سرقة القرن والافتقار إلى المفاجآت


ناجح شاهين
2020 / 1 / 30 - 17:41     

تقول سرقة القرن باختصار: "إن فلسطين كلها أرض إسرائيلية بشكل أو بآخر، وهناك جالية عربية تعيش هنا إلى أن تسنح الفرصة للتخلص منها."
في شهر ايلول 2018 أغلقت الولايات المتحدة الممثلية الفلسطينية في واشنطون. وفي الشهر نفسه اعلنت عن وقف الدعم المقدم للاجئين الفلسطينيين. وفي شهر تشرين الثاني أعلن بومبيو أن المستوطنات شرعية مئة بالمئة. أيضاً تم نقل السفارة الأمريكية إلى القدس وأعلن عن وحدتها عاصمة أبدية لإسرائيل. ثم جاءت الإشارات الصريحة بحق إسرائيل في ضم وادي الأردن وفي السيادة الكاملة على الحدود وفي ضم مناطق ج كلها أو أجزاء منها. انتهت "أسطورة" الدولة الفلسطينية على يد مختار العالم أمريكا وتوابعه من قبيل كندا وشرق أوروبا وأجزاء كبيرة من غربها، وعدد من الدول العربية التي تقوم بوظيفة الأقمار التي تدور في فلك أمريكا إن لم يكن فلك إسرائيل.
هكذا وجد العريس العربي والفلسطيني أن العروس كانت قد تعرت وتخلصت من ملابسها كلها، نعم كلها قبل الليلة الموعودة. إذن العروس كانت قد كشفت مفاتنها كلها في المناسبات المختلفة، وهكذا خسر العاشق فرصة المفاجأة العاطفية. ربما يفسر ذلك أن الناس لا يجدون ما يتحدثون عنه. فقد سحب منهم ترامب الثرثار فرصة التسلية بالحديث عن بنود تثير الدهشة. كلا إن شيئاً لم يتم كشفه في مؤتمر ترامبو وبيبي فعليا، فقد قيل كل شيء منذ زمن طويل بألف طريقة وطريقة ليس أقلها شأنا إعلانات أمريكية وإسرائيلية متكررة عن ضم الأغوار وتشريع الاستيطان وضم الضفة وإخضاع فلسطين كلها للسيادة الإسرائيلية...الخ لم يترك الأمريكي والإسرائيلي أية أشياء لتحملها عروس الصفقة إلى بيت عريسها: لقد قيل كل شيء على الملأ مثلما يحدث في "قصة موت معلن" لجارسيا ماركيز. ولكننا ومثلما يحدث في تلك الرواية "فضلنا" أن ندفن رؤوسنا في الرمال ونتظاهر أن شيئاً مهماً لا يحدث.
لكن كيف وصل الصراع إلى هذا المستوى الذي لا يصدق من ناحية "إنجاز" أكبر سرقة في العصر كله منذ إقامة أمريكا وكندا على أنقاض أرض "الهنود" المسلوبة؟
يقول المتخصص في صراعات منطقتنا ستيفان ليندمان إن البذار كله قد زرع في "أوسلو" التي كانت استسلاماً فلسطينياً غير مشروط في نطاق اتفاق غامض لم يعد الفلسطينيين بأي بشيء. لقد سلموا أمرهم كله للإرادة الأمريكية الإسرائيلية. وهذا الحصاد (صفقة القرن) هو ما توقعه العقلاء جميعاً في فلسطين وإسرائيل والعالم أجمع. فلا يحق لصناع أوسلو أن يتظاهروا اليوم بأي نوع من المفاجأة.
التنازلات السلسة الفلسطينية قد تكون هي ما أدى إلى (رفس) الدولة العبرية لاتفاقيات (أوسلو). اتفاقيات (أوسلو) أصبحت (سيئة) وغير منصفة للدولة العبرية باعتبار ميزان القوى الراهن وقدرة هذه الدولة على إنجاز اتفاقية جديدة اكثر عدلاً أو فرض الواقع (العادل) على الأرض الفلسطينية بالقوة.
لكننا نخشى أن الألعاب المعتادة ما تزال هي السائدة في المدينة. فقد أكد ترامب في سياق إعلانه عن صفقته العبقرية أن الفلسطينيين يمكن أن يرفضوها اليوم ولكنهم سوف يقبلونها غداً. وقد قرأ بعض المحللين في ذلك إشارة من الرجل على وجود اتصالات ما مع فلسطينيين جاهزين للتعاطي مع الصفقة.
ولعل من المفيد هنا أن نلفت النظر إلى إعادة إنتاج الدعايات الاقتصادية التي رافقت "صفقة" أوسلو من قبيل تحول الضفة وغزة إلى سنغافورة المنطقة. اليوم أيضاً هناك وعود سخية بتحول مناطق السلطة إلى مركز تقني هائل يوفر للفلسطينيين رغد العيش والنجاح تحت "الانتداب" الإسرائيلي وفي ظل رعايته.

