أحصنة طروادة


خالد صبيح
2020 / 2 / 4 - 23:15     

كل انتفاضات وثورات العالم احاطت بها مخاطر عديدة؛ تدخلات خارجية، أعداء داخليون، خصوم سياسيون، قوى منافسة، الخ. ولم تشذ انتفاضة تشرين العراقية عن هذا القدر التاريخي. فقد أحاطت بها منذ انطلاقتها مخاطر وتهديدات متنوعة، أهمها أو أبرزها اثنتان: احتمالات التدخل الخارجي؛ ومصادرة الانتفاضة أو سرقتها.

المدخل النموذجي للتدخل الخارجي، الاوربي والامريكي، باعتبار أن التدخل الايراني تحصيل حاصل ومتضمن في بنية نظام الحكم، هو في فكرة التدويل أو طلب الحماية الدولية عبر الامم المتحدة. وكل متابع للسياسة الدولية ومجريات حوادثها يعرف أن الامم المتحدة ليست منظمة مستقلة ولا يمكنها أن تلعب (= لا تستطيع) الدور الايجابي كحَكم بين أطراف متخاصمة إلا في صراعات الدول الكبرى القوية فيما بينها، أما في حالة مثل العراق فهي ستكون في كل الاحوال خاضعة لإرادة ورغبات وتوازنات القوى الدولية الكبرى المهيمنة على قراراتها، واقصى مواقفها سيكون (القلق). لذا فان الاستنجاد بالامم المتحدة لايعني سوى منح القوى الكبرى اذنا رسميا بالتدخل وفرض الارادة.

لكن التدخل الخارجي سوف لن يأخذ، في الحالة العراقية، كما يتخوف كثير ممن يسيئون الظن بالحراكات والانتفاضات الشعبية العربية، مسارا عنفيا خطيرا كما حدث في ليبيا وسورية. ويعود هذا الى أن القمع الذي واجهته الانتفاضة العراقية لم يبلغ مستوى خطيرا (يهدد بالابادة)، كما فهمه وادعاه المتدخلون في الشان الليبي والسوري، وهذا يعود بدوره الى أن السلطات العراقية لم تلجأ بعد الى العنف المفرط لأنها لم تستنفد بعد كل امكاناتها الأخرى و ( آمالها) في القضاء على الانتفاضة أو تفريغها من شحنتها التغييرية والحؤول دون تجذر مطاليبها وتوجهاتها. وهذا ليس بدافع الحكمة والرشد من هذه الاحزاب وإنما لأنها ليست مركزية القرار، أولا، ولأنها تدرك، ثانيا، بانها لو حدث وأن أصابها الخبل وأطلقت ميليشياتها لقمع الانتفاضة، وهذه ستكون وسيلتها الأخيرة للمواجهة، فانها ستُدخل نفسها في ورطة تهدد كياناتها لانها ستواجه مجتمعا مسلحا قادرا على هزيمتها. فالمجتمع العراقي مجتمع عشائري، والعشائر، كما نعرف، تفرض عليها تقاليدها حماية أبنائها.

( بالمناسبة، ان الجانب الايجابي في الطابع العشائري للمجتمع هو أنه يحمي ويضمن السلم الاهلي، لكن هذا نقاش آخر)

والاحزاب الحاكمة تعرف أن هذه العشائر مستعدة لرد الفعل وقادرة عليه خصوصا اذا ماحصلت على دعم معنوي يزكي لها استعدادها الطبيعي في حماية أبنائها، وهذا الدعم ستوفره لها، على الأغلب، مرجعية النجف التي دأبت على الانحياز الى جمهورها العام ( والمنتفضون جزء منه) وإن شاب هذا الانحياز بعض المداراة لأحزاب السلطة حفاظا على توازن الموقف وحمايةً للسلم الاهلي.

لهذا من الصعب أن يتكرر السيناريو الليبي – السوري في العراق. لكن التدخل الخارجي ليس له شكل واحد، وإن كان العنف، عبر التدخل العسكري، هو أبشع وأخطر أشكاله، فهناك أساليب أخرى، ناعمة، لهذا التدخل، والقوى الدولية لديها قدراتها وأدواتها التي يمكنها أن تنفذ بها وعبرها تدخلها. وعموما إن اللجوء الى طلب الحماية الدولية، حتى وان كان باسم الامم المتحدة، التي ستتحول في هذه الحالة الى حصان طروادة لتدّخل قوى خارجية لا تجمعها مشتركات مع مصالح المنتفضين الحقيقية، سوف يضعف من الانتفاضة ويوفر فرصة لأحزاب السلطة لتحرف شكل الصراع من صراع داخلي قائم على مطالب وحقوق مشروعة ضد فسادها وفشلها واستبدادها، الى صراع (وطني) ضد قوى أجنبية.

