2- أزمة اليسار المصرى -ثورة يناير واليسار-


رياض حسن محرم
2020 / 1 / 28 - 20:40     

حدثت الثورة فى 25 يناير واليسار المصرى (وفى القلب منه الشيوعيين) فى أضعف حالاته، وبعد تنحى مبارك وانفضاض اعتصام التحرير خرج اليسار أضعف مما دخل، اللهم الاّ فترة قصيرة عقب أحداث الثورة بدا فيها أن اليسار سيتألق من جديد، وبدأ زخم شبابى لا بأس به، وقتها إستطاع الحزب الشيوعى المصرى بتنظيم مسيرة فى ميدان التحرير فى الأول من مايو من نفس العام، ترفع رايات الحزب الحمراء معلنا بدء النشاط العلنى للشيوعيين منذ عشرينات القرن الماضى، تواكب ذلك مع نشاط ملحوظ للحزب فى أكثر من محافظة على رأسها الأسكندرية وخيمة الحزب "الشهيرة" داخل إعتصام القوى السياسية بحديقة سعد زغلول بمحطة الرمل، وتنامى القطاع الشبابى فى معظم تنظيمات اليسار، ولكنهم سرعان ما اصطدموا بالقيادات التقليدية، فكانت رحلة الخروج المبكر، وذلك لأسباب منها صراع الأجيال، وضعف البنية التنظيمية لتلك الأحزاب التى لم تستطع استيعاب القادمين الجدد، ولإستعجال الشباب وانحرافاتهم اليسارية ذات الطابع الفوضوى، ولأسباب أخرى لم تستطع تلك التننظيمات الإحتفاظ بهم أو تنميتهم، فخروجوا بشكل غير منظم، ورجعت تلك التنظيمات سريعا الى حجمها السابق.
رغم أن اليسار وشعاراته كانت الفاعل الأكبر لحركة الشارع أثناء وبعد اعتصام التحرير، وهو ما جعله يشعر وكأنه محرّك الأحداث والقادر على إعادة ترتيب الأوضاع في مرحلة ما بعد الثورة، وقد كان هذا وهم كبير، فلم تكد تمر شهور " خاصة بعد استفتاء 19 مارس" والتى أطلق عليها الإسلاميون "غزوة الصناديق" حتى وجد اليسار أنه ليس الحاكم أو الفاعل الرئيسي في الأحداث وأن هناك من يستغل شعاراته لتمرير أجندة معينة لم يكن من بينها وجود اليسار كفاعل أساسي في ترتيبات مرحلة ما بعد الثورة، ولهذا نجد أن اليسار المصري اختفى سريعًا من المشهد كتنظيم موحد وظهرت فعاليات محدودة له فى اطار مليونيات التحرير العديدة، وعشرات الإئتلافات غير المحددة ايدلوجيا أو تنظيميا، واختصر المشهد في شخوص معينة عبرت عن نفسها بعدد من التنظيمات اليسارية.
فلنتفق أن لليسار المصرى تاريخ طويل من الإنشقاقات ودعاوى الوحدة، ولكن على الأقل فيما بعد حركة الضباط الأحرار فى 1952، فقد تمحور الصراع حول الموقف من تلك الحركة، وبسبب مشاركة ضباط محسوبين على "حدتو" فى قيادة الثورة فقد أعلنت تأييدها المبكر للحركة بمجرد قيامها، لكن سرعان ما جاءت أحداث "كفر الدوار" بعد حوالى 20 يوما فقط وتشكيل محكمة عسكرية تقرر اعدام اثنين من الضالعين فى الأحداث هما العامل اليسارى "مصطفى خميس" (منظمة النجم الأحمر) والثانى "محمد البقرى" وكان يعمل خفيرا، ساهم ذلك فى كهربة الجو بين الطرفين، وارتفعت دعاوى الديكتاتورية والفاشية العسكرية، ولكن جاء سريعا قرار "الإصلاح الزراعى" فى سبتمبر ليطفئ تلك النيران مؤقتا، ولكن الخلافات داخل الحركة الشيوعية ظلت مستعرّة، حتى نشوء أزمة مارس 1954 ليلتقى معظم الشيوعيين على تأييد جبهة محمد نجيب فى مواجهة عبد الناصر، الذى نجح فى استقطاب كثير من العمال من خلال الرشاوى "طعيمة والطحاوى" أو عن طريق "الحل الوسط التاريخى" بمقايضة العمال ببعض المكاسب الإقتصادية فى مقابل التنازل عن مطالبهم النقابية والسياسية والإنحياز الى جانب جمال عبد الناصر.
