التلفيق ضد ماركس : بكّير نموذجاً / 3


حسين علوان حسين
2020 / 1 / 31 - 12:58     

بصدد فائض القيمة
عرضت في الحلقة السابقة وصفاً للكيفية التي دسّ فيها الأستاذ محمود يوسف بكير على ماركس بتلفيقه ضده فرية مناداته بـ "المساواة في الدخل" و التي تأكد فيه أن ماركس أنما يعتبرها جريمة كبرى بحقه لأته يقول بعكسها تماماً و ذلك حسب دلالة منطوق نصوصه القاطعة نفسها .
أعود الآن لموضوع فائض القيمة الذي أثاره الأستاذ المحاور المحترم بالصيغة الآتية :
نص الاستاذ محمود يوسف بكير
"وباختصار شديد فإن ماركس رأى أن هناك جزءا من وقت العامل مخصص فقط لتحقيق ربح للرأسمالي الطفيلي على حد تعبير ماركس، بمعنى أن عائد هذا الجزء يذهب إلى الرأسمالي دون أن يعمل شيئا بدلا من أن يذهب إلى العامل باعتبار أن العمل هو أساس القيمة بحسب نظرية ماركس. ولابد هنا أن نتمعن في آلية عمل عوامل الإنتاج الأربعة التي يقوم عليها البنيان الاقتصادي وهي الأرض ومواردها المختلفة، والعمل بأنواعه، ورأس المال المادي والنقدي وأخيرا الادارة والتنظيم وهي المسؤولية التي يتولاها الرأسمالي عادة.
وهنا نجد أن العناصر الثلاث الأولى تتقاضى دخولها قبل الرأسمالي وحتى قبل تحقيق أي أرباح حيث يكون المنظم الرأسمالي ملزم بسداد قيمة إيجار الأرض أو شرائها وبسداد أجر العمال والموظفين والمهندسين والمحاسبين...الخ وبسداد الفوائد والاقساط المستحقة على القروض التي قد يحصل عليها لشراء الآلات والمعدات والمواد الخام ....الخ هذا بالإضافة إلي تجنيب المخصصات الأخرى التي تتطلبها العملية الإنتاجية مثل التأمين والضرائب و الإحلال والتجديد....الخ وإذا ما تبقى أي فائض بعد سداد كل هذه الالتزامات أو تحققت خسائر فإنها تكون من نصيب الرأسمالي لأنه هو ألمسؤول عن العملية الإنتاجية ويخصص لها كل وقته وجهده وهو الذي يتحمل كل مخاطرها ولذلك فإنه آخر من يتقاضى عائده. والأهم من هذا فإننا في البنوك نحرص على أن يساهم المنظم الرأسمالي بجزء من أمواله يفضل ألا يقل عن الربع من تكلفة إقامة المشروع حتى نقبل أن نمنحه أي خطوط ائتمان والتي تكون عادة بضمانات عينية مقدمة منه.
ويوضح المثال السابق والمبسط جدا الدور القوي والهام الذي يلعبه المنظم الرأسمالي في العملية الإنتاجية والذي بدونه يصعب تصور إقامة أي مشروعات ناجحة خاصة تلك ذات المخاطر الكبيرة التي لا يتحملها العمال ولا صاحب ملكية الأرض ولا البنوك. وبالرغم من هذا فقد شبه ماركس هذا الرأسمالي بمصاص الدماء.
كما أن ماركس تجاهل حقيقة أن الأموال التي يساهم بها الرأسمالي في العملية الإنتاجية هي نتاج عمل سابق وليس نتاج عمليات نصب واحتيال. وأود أن أضيف هنا أننا كاقتصاديين نفضل أن يتم تمويل المشروعات برؤوس أموال عوضا عن الاستدانة من البنوك هذا بالرغم من عملي في البنوك أيضا لفترة من حياتي العملية، والسبب في هذا أن عمليات الاقتراض تحمل المشروع بأعباء فوائد مركبة لا تنتهي أبدا سواء كان الاقتراض من البنوك التجارية التقليدية أو ما يسمى بالبنوك الإسلامية فلا فارق بينهما سوى المسميات. والبنوك كلها تقدم قروضها بفوائد وبضمانات بمعنى أنه مهما أكدت الدراسة الائتمانية على أهمية ونجاح المشروع فإن القروض لن تقدم إلا بضمانات وهي ذات أنواع عديدة يعرفها كل المصرفيين. والأخطر من هذا أنه في حال تعثر المنظم الرأسمالي عن سداد الفوائد أو الاقساط في موعدها فإنه يحق للبنوك أن تصفي المشروع وتشرد العمال وأن تخرب بيت المنظم من أجل الحصول على مستحقاتها.