أما حصان طروادة الآخر فهو محلي، داخلي، وخطره أنه يهدد بسرقة الانتفاضة ومصادرتها لصالحه.

نعرف أن ساحات الانتفاض مفتوحة، وقد ضمت في صفوفها قوى سياسية متعددة وفئات اجتماعية مختلفة مايجعل امكانية تسلل عناصر تابعة لقوى ذات اجندة خاصة، غير تلك التي للمنتفضين، امرا ممكنا. والقوى المتغلغلة في ساحات الاعتصام هي انواع شتى، منها: اتباع السلطة باحزابها ومؤسساتها؛ القوى الخارجية عبر (جواكرها وذيولها)؛ قوى لبست ثوب المعارضة و (الاصلاح)؛ بقايا النظام السابق والبعثيون،(نهازو الفرص)، وآخرين غيرهم، وجميع هؤلاء صاروا بمثابة (أحصنة طروادية) سعوا ويسعون للتاثير على جو الانتفاضة العام ودفعها لحمل أفكارهم وأهدافهم وشعاراتهم. لكننا نعرف بالتجربة إن أقوى سلاح بيد السلطة الحاكمة وأحزابها كان ولا يزال هو سلاح (الضد النوعي) الذي يمكنها به أن تواجه الانتفاضة وكل حراك شعبي يريد تقويض سلطتها وتهديد مصالحها. فهذه الاحزاب لديها خزين بشري معبأ مذهبيا وطائفيا يمكنها أن تحركه وقت الشدائد ليقوض أي تحرك شعبي يستهدف سلطتها ومشروعها. وإذا كانت هذه الاحزاب لاتجرؤ دائما، لسوء سمعتها، على تقديم (جمهورها) وميليشياتها كضد نوعي تواجه به المتظاهرين والمحتجين بمتظاهرين ومحتجين مثلهم، فان التيار الصدري، ومن أي موقع ينطلق، هو الاكثر قدرة و (اهلية) في اداء هذه المهمة، وذلك لما له من (سمعة) وامتدادات واذرع اخطبوطية في السلطة ومعارضتها وفي الشارع أيضا.

لقد كان هذا التيار الاشكالي رصيدا احتياطيا دائما لأحزاب السلطة، صحيح انه ينقلب عليها ويعارضها أو يخاصمها في صراع المصالح ولعبة التوازنات، لكنه يتحالف معها ويحميها حين يتهدد المشروع الأكبر الذي يوحدهم جميعا وأعني به: المشروع الشيعي.

نعم هناك مشروع شيعي في العراق، وهو مشروع تجتمع حوله أحزاب الاسلام السياسي الشيعي جميعها، وإن اختلفت في بعض تفاصيل آليات تنفيذ هذا المشروع أو موقعها فيه، أو بفهم دوره في تحويل المجتمع وضبط آلية الحكم، هذا عدا المنافسة فيما بينهم على المصالح والمغانم. لكن هذه الاحزاب تنتظم، في النهاية، معا وباتجاه واحد حين يتعلق الأمر بمشروعها الموحد (الدولة الشيعية).

وغني عن القول أن هكذا مشروع هو مشروع غير عقلاني ليس لأنه ضد منطق التاريخ فقط وإنما لأنه، في الواقع العراقي تحديدا، مشروع فئوي ولا وطني. ولان انتفاضة تشرين في جوهر منطلقاتها ومطالبها وشعاراتها ذات بعد وطني تعددي منفتح، فهي تقف موضوعيا بالضد من هكذا مشاريع فئوية ضيقة الأفق، لهذا من البديهي أن تقف احزاب الاسلام السياسي الشيعي ضدها لمنعها من الوصول الى غاياتها الأبعد في تحويل المجتمع وبنية الدولة ونظام الحكم باتجاهات تتعارض مع مشروعها، (المشروع الشيعي).

من هذه الخلفية والفهم يمكن لاي متابع ان يفهم، بشكل عام، سلوك وممارسات احزاب الاسلام السياسي الشيعي العراقية بكل تصانيفها، خصوصا بعد اندلاع انتفاضة تشرين، وماوقع فيها من احداث مؤخرا بشكل خاص.

المقصود سلوك وموقف التيار الصدري وزعيمه المتناقض في تاييدالانتفاضة مرة وفي قمعها مرة أخرى.

لقد ألقت انتفاضة تشرين أحزاب الاسلام السياسي الشيعي عند مفترق طرق حساس: اما التنازل عن مشاريعها الفئوية الضيقة، وتقبل بما تتطلبه الوطنية من التقاء الجميع في المنطقة الوسط، والقبول بقواسم وطنية مشتركة مع الجميع كما تقضي بذلك التقاليد الديمقراطية، او دخولها في صراع مفتوح مع المجتمع العراقي والوقوف في الطرف الاخر، المضاد، من معادلة الوطنية والحرية.

لكن الاختيارات لاتكون دائما بمحض الارادة.