هل ان الشيوعية العراقية هى الشيعية القديمة ؟ القسم الثالث (العقدة الشيعية من ايران)


سلمان رشيد محمد الهلالي
2020 / 1 / 25 - 22:39     

هل ان الشيوعية العراقية هى الشيعية القديمة ؟ القسم الثالث (العقدة الشيعية من ايران)
وقبل ان نبدا باستعراض العقدة الشيعية من ايران يجب قبلها ان ندرس بواكير العقدة السنية من ايران اولا ومسبباتها القومية والطائفية حتى نعرف طبيعة المطارحات الثقافية والسياسية التي ترتكز عليها وتطورها التاريخي . فالعقدة من ايران لم تتبلور او تتضخم قبل (500) عام عندما كانت ايران سنية المذهب , بل العكس فهناك صلات وروابط اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية ومذهبية كبيرة جدا ومتميزة وراسخة بين اهل السنة والفرس بصورة لايتوقع احدا تلاشيها او ضعفها , وهناك احاديث عند اهل السنة نسبت للرسول في مدح الفرس منها (لو كان الايمان منوطا بالثريا لتناوله رجال من فارس)(فارس عصبتنا اهل البيت)(ضحكت من ناس يؤتى بهم من قبل المشرق في النكول(القيود) يساقون الى الجنة) (ولدت في زمن الملك العادل كسرى انوشيروان)(وسلمان – الفارسي- منا اهل البيت) وروى عن ابو هريرة انه ذكر الاعاجم والموالي عند رسول الله فقال(والله لانا اوثق بهم منكم ) . بل ووصل الحال بهم ان اعتبروا الفرس من ذرية ابراهيم , فقد ذكر المسعودي في (مروج الذهب) قوله : كانت أسلاف الفرس تقصد البيت الحرام وتطوف به تعظيماً له ولجدهم إبراهيم عليه السلام وتمسكاً بهديه وحفظاً لأنسابه وكان آخر من حج منهم ساسان بن بابك جد أردَشير . كانت الفرس إذا أتت البيت طافت به و"زمزمت" على بئر إسماعيل فقيل إنما سميت "زمزم" لزمزمتها عليه بأصوات أعجمية. وكانت الفرس تهدي إلى الكعبة أموالاً وجواهر . والمفارقة عدم وجود هذه الاحاديث والقصص في مدح الفرس عند الشيعة . والسبب ادراج هذه الاحاديث عند اهل السنة هو ان الفرس كانوا على مذهب اهل السنة والجماعة طيلة تسعة قرون (21 هجرية – 906 هجرية) والرواد الاوائل المؤسسين للمركزية السنية والمنافحين عنها , بل كانوا المنظرين والفقهاء والعلماء والرواة لكتب الحديث والاصحاح والمروجين الفاعلين والمدافعين المتطرفين لها ضد المخالفين من الشيعة والمعتزلة , والعلاقة كانت طبيعية وذات وئام بين السنة والفرس حتى ان المستشرق كيب قال (ان الزرادشتيين (المجوس) اميل عموما لاعتناق المذهب السني) الا انه وبعد تحول الفرس للمذهب الشيعي من قبل الدولة الصفوية (1501 – 1736) قبل (500) عام وصراعها المحتدم مع الدولة العثمانية المقدسة عند سنة العراق , وجدنا - ولاول مره - تحول كبير في الخطاب عند اهل السنة ضد الفرس من الاتحاد والتضامن نحو التخوين والتكفير مع ظهور مفردات مشينة تصفهم باسوء المقولات الطائفية والعبارت العنصرية ترتكز على استحضار السرديات الانتقائية من التاريخ التي تنال منهم اجتماعيا ودينيا واخلاقيا , وربما لو لم يكن هناك صراع بين الفرس والترك فلايمكن تصور العقدة الطائفية من ايران عند سنة العراق بهذا الشكل , ولما تبلور المتخيل الطائفي والعنصري بهذ الصورة . وكان من اهم العبارات الكاذبة التي نسبت للرسول محمد زورا وبهتانا هذا الحديث عن انتصار القبائل العربية على الحاميات الفارسية في العراق في معركة ذي قار (هذا اول يوم انتصف فيه العرب على العجم وبي نصروا) لانه حديث مرسل لم تذكره كتب الاصحاح اولا وسيظهر الرسول بمظهر القومي العروبي مثل ساطع الحصري ثانيا , ويجعله ايضا بمظهر المؤيد للسلب والنهب لان القبائل العربية (السراسنة) التي حاربها الفرس كانت تقطع الطريق وتغيير على القرى العراقية الامنة في السهل الرسوبي ثالثا .