ولكل ما سبق فإننا نعتقد أن ماركس ظلم غالبية الرأسماليين الذين هم أساس النهضة الكبيرة التي حصلت في الغرب والآن في باقي دول العالم بما فيها الصين وروسيا. وبالنتيجة يمكن أن نقول هنا أن القيمة ليست في العمل وحده كما قال ماركس ولكن في كل عوامل الإنتاج مجتمعة كما ألمحنا سابقا."
أنتهى اقتباسي من النص .

النص أعلاه تقطع دلالاته بكون الأستاذ المحاور إنما هو تلميذ فاشل في علم الاقتصاد السياسي ، حتى بصيغته البرجوازية الأولية ، مثلما سأوضح بإسهاب . فهو يقسّم أولاً - و على نحو غير علمي و تحكمي فاضح - عناصر الانتاج إلى أربعة ، و هي :
• الأرض ومواردها المختلفة
• العمل بأنواعه
• رأس المال المادي والنقدي
• الادارة والتنظيم وهي المسؤولية التي يتولاها الرأسمالي عادة
و الصحيح عِلماُ و فعلاً هو أن عناصر الانتاج هما إثنان فقط لا غير : الطبيعة و العمل ، لكون الإدارة و التنظيم هما نشاطين كائنين ضمن عنصر العمل ؛ و لأن رأس المال هو فائض قيمة مسروق من طرف الرأسمالي من كد قوة عمل شغيلته يشرعنه الرأسمالي إكراهاً بواسطة صيغة عقد العمل الأجير ، أي أنه حصيلة قوة عمل غير مدفوعة الأجر . و إذا ما تولى الرأسمالي الإدارة و التنظيم بنفسه لمشروعه الإنتاجي ، فإنه يستحق عليهما أجراً حسب الأصول أسوة بغيره من العاملين . الأجر شيء ، و فائض القيمة شيء آخر معاكس له لكون الأخير لا يتم احتسابه إلا بعد تسديد كل الأجور و التكاليف المباشرة و غير المباشرة للمشروع الانتاجي . و قوله هذا يؤكد أن الأستاذ المحاور المحترم لا يفرّق بين الربح (فائض القيمة) و بين الدخل (أجر العمل) . و من المعلوم أنه في المشاريع الانتاجية الكبيرة يتولى كبار الرأسماليين عضوية مجالس الإدارة لقاء أجر معلوم ، أما غالبية حاملي الأسهم للشركات الرأسمالية فيتسلمون أرباحهم فصلياً أو نصف سنوياً أو سنوياً ، و لا علاقة لهم لا بالإدارة و لا بالتنظيم اللذين اصبحا علمين عاليي التخصص . و لكن ليس هذا فحسب ، بل أن المحاور لا يفهم حتى دلالة الماهية الاقتصادية لمصطلح "رأس المال" – و الذي هو فائض قيمة مسروق من طرف الرأسمالي . لذا نجده يبربر بصدد رأس المال "المادي" و "النقدي" كما لو كان يخاطب عقول الأطفال َو ليس عقول قارئات و قراء الحوار المتمدن الأذكياء الواعين . ما هو رأس المال "المادي" و "النقدي" ؟ أنهما مجرد خرافة ! لا يعي المحاور - الذي يجد في نفسه الجرأة لمقارعة كارل ماركس ، أعظم عالم اقتصاد في التاريخ لحد الآن - أن مصطلح "رأس المال" في الاقتصاد إنما هو مفهوم نظري مجرد تماماً عن الماهية المادية و ليس هو النقود قطعاً ، بل هو "قيمة" قوة العمل المنتج غير المسددة الأجر ، و لا يوجد في علم الاقتصاد شيء اسمه "رأس المال المادي" و لا "رأس المال النقدي" ، بل يوجد رأس المال الصناعي و المالي (المصارف ، شركات التأمين ، و البورصات) والتجاري و الريعي حسب مصادر مراكمته .
