم على اختلافها، (وبالتحديد باقي الأفيال، إذا قورنت بالإنتاج المحلي، الذي سيحرم بموجب الاتفاقية من أي دعم حكومي، للحيلولة دون ما تسميه الورقة "المنافسة غير المشروعة"!) فهو لن يكون عندئذ أكثر من عشب على حلبة تتقاتل فوقها أفيال تتفاوت ضخامة وهولاً. ولا ريب في أن هذا العشب، وفقاً لما يقوله المثل المذكور أعلاه، سوف يتأذى كثيراً!.
إن ذلك سيعني، بالتأكيد، توجيه ضربة ساحقة لكل المنتجين الوطنيين، في الزراعة، كما في الصناعة، وحتى في الخدمات، وذلك لصالح الشركات الأجنبية، مع بعض الفتات للسماسرة والوكلاء المحليين. ومن المثير للدهشة، ولكن ايضاً للاستغراب والاستنكار، الا يكون تحرك إلى الآن ضد هذا المنظور القاتل للاقتصاد المحلي، غير بعض ناشطي المجتمع المدني (كجمعية اتاك اللبنانية محدودة الإمكانيات)، ولا سيما أن "الورقة الاصلاحية" "تبشرنا" بأن آخر هذا العام بالذات هو تاريخ انضمامنا إلى المنظمة المشار إليها، أي بعد أشهر قلائل، لا أكثر!
ولقد ورد في "الورقة"، وفي البند 67 منها، في معرض الحديث عن الاهتمام بتحسين مناخ الأعمال، ان بين التدابير لتخفيف ذلك "المصادقة على قانون للمنافسة الحديثة، وإزالة حماية الدولة(...)".
إن ذلك هو أحد المخاطر الكبرى، التي يهددنا بها برنامج الرئيس السنيورة وفريقه؛ وهو إذ يطرح ذلك، تحديداً ، يكون قد تقدم خطوات كبرى، في بلد ضعيف جداً ومحدود الإمكانات الاقتصادية كلبنان، ليس فقط من "إزالة حماية الدولة" بل ايضاً من إزالة...الدولة!

6 – الحاجة القصوى للدعم الخارجي
هذا ويعتبر الفريق الحاكم، في برنامجه للمرحلة القادمة، أن استمرار التصحيح الحالي على المدى البعيد "لا يمكن من دون الدعم المالي من المجتمع الدولي"، وان المساعدات الدولية "أساسية في إيجاد دورة جيدة لخفض الديون"، وأن "دعم أصدقاء لبنان أمر بالغ الأهمية، من منح قروض ميسّرة جداً، إلى ضمانات قروض تخفض كلفة الاقتراض (...)". ويخلص إلى اعتبار انه "سيلزم إجمالي قروض تبلغ ثمانية مليارات دولار حتى يتمكن لبنان من الخروج من فخ المديونية"!!
وضمن هذا المنظور، يجري الاعداد على قدم ساق، نفسياً ومادياً وعملياً، لما يسمونه مؤتمر بيروت واحد" ، المفترض أن يكون استمراراً لكل من "باريس واحد" و"باريس 2"! مع محاولة إقناع اللبنانيين بان الفرج قادم من هناك، ومن هناك فقط!
بمعنى آخر، إن الخروج من فخ المديونية يكون، بحسب واضعي البرنامج، بالمزيد من الاستدانة، وهذا لا يمكن أن يكون غير استحماق اللبنانيين، واعتبارهم شعباً من الأغبياء، لا اكثر ولا اقل. فضلاً عن ذلك، ثمة ما يمكن استنتاجه أيضاً من هذا الحرص على إحلال ديون أجنبية محل ديون محلية هي في معظمها للمصارف اللبنانية، التي سبق أن أعلن رئيس مجلس الإنماء والأعمار، الفضل شلق، أن الجزء الأكبر من ديون الدولة ناجم عن الفوائد الفاحشة التي تقاضتها سابقاً عن اكتتابها بسندات الخزينة، وعن فوائد القروض التي سلفتها للدولة المشار إليها، ويقدر تلك الفوائد إجمالاً بـ26 مليار دولار!. إن ما يمكن استنتاجه، على هذا الصعيد، هو الخوف المحتمل من قيام محاسبة لاحقة على هذه الفضيحة غير الممكن استماح الأعذار لها، وبالتالي السعي للتعجيل في تحصيل الدائنين المحليين، ولا سيما المصارف المشار إليها، ما هو محسوب كديون لها على الدولة اللبنانية.
إن الحل الوحيد المنطقي، والوطني، والسليم لمشكلة الديون ، لن يكون إطلاقاً ببيع قطاع الدولة العام، ولا بالمزيد من الاستدانة من الخارج، ولا بأي شكل آخر من أشكال الهرب من الداء بالداء، إنه سيكون بمحاسبة حقيقية لكل الشريحة السياسية التي حكمت في الخمسة عشر عاماً الماضية ، واستعادة الأموال المنهوبة منها. وفي غضون ذلك، اتخاذ القرار الجريء بوقف دفع تلك الديون تمهيداً لإلغاء ما ينبغي إلغاؤه منها، بسبب ما يشوبه من الغش والتزوير والتحايل على القوانين. وهو أمر يتطلب بالضرورة قيام سلطة اخرى نظيفة حقاً ، وشعبية حقاً، وبالتالي غير تلك القائمة حالياً، والتي هي امتداد لما سبقها من حكومات هي المسؤولة الأساسية عن "فخ المديونية"، وفقاً للتسمية التي تطلقها "الورقة الاصلاحية". بمعنى آخر، يجب إيلاء أهمية حقيقية، واحترام حقيقي لاحد الشعارات التي رفعتها مظاهرة 10 أيار. وهو يقول:
"لا إصلاح اقتصادي من دون إصلاح سياسي" .