لقد شكل الفرس الجناح الثقافي والمدني الثاني للحضارة الاسلامية بعد السريان الاراميين في العراق وبلاد الشام ومصر من حيث التدوين والثقافة والفلسفة واللغة والعمارة والطب والملبس والفلك والفن والماكل والعلوم الطبيعية والسياسية والفنون الحربية وتاسيس علوم الاسلام وفروعه من قبيل التفسير وعلم الكلام والتصوف والفقه وعلم الاصول وغيرها (لان الثقافي لايندثر بل يتحول شيئا فشيئا نحو صيغة جديدة وهو لايفقد اصوله الثانوية) , فيما شكل العرب والترك الجناح السلطوي والبدوي للاسلام . اذ يمكن تقسيم الروافد العامة للاسلام الى قسمين رئيسيين :
القسم الاول : الروافد السلطوية والعسكرية البدوية (ويشمل العرب والترك) .
القسم الثاني : الروافد الثقافية والحضارية (ويشمل السريان والفرس) .
القسم الاول : الروافد السلطوية والعسكرية البدوية :
1 . العرب والاعراب (السراسنة) : يشكل الاعراب الركيزة الاساس للاسلام السلطوي والعسكري الحاكم حتى نسب المؤرخ الطبري القول للخليفة الثاني عمر بن الخطاب (الاعراب مادة الاسلام) والتي حورها البعثيون والقوميون العرب لاحقا الى (العرب مادة الاسلام) , وهى عبارة جريئة وشجاعة من الخليفة ابن الخطاب لانها تخالف الاية القرانية (الاعراب اشد كفرا ونفاقا) . ولم يضف العرب اي قيمة حضارية للاسلام بسبب البيئة الصحراوية والثقافة البدوية البعيدة عن التمدن والتحضر التي يتميزون بها واقتصر دورهم على ادارة السلطة السياسية وقيادة الجيوش والاشراف على الغزوات وممارسة اشد انواع الظلم والاستبداد والقمع للشعوب المحتلة في العراق وبلاد الشام ومصر وايران , لذا اعتبر ابن خلدون وجود العرب مرادف للخراب (ان العرب اذا تغلبوا على اوطان اسرع اليها الخراب , والسبب انهم امة وحشية فصارت طبيعة وجودهم منافية للبناء الذي هو اصل العمران) . وقد انشغل العرب بالسلطة والجواري والنهب والسلب بسبب فقرهم المعرفي وجوعهم الاسطوري وتعطشهم العاطفي في الصحراء , حتى قال ماكس فيبر (ان الاسلام قد افسده العرب المحاربون في القرن السابع .... وحولوا الاسلام الى دين شهواني .. وان حب الغنائم كان المحرك الوحيد للصحابة الاوائل ) . ويبدو ان هذا الامر هو الذي جعل الكتاب الغرب لايعتبرون الاسلام دينا , بسبب افتقاده النظم الاخلاقية والتطهرية حتى وصل الامر ان وصف الفيلسوف الالماني انجلز العرب البدو بانهم (امة من اللصوص) . وبالطبع ليس من المستغرب ان يظهر هذا الوصف من انجلز فسبق ان وصف هيغل الجزيرة العربية (العربية الهمجية) بسبب الغارات التي كان يقوم بها السراسنة (الاسم اليوناني للعرب وتعني ساكني الخيام) على اليونان والرومان في بلاد الشام ومن ثم والهروب نحو الصحراء . وقد صور الراهب والمؤرخ الانكليزي ادم بيد قبل وفاته عام (735) ميلادي هجمات الاعراب بقوله (في هذا الوقت قام الوباء الموجع المتمثل بالسراسنة بتخريب مملكة الغال) , فيما وصفهم الفيلسوف توما الاكويني بالاعاجم في كتابه (خلاصة ضد الاعاجم) .ولم يكتف العرب بتدمير الحضارات السريانية العراقية والارامية الشامية والقبطية المصرية والزرادشتية الايرانية بحجة الفتوحات ونشر الاسلام فحسب ,بل وقاموا بسرقة جهودها وثقافتها في تاسيس الحضارة الاسلامية الجديدة , وتسميتها بالحضارة العربية ,وهى اكبر عملية تزييف في التاريخ ان ياتي اقوام لصوص واعراب من اعماق الصحراء ويدعون تاسيس حضارة جديدة .