عبر الرئيس “عبد الناصر” عن تلك المرحلة بقوله: “إن الشيوعيين عندهم أفكارًا جيدة لكني اختلف معهم في أمرين، الأول: موقفهم من الدين، والثاني: الأممية التي تتجاوز الوطنية” ، هو هنا بديماجوجيته يحاول تبرير موقفه المعادى بشدة ووحشية لذلك الفصيل الوطنى، المدهش أن نسبة كبيرة من الشيوعيين بمن فيهم هؤلاء الذين تعرضوا للتعذيب والضرب بالشوم حتى الموت كانوا يعلنون تأييدهم لجمال عبد الناصر ومنهم الشهيد "شهدى عطية شافعى"، لقد نال الشيوعيين أكبر لطمة فى تاريخهم ممن كانوا يظنونه أقرب حلفائهم، وتمثل ذلك بمجموعة من الخطوات:
1- تميز خطاب النظام السياسي الناصري بإنه المتحدث الحصري باسم الجماهير، وأنه المعبر الحقيقي عن مصالحها، خطاب في ظاهره اشتراكي ولكن في مضمونه العميق كان تمثلا لراسمالية الدولة فى شكلها الشعبوي الجديد، أوهام روجت لها السلطة الحاكمة بكريزما قائدها الثورية وخطابه الشعبوي المحبب لقلوب الجماهير، وتكونت طبقة برجوازية جديدة من العسكريين والمدنيين المتحالفين معهم، وهي الطبقة التي تحكمت بتروس الدولة بأكملها، وهي ذات الطبقة التي انقلبت على إرث الحقبة الناصرية في مرحلة الإنفتاح الساداتي لتستكمل مشروعها في النهب الرسمي والمشرعن للدولة ومؤسساتها وشركاتها. ولأن هذه الطبقات تسمى تجاوزا بالراسمالية الا انها لم تراكم ثرواتها من صناعة حقيقية ولا بالتزام واع بالمشاركة في التنمية والتقدم الاجتماعي والثقافي والبحث العلمي، فالتراكم الراسمالي لثرواتها جاء من خلال أنشطة استهلاكية غير منتجة او باستيلائها على شركات القطاع العام.
2- من أجل تحقيق ذلك الحلم الطوباوي تعامل "عبد الناصر"مع الجماهير بنفس أسلوب الحكم السلطوي الذي شهدته الدولة الشمولية على مدار التاريخ، الحكومة هى من تفهم فقط، والمواطنين عليهم الإنصياع، فإحتكر النظام إعادة تشكيل البنية الاقتصادية، والسياسية، والثقافية، والتخطيط العام للدولة. وقام بتأميم المجال العام السياسي كما أمم قناة السويس بالضبط، وأدخل اليساريين والمثقفين المعتقلات واعتمد على سياسة الحزب الواحد، الاتحاد الاشتراكي، الذي ضم كل المستفيدين من هذه الحقبة وأهمهم البرجوازية الجديدة من ضباط الجيش وحلفائهم من الطبقة الجديدة.
3- على مستوي المثقفين اليساريين، فقد حبس اليساريين أنفسهم فى غيتو الطليعة المثقفة للطبقة العاملة المصرية، وانفصلوا عن الواقع تمامًا، حتى أصبحوا على هامش الحياة الحقيقية، واتسمت الحركة اليسارية بجميع تعبيراتها بالجمود العقائدى والسياسي، وانغمس التيار الماركسي تحديدا في النصوص الكلاسيكية دون محاولة للنقد او تاصيلها في التربة المصرية. وبمرور الوقت تحولت الايدلوجية إلى ما يشبه الدين لها وجه واحد من الحقيقة الثابتة.
4- هذا الملمح الفاشستى بات له قاموسه اللغوي بمصطلحات خاصة بهم (التصنيع الثقيل – الكفاية والعدل – حرية واشتراكية ووحدة.. الخ)، مستمدة من الادبيات الكلاسيكية القديمة التي لم تتغير او تتبدل مع تغير الظروف والمكان والزمان، فالتحليل الطبقي هو المفتاح لقراءة الواقع الاقتصادي والاجتماعي ، دون اعتبارا للثقافة الخاصة والهوياتية للمجتمع المصري وتفرعاته الثقافية او الدينية كعوامل موازية للتحليل.
5- وبعد أن جمع عبد الناصر كل الشيوعيين "منظمين أو غير منظمين" ليضعهم جميعا فى أقصى نقطة بالصحراء (سجن المحاريق فى الواحات) لمدة 5 سنوات كاملة لتنتهى بافراج مشروط بحل التنظيم المستقل، بل وساومهم فى الإنضمام لتنظيمه الخاص "التنظيم الطليعى" كأفراد ليسمح فى النهاية لنخبة من المثقفين بالانضمام الى تنظيمه الطليعى ومنظمة الشباب.
عموما ورغم تعرض اليسار الشيوعى لكل تلك الممارسات فإن كوادره الحية لم تلبث "بعد أقل من عامين"أن أعادت جمع صفوف من تبقى منهم لتعيد التنظيم المستقل لهم، لهذا الموضوع قصة، سنحكيها لاحقا.. السلام عليكم.