عوامل نجاح واخفاق انتفاضة تشرين


خالد صبيح
2020 / 1 / 29 - 21:51     

استخلص بعض دارسي تجارب الربيع العربي ثلاثة عوامل باجتماعها تحقق النجاح لهذه الثورات؛ هي: اولا، استمرار التظاهرات واتساعها والتمركز في ساحات المدن العامة، وثانيا، تفكك النخبة الحاكمة واتباعها من اعلاميين ومثقفين وغيرهم، بتخليها عن النظام او بانشقاقها عنه، وثالثا، انحياز المؤسسة الامنية، خصوصا الجيش، الى جانب المنتفضين، أو على الاقل حيادها، بمعنى عدم تنفيذها لأوامر القمع.

تحقق هذا في مصر وتونس ولاحقا في السودان والجزائر. بينما في الحالة السورية والليبية اخذت الاحداث مسارا اخرا وتداعيات مختلفة لأكثر من سبب، وهي عموما لم تتحق بها العوامل الثلاثة تلك.

في التجربة العراقية تحقق الشرط الاول ولكن الشرطين الاخرين تعسرا وذلك لان تركيبة السلطة في العراق لها قوام مختلف عما هو عليه في البلدان الاخرى التي نجحت فيها الثورات. منها ان بنية النظام العراقي ليست مركزية ماجعل نخبته متعددة في تركيبتها واتجاهاتها، بل يمكن القول انها نخب عديدة وليست واحدة، ضمت تيارات وتوجهات مختلفة ومتعارضة بعض الاحيان، لذا صعب تفككها، وكذلك ينسحب الأمر الى المؤسسة الامنية، فقد بنيت واعيد بناءها وفق تعدد النخبة الحاكمة وغلب عليها الولاء الحزبي والفئوي ما جعلها تكتسب طابعا
ميليشياويا، بمعنى أن النخبة الحاكمة بثت عناصرها داخل المؤسسات الامنية والجيش فتعددت اتجاهاته وولاءاته بتعدد مشغليه. لذا لا يمكن التعويل على هذه المؤسسة في تدخل حاسم يغير معادلة المواجهة بين المنتفضين والمؤسسة الحاكمة.

ملاحظة:

ما اعنيه بالنخبة الحاكمة في الوضع العراقي هو شلة الحكم ومن يلتفون حولها وليس النخبة بالمفهوم السوسيولوجي كمجموعة تتحلى بكفاءة ومؤهلات ورأسمال رمزي تميزها.

هذا الواقع قد يؤدي الى تعثر مسار الانتفاضة وربما اخفاقها بعدم تحقيق اهدافها التي سببت انطلاقتها.

لكن مسار التاريخ وحركة الحياة لايسيران وفق وصفات محددة مغلقة، وغالبا مايبتكر الفاعلون في المسار السياسي والاجتماعي وسائلا واساليبا جديدة تمليها عليهم ظروفهم ومستوى وعيهم. لهذا قد تبتكر التجربة العراقية مسارا جديدا لنجاح الانتفاضة يختلف عمن سبقها ويضيف إليه، مثل فكرة المسيرة الجماهيرية، التي تنطلق من مدن الجنوب وتتوجه الى العاصمة حيث مركز الحكم، بعدما فشلت فكرة العصيان المدني والاضراب العام.

وفكرة المسيرة هي فكرة مبتكرة ومناسبة لسياق الانتفاضة العراقية لاسيما اذا انضمت اليها العشائر الامر الذي سوف يمنحها زخما وفاعلية تساعد على خلخلة النظام وتفككه، لان معظم منتسبي المؤسسات الامنية هم من ابناء هذه القبائل وسيؤثر انضمامها للانتفاضة بشكل مباشر عبر فعالية المسيرة على مواقفهم وسلوكهم وبذلك تتخلخل بنية النظام الامنية وتتفكك.

لكن هناك خطرا ماثلا أمام الانتفاضة، هو التجاذبات الاقليمية والدولية حول النفوذ في العراق، وابرز قوى التجاذب هما ايران وامريكا، وبما أن إيران هي الاكثر (انكشافا) و(فضائحية) وتعرضت لنقد وإدانة متواصلة طوال مسار الأحداث، فان حظوظها في التاثير المباشر وفرض رجالها (ونسائها) على مؤسسات الحكم والتمثيل، سواء عبر القوى السياسية العراقية الموالية لها، او الميليشيات التابعة لها، بات غير ممكن، من غير ان يعني ذلك أن انهزامها في صراع التجاذبات سوف يعني استسلامها وانتهاء تاثيرها، فهي ستبقى تؤثر في الساحة العراقية طالما بقي التاثير الخارجي على هذه الساحة ممكنا.