2 . الترك : يشكل الترك الركيزة الثانية للاسلام السلطوي والبدوي والعسكري . وكما في حالة العرب لم يشكل الترك اي قيمة حضارية وثقافية للاسلام بسبب الطابع البدوي لبيئتهم الجغرافية وثقافتهم الاجتماعية , واكد حسن العلوي في كتابه (التاثيرات التركية في المشروع القومي العربي في العراق)(لم تكن للاتراك دولة قومية عند وصول الاسلام اليهم ولم يكونوا اصحاب حضارة ... والفرق كبير بين دخول الفرس ودخول الترك الى الاسلام . كان العرب بدوا وكان الترك بدوا) (وصفهم الجاحظ بدو العجم) . ومن اجل ذلك اقتصر دورهم على السلطة والقمع والجيش والاشراف على السجون , وكما قال ابو حيان التوحيدي عن شجاعة الترك (انها شجاعة كشجاعة البهائم بلا معرفة) . ويبدو ان هذا السبب الذي جعل الخليفة العباسي المعتصم بالله يعتمد عليهم في بناء جيشه الجديد بالكامل بدعوى الخوف من الفرس والعرب , الامر الذي ادى الى تصادم كبير بينهم وبين اهل بغداد المتحضرين , فاضطر الى بناء معسكر في سامراء ,تحولت لاحقا الى عاصمة للدولة . وكان من اهم التداعيات السلبية لتسلط الترك على المجتمع الاسلامي هو الجمود الفكري وهيمنة النزعة العسكرتارية والارهاب والتقليد , وبسبب ذلك اتهم الشيخ محمد عبدة الخليفة المعتصم بمسؤولية استعجام الاسلام والجمود الفكري . والمفارقة ان اغلب الحكومات الاسلامية في التاريخ ترجع في اصولها للترك مثل (السلاجقة والمغول والجلائريين والخروف الابيض والخروف الاسود والمماليك والعثمانيين بل وحتى الصفويين يرجع اصلهم الى الترك) . وقد رفض الكواكبي حكم الترك العثمانيين لاسباب قومية وسياسية ودينية وقال (ان العرب اطلقوا عليهم اسم (الاروام) ارتيابا في اسلامهم , وانهم لم يخدموا الاسلام بغير اقامة بعض جوامع) . واما هيغل فقد اعتبر الارادة التي يمتلكها الاتراك بانها (ارادة اعتباطية وحشية ومحض تعصب يهدد بتدمير كل ماهو منظم وكل شكل من اشكال الحقوق والقيم الجماعية , ويمكن ان تجد تجسيدها الملموس في سلوكية فرقة الانكشارية في الجيش العثماني) . فلاعجب ان اعتبر جورج طرابيشي صدور البيان القادري في مطلع القرن الخامس الهجري وسيطرة السلاجقة الترك على بغداد وتكفير الغزالي للفلاسفة في كتابه (تهافت الفلاسفة) بداية انغلاق الحضارة العربية على نفسها .