ربما يجدر بنا من هذا المنطلق أن نكون سعداء بالتزام الصفقة بضمان أمن الشعب الاسرائيلي ومستقبله المزدهر من ناحية، لأن ذلك على ما يبدو هو ما سيعطي الفلسطينيين فرصة حقيقية وأملا حتى يتمكنوا من العيش حياة أفضل. ترامب للمرة الألف يذكرنا بأنه في سياق إغداق الحب على إسرائيل لا ينسى الفلسطينيين بل إنه بمعنى ما يريدنا أن نصدق أن نجاح إسرائيل شرط ضروري لنجاح فلسطين.
مطلوب الآن فقط أن يتواج الفلسطيني "الشجاع" الذي يوافق على الجلوس على طاولة المفاوضات في ظل "مبادئ" صفقة القرن. لكن من المهم أن ندرك ما أصبح واضحاً وشفافاً: الآن الآن واليس غداً، سوف تشرع إسرائيل في العمل الهام سواء وافق الفلسطينيون على المفاوضات في إطار "الصفقة" أو لم يموافقوا. سوف يتم دفع سكان مناطق "ج" إلى مغادرتها إلى الدول العربية أو الأجنبية، وإذا تعذر ذلك فلا بد من دفع الناس إلى مناطق "أ". سيأتي الزمن الملائم مثلما يتصور قادة إسرائيل الذي سيتناقص فيه سكان مناطق "أ" ذاتها إلى حد أن ابتلاعها هي أيضاً لن يكون أمراً ممتنعاً. ولا بد أن ذلك الزمن سيكون قد أسس لقبول إسرائيل بما فيه الكفاية في "الشرق الأوسط" بحيث تصبح مناطق "أ" قضية تافهة لا تثير اهتمام أحد من المحيط إلى الخليج..
الدولة العبرية المنتصرة حليفة السعودية والإمارات ومصر وعمان والمغرب...الخ تتقدم في إهاب صفقة القرن لقطف إنجازات انتصاراتها السياسية والعسكرية وانتصارات حلفائها وأصدقائها في مرحلة ما بعد "الربيع" العربي".
ما العمل الآن؟
ماذا تستطيع فلسطين بجناحيها في غزة ورام الله؟

هل يمكن أن تتوقف غزة وتلهم حلفائها الإخوان في قطر وتركيا فكرة التوقف عن خوض المعارك ضد طواحين الهواء الكافرة في سوريا وليبيا؟ هل يمكن إقناع معسكر المسلمين المجاهدين بترك الوعظ لليبيا وسوريا وتكريس العمل لفلسطين؟
باختصار: هل سيتمكن الإسلاميون هنا وهناك في الارتقاء إلى مستوى الصراع السياسي الفعلي والإقلاع عن الصراعات الميتا/تاريخية ضد الشيعة والرافضة والكفار والشياطين وطواحين الهواء؟
من ناحية أخرى، هل يمكن لرام الله أن تتوقف عن تعلقها بأهداب السلطة والامتيازات مهما تكن التكلفة؟ هل نستطيع أن نحلم حقاً بأن يتخلى الزعماء والوزراء والألوية والعمداء عن مناصبهم وشاراتهم وامتيازاتهم من أجل إنقاذ ما تبقى من فلسطين؟
وربما ما هو أصعب من ذلك: هل نستطيع أن نحلم حقاً بأن يرتدع جشع نخب الاقتصاد الكمبراودي الفلسطيني على الأقل عن التجرؤ على التضحية بأي شيء وكل شيء من أجل مصالحها الانية، حتى لو كانت التكلفة ضياع فلسطين النهائي؟
من الواضح أن الشعب الفلسطيني وعمقه العربي والإسلامي المعادي لأمريكا ليس في أفضل أوضاعه، ولكن التحدي الماثل الخطير يستدعي فعلاً الترفع عن المصالح المختلفة بما فيها المصالح المادية والاقتصادية والإقليمية من أجل تجنب الانقراض السياسي. وإذا لم ندرك ذلك ونستدخله بالعمق الكافي فلا بد من طرح السلام على غرناطة وإسدال الستارة.