و لكون المحاور لا يفهم الطبيعة الحقيقة لرأس المال كمفهوم نظري مجرد ، لذا نجده يتكلم عن "دخل راس المال" ليفصل بين مفهوم الفائدة المصرفية على القروض و الودائع و بين مفهوم رأس المال . من المعلوم أن المصارف التجارية تشتري الائتمان النقدي من الزبائن المودعين لديها بسعر فائدة تعاقدي محدد (مثلاً 5 % سنوياً) ممن يمتلك نقداً يتولى ادخاره مصرفياً فيها ؛ ثم تقوم هذه المصارف ببيع هذا الائتمان النقدي نفسه بسعر فائدة أكبر (مثلاُ 10%) لمن يريد الاقتراض منها . و الفرق بين سعري بيع و شراء هذا الائتمان النقدي يمثل هامش ربح المصرف التجاري بعد استقطاع المصروفات المترتبة عليه كافة . بالنسبة لأصحاب الودائع النقدية في المصارف التجارية ، تبدو للوهلة الأولى أن نسبة الفائدة السنوية هذه (5% في هذا المثال) لودائعهم المصرفية إنما هي "دخل رأس المال" ، و لكن هذا تصور غير صحيح علمياً . السؤال هو من أين تتأتى قيمة هذه الفائدة على الودائع في المصارف ؟
لنفرض أن المصرف التجاري (سين) كان قد قَبِل لديه ودائع نقدية بما مجموعه مليار دولار بسعر الفائدة السنوي (5%) و أبقاها مجمدة عنده لمدة سنة كاملة بدون بيعها كقروض بسعر فائدة أكبر ، عندها سيضطر هذا المصرف في نهاية العام (أو حتى قبل ذلك بالنسبة للمصارف التي تنظم موازينها العامة فصلياً أو نصف سنوياً) إلى اشهار إفلاسه حتماً إذ سيترتب عليه تسديد ما مجموعه خمسين مليون دولار فوائد سنوية على ودائع مجمدة لديه بدون حركة . إذن رأس المال لوحده لا يتوالد و لا يفرخ دخلاَ ، و بالتالي فلا دخل حقيقياً له في واقع الأمر ، و هو ليس من عناصر الانتاج مطلقاً لأن القيمة تبقى عقيمة بدون قوة العمل . و لكون المصارف التجارية تعرف طبيعة شغلها زين ، فإنها تعمد حالاً إلى بيع نفس هذه الودائع كقروض ممنوحة بأفضل سعر فائدة مجزٍ متاح (10 أو 15% ، أكثر أو أقل بقيل لتغطية نسبة المصاريف الإدارية لخدمة القروض و الودائع لديها و التي تتراوح بين 2-3% سنوياً ) . هنا المقترض الرأسمالي هو الذي يتولى تشغيل مبلغ القرض المصرفي الممنوح له في مشروعه الانتاجي فيغرف منه فوائض قيمة بنسب أعلى بكثير من سعر الفائدة المترتب عليه تسديده للمصرف لكي لا يخسر فيغلق مرفقه الانتاجي . و بالنسبة لأهل الكار من الرأسماليين "المفتحين باللبن" ، فإن حجم ربح المشروع الانتاجي (أي فائض القيمة) المنظور كله واضح و محسوب مسبقاً "على داير مليم" لكون الرأسمالي يحرص أشد الحرص على ضمان تحقيق الربح المضمون . إذن في التحليل النهائي ، فإن ما يسميه الأستاذ المحاور المحترم بـ "دخل رأس المال" ما هو في الحقيقة إلا تلك النسبة من فائض القيمة التي يتنازل عنها الرأسمالي مقابل الاقتراض النقدي لحسابه بغية تشغيل مرفقه الانتاجي فيسدده للمصرف التجاري في أوانه حسب شروط القرض ، ويتولى الأخير بدوره تسديد نسبة الفائدة التعاقدية الأقل للمودعين لديه ، و هكذا دواليك .
ما ذا نستنتج من كل هذا ؟ الاستنتاج الواضح الذي لا مُرية فيه هنا هو أن العمل المنتج هو وحده خالق القيمة باشتغاله على ما توفره الطبيعة من مواد خام .
ثم يأتينا المحاور المحترم بهذه التحفة :
" كما أن ماركس تجاهل حقيقة أن الأموال التي يساهم بها الرأسمالي في العملية الإنتاجية هي نتاج عمل سابق وليس نتاج عمليات نصب واحتيال. "
عجيب ! هذا المحاور المحترم يرفض أن يعي حقيقة أن صاحب المشروع الانتاجي إذا كان قد ساهم بمدخراته الشخصية في العملية الانتاجية فهو يفعل ذلك بقصد غرف المزيد و المزيد من فائض القيمة من عمل شغيلته لنفسه ليس غير ؛ أما إذا كان قد ساهم برأس مال مملوك أم مقترض ، فأن رأس المال التأسيسي نفسه هذا إنما هو – أصلاً – فائض قيمة مسروق سابقاً يتم تشغيله لمنفعته بقصد مراكمته أعظم فأعظم قطعاً . و لهذا توضح الإحصائيات الموثقة اليوم أن أربعمائة ألفاً من الرأسماليين في العالم يملكون ضعف ما لدى سبعة مليارات إنسان ، و هذه الهوة ستزداد أبداً باضطراد في النظام الرأسمالي ، و لهذا شبّه ماركس الرأسمالي بمصاص الدماء بحق ، و الحق يعلو و لا يُعلى عليه .
قال : دخل رأس المال ، قال ! إيه دا كلّه ، إيه دا كلّه ! يعمل عقوداً في المصارف التجارية دون أن يعي من أين تأتي أرباحها ، ثم ينبري لمقارعة العالم العملاق ماركس بالخرافات الشعبوية ! صدق من قال : إللي اختشوا ماتوا !

يتبع ، لطفاً .