أما الامريكان، الذين اجتهدوا بصبر لبناء قاعدة اجتماعية، عبر فعاليات وادوار متعددة، لـ (توسيع) دائرة قبولهم في المجتمع العراقي، وللتخفيف من حدة الرفض التقليدي عراقيا لوجودهم ولدورهم، سعوا لمصادرة الانتفاضة وتوظيفها لصالحهم في مواجهة ايران تحديدا. وما اشتداد العداء لايران، وتوسع دائرة نقدها عراقيا، رغم مبرراته الواقعية، إلا أحد تجليات هذا التوظيف.

لكن الأمريكان، بطبيعة تكوينهم، لا يريدون، بعدما انتعشت امكانات لعبهم دور في عملية التغيير، أن تتحول الانتفاضة الى ثورة بابعاد اجتماعية واقتصادية تطالب باصلاحات سياسية حقيقية ذات منحى استقلالي، فهذا سيتعارض مع مصالحهم ورغباتهم بالضرورة، لذا سوف يسعون لايجاد نخبة بديلة عن تلك التي فشلت وانتفض الناس ضدها.

غير ان هذا ليس بالامر اليسير، ومايزيد من صعوبته امامهم هو انهم لايمكنهم الاعتماد كليا على عملائهم وصنائعهم في تغيير النظام السياسي، عبر الانقلاب مثلا، ليقوموا بتغييرات شكلية مبقين على جوهر النظام كنظام تابع لهم. فالمؤسسة الامنية العراقية متعددة الانتماءات والولاءات ولا يمكن الارتكان اليها كليا للقيام بهذا التحول.

لهذا تبدو فكرة التدويل طريق مناسبة لفرض البديل الامريكي، فالاستراتيجية الامريكية، في العراق على الأقل، تعمل بآلية خلق حاجة داخلية لها، بمعنى انها تدع الامور تسوء لحد لا يمكن احتماله، لتسوّق نفسها منقذا، مايضطر حتى خصومها لغض نظرهم عن دورها في هذا (الانقاذ)، لأن الواقع إن استمر على ماهو عليه سيكون اسوأ من بديلها.

بيد أن التدويل، كما يهيأ لي، هو خطوة بعيدة الآن، فهو بحاجة لمتطلبات ليست ممكنة التحقق، وذلك لصعوبة حشد قوى دولية كافية له. غير أن البدائل (الدستورية)، وترميم الوضع داخليا عبر تسويق شخصيات قد يتمكن الامريكان من تمريرهم عبر قناتهم الكبيرة (الدستور وصلاحيات رئيس الجمهورية فيه). يمكن ان تكون واحدة من بدائلهم الانية.

وفي هذا فان تجربتهم تدلهم، كما تدلنا تجارب التاريخ كذلك، على أن العناصر القومية هي الاكثر ملائمة لهم، لهذا يبدو ان هناك محاولة لإعادة تسويق شخصية ( اياد علاوي) من جديد لتوفر مواصفات فيه تجعله الانسب لهم في تحقيق متطلباتهم، منها: خلفيته المدنية و (العلمانية)، عداؤه الثابت لإيران، استعداده لتنفيذ كل متطلبات الهيمنة الامريكية، بالاضافة الى ان له حضور تمثيلي سياسي واسع، (خلفيته البعثية أحد العوامل المهمة في هذا)، اذ أن سنّة العراق لديهم استعداد لقبوله كـ( شر لابد منه) أو باعتباره أهون الشرور بعد تجربتهم المريرة مع احزاب الاسلام السياسي الشيعية. وبظني أن استقالته من البرلمان (الذي لايحضر جلساته اصلا) وادعاءاته بـ (البطولة) بأثر رجعي (كالادعاء بمحاولة اغتياله من قبل ايران في 2009) وغيرها، تبدو وكأنها مقدمات تهدف لتسويقه شرط أن يتم قبوله، و إن على مضض، من قبل المنتفضين.

على العموم، اي يكون الشخص الذي سياتي به الامريكان فان الزمن القادم، كما يبدو، سيكون زمنا امريكيا خالصا، بلا شوائب إيرانية وغير إيرانية، وعلى العراقيين التهيؤ لتلقي تبعات هذا الزمن، والاستعداد لخوض صراع جديد بعناوين جديدة.