القسم الثاني : الروافد الثقافية والحضارية :
1 . السريان الاراميين المسيحيين (العراقيون والشاميون والمصريون) . وهم من اهم الروافد الثقافية والحضارية للاسلام , حتى قال المؤرخ توينبي (ان الاسلام نشا في احضان السريانية) بل ان الشهيد مطهري فضلهم حتى على دور الفرس واعتبرهم الرافد الاساس للحضارة الفارسية الساسانية بقوله (وكانت اهم ناحية من نواحي الدولة الايرانية الساسانية ارض العراق بين النهرين .....وان اكبر خدمة قدمها هؤلاء لايران هى انهم كانوا يترجمون علوم اليونان الى اللغة السريانية . وهم الذين اشاعوا الطب والرياضيات والنجوم والفلسفة في ايران , وقام من بينهم علماء كثيرون , وكانت لغتهم السريانية قد شاعت لدى البلاط الساساني بعد ان كانت اللغة الارامية هى اللغة الرسمية للدولة في ايران) . كما ان للمسيحيين - وخاصًة السريان والنساطرة - دور مهم في الترجمة والعلوم - بخاصة أيام الدولة العباسية - أدت الى ازدهار الحضارة العربية الإسلامية . فقد استوعبوا محتويات الكتب المترجمة ، بعدما عربوها وأعادوا صياغتها وطوروا مضمونها وأجروا عمليات نقد عليها وأعادوا إنتاج الثقافات السابقة لهم ووضعوها بين يدي العالم .الا ان المؤسف له ان الاعراب وبعد احتلالهم الغاشم والبربري للعراق قاموا بتدمير التراث الثقافي النبطي السرياني الارامي من خلال احراق مكتبة المدائن العامرة بامر من الخليفة عمر بن الخطاب (كما ذكر ذلك ابن خلدون في مقدمته) . وبهذا الصدد ذكر جورج طرابيشي في كتابه (من النهضة الى الردة) ان الانتلجنسيا المسيحية السريانية (هى عينها التي اخذت على عاتقها في اديرة السريان من يعاقبة ونساطرة في سوريا والعراق مهمة الحفاظ على التراث اليوناني في زمن السيادة الارامية كلغة وثقافة مشتركة ,وهذه الانتلجنسا هى عينها اخيرا التي تصدت وتعربت واسلمت شرائح واسعة منها لعملية بناء العصر الذهبي للحضارة العربية الاسلامية بشراكة مفتوحة مع مثقفي الاقاليم الناطقة بالفارسية) . ويمكن الاطلاع اكثر على المعطيات الحضارية للسريان العراقيين في كتاب (اصول الثقافة السريانية في بلاد مابين النهرين) للكاتب فؤاد يوسف قزانجي .
2 . الفرس . كان للفرس حضارة عريقة في مختلف المجالات الثقافية والمدنية والادارية , ومن الطبيعي ان تفرض هذه الحضارة نسقها وتاثيرها المباشر على الاسلام الوافد الجديد من حيث تجليات الرقي والثقافة والعرفان والفلسفة . وكما قال احد المستشرقين في كتاب(التمدن الايراني) (ان الايرانيين قدموا للاسلام بقايا حضارة مهذبة نفث فيها الاسلام روحا جديدة , فوجدت حياة جديدة) . وقد اكد الشهيد مطهري في كتابه (الاسلام وايران) (ان الحضارة الفارسية كانت في طريقها الى التقهقر ووجدت بالاسلام روحا جديدة وحياة اخرى) . واحتلوا الفرس مركز الامة الثانية بالقدم في الاسلام بعد العرب .وكان من اهم سمات تلك الحضارة هى الكتابة والتدوين , فقد اكد المؤرخ ابراهيم ايوب ذلك بقوله (تولى الاعمال الكتابية في الخلافة العباسية الفرس لان الفرس كانت لهم القدرة الفائقة في الكتابة بينما كان العرب يفتخرون بالسيف لا بالقلم) . كما ذكر ابن خلدون (أنها لحقيقة جديرة بالملاحظة بأن معظم العلماء المسلمين في العلوم الفكرية كانوا من العجم (غير العرب) لان العرب أبعد الناس عنها , فصارت العلوم لذلك حضرية وبعد عنها العرب ..... والحضر في ذلك العهد هم العجم أو من هم في معناهم من الموالي وأهل الحواضر الذين هم يومئذ تبع للعجم في الحضارة وأحوالها من الصنائع والحرف لأنهم أقوم على ذلك للحضارة الراسخة فيهم منذ دولة الفرس فكان صاحب صناعة النحو سيبويه والفارسي من بعده والزجاج من بعدهما وكلهم عجم في أنسابهم وإنما ربوا في اللسان العربي... ) . واما المستشرق هاملتون جب فقد اكد تاثير الفرس حتى على الجوانب الجمالية في الثقافة الاسلامية بقوله (ومن الاقوال التي اعتاد الناس سماعها ان العرب مدينون للفرس في معظم التطورات الحديثة التي جدت على الثقافة الاسلامية . حقيقية لقد عمل الفرس كثيرا على النهوض بمستوى الحضارة الاسلامية في العصور الوسطى وعلى الاخص في مستوى الذوق الجمالي) .
وقد اكد احد الباحثين المعاصرين (انه في الوقت الذي بدأ فيه دور العرب الحضاري بالتراجع في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري، وأخذوا يشكلون الفرق والجماعات (الشيعية والسنية)، علا نجم المسلمين الفرس، فبرز منهم أغلب علماء الحضارة الإسلامية ، فيكفي أن تعلم أن ائمة المذاهب الاربعة هم الموالي الفرس وهم ابو حنيفة النعمان والشافعي والمالكي وابن حنبل . واصحاب الحديث او الاصحاح الستة من الموالي الفرسٌ وهم البخاري ومسلم والترمذي وبن ماجه والنسائي وابي داود إضافة إلى إسحاق بن راهويه والبيهقي والحاكم ومجاهد وعطاء وعكرمة وسعيد بن جبير والليث بن سعيد وطاووس بن كيسان والبيهقي ومكحول وبن سيرين والحسن البصري والحاكم صاحب المستدرك والايجي والكرماني والمروزي والسجستاني وابن ذكوان وابو نعيم صاحب الحلية والشهرستاني وابن حزم الاندلسي والثعالبي النيسابوري وابن النديم صاحب الفهرست والاعمش والفراء والكثير من أعلام علم الحديث . وأما علماء التفسير فمعظمهم من الفرس على رأسهم الزمخشري والرازي والبغوي والطبري والبيضاوي وابن كثير وغيرهم من علماء التفسير، وأما أئمة اللغة العربية والأدب فكانوا ايضا من الفرس على رأسهم سيبويه ونفطويه وأبو علي الفارسي والزجاج وابن المقفع وبديع الزمان الهمداني والاخفش الوسط والكسائي القارىء وابن الانباري وابو علي الفارسي والجرجاني وابن السكيت وابن قتيبة الدينوري والسيرافي وابن خالويه الهمداني والجوهري . وكذا الامر مع المؤرخون ابن اسحق والواقدي والطبري والبلاذري والاصفهاني وابو حنيفة الدينوري وابن خلكان والجغرافيا المقدسي والاصطخري ومتكلمي السنة هم واصل بن عطاء مؤسس المعتزلة وابو الهذيل العلاف والنظام وعمرو بن عبيد وابو منصور الماتريدي وابو اسحق الاسفرائيني وابو اسحق الشيرازي وامام الحرمين الجويني والغزالي وابو علي الجبائي والبلخي وفخر الدين الرازي . واما العلوم الطبيعية فأغلب علمائها من الفرس امثال جابر بن حيان والخوارزمي والحسن بن الهيثم والبيروني . والفلاسفة الفارابي والغزالي وابن سينا وشهاب الدين السهروردي والكاشاني وصدر الدين الشيرازي (صدر المتالهين) ونصير الدين الطوسي واعلام التصوف الاسلامي مثل الحلاج ومعروف الكرخي وابن عياض وبشر الحافي والجنيد البغدادي والتستري وابو نصر الطوسي وابو طالب المكي وعبد القادر الكيلاني وجلال الدين الرومي وحافظ الشيرازي وعبد الكريم الجيلي . والقائمة تطول وتطول من أسماء العلماء الفرس الذين حملوا مشكاة العلم في الحضارة الإسلامية . فبلاد فارس كانت أرضا إسلامية ناطقة بالعربية ، تعج بالمدارس والمعاهد العلمية حملت راية العلم والثقافة في الحضارة الإسلامية) . وقد اعترف محمد عابد الجابري بهذه الظاهرة التي تتميز بالمفارقة قائلا (وكما لاحظ ابن خلدون بحق، فإذا كان الظاهر هو أن المغلوب يقتدي بالغالب، فقد يحدث العكس كما حصل بين العرب والفرس : لقد تغلب العرب زمن الفتوحات على الفرس عسكرياً وسياسياً ولكن الفرس لم يقلّدوا العرب حضارياً، بل العكس هو الذي حصل، أي أن الغالب هو الذي قلّد المغلوب. وعندما تنبّه العرب إلى ذلك وصار المغلوب ينتفض ويحاول استرجاع السيادة السياسية من طريق "الثقافة" (الحركة الشعوبية، حرب "الكتب"... الخ)، برز عنصر ثالث هو الثقافة اليونانية التي انفردت بحقلين ثقافيين مهمين: العلم والفلسفة، فحصل نوع من التداخل الثقافي، غني وقوي، بين ثلاثة أطراف: العرب، والفرس، والسريان (حاملو الثقافة اليونانية). واما المستشرق هنري ماسيه فقد اكد في كتابه (الاسلام) (بان النفوذ الفارسي نقل مقر الخلفاء من دمشق الى بغداد وغير صفة الحكومة فالخلافة العباسية (التي طالما افتخر بها القوميون العرب) كانت كانها تجسيد للملكة الساسانية ولم يظهر التاثير الفارسي في مراسم البلاط والملابس فقط بل تعداهما الى الفنون والاداب) . واذا عرفنا ان عملية التدوين والتاريخ وجمع الحديث والاصحاح وظهور المذاهب والتيارات والفرق الاسلامية قد حدثت في العصر العباسي الذي تميز بهيمنة الفرس ثقافيا وسياسيا ودينيا ,لعرفنا مقدار الاختراق الفارسي للدين الاسلامي (السني والشيعي) على حد سواء .
لقد كان الباحثين والمؤرخين العرب والمسلمين لايتحرجون عن ذكر العلماء والفلاسفة والفقهاء والمتصوفة والمتكلمين الذين يرجعون باصولهم الى بلاد فارس , لانها كانت سنية المذهب وليس فيها اي اشكال طائفي او عنصري ,وتشكل اضافة اعتبارية وقيمة رمزية لهم , بل يمكن القول ان من اسس المذهب السني فقها وعقيدة وتنظيرا ايديولوجيا هم الفرس الايرانيون , فيما اسسه حكما وسلطة وانتشارا هو معاوية بن ابي سفيان , الا انه وبعد تحول ايران للتشيع قبل (500) عام ,وجد العرب – وخاصة السنة العراقيين – انفسهم في موقف محرج من هذا التحول الخطير , فاصيبوا بجرح نرجسي حول الاعداد المهولة للعلماء والفلاسفة والمتكلمين والنحويين والفقهاء والادباء والمتصوفة الفرس , حتى يمكن القول ان نسبتهم قد تصل الى ثلاث ارباع العدد الكلي من علماء المسلمين ,واعتبروا ذلك نقطة لصالح الخصم وصفحة سوداء في تاريخهم , فعمدوا الى التعمية والتغطية على هذه الحقيقية في المناهج الدراسية او غيرها ,من خلال الايحاء كذبا بانهم علماء عرب هاجروا الى بلاد فارس , كما في كتاب الدكتور ناجي معروف (عروبة العلماء المنسوبين الى البلدان الاعجمية ) الذي اصدرته وزارة الثقافة العراقية ابن الحكم البعثي الطائفي بين الاعوام (1974 – 1978) او في احسن الاحوال وضعهم جميعا تحت عنوان (العلماء المسلمين) . واما الكاتب سليم مطر الذي تتصارع عنده التوجهات اليسارية التي تاثر بها في مدينة الثورة وبين النوازع القومية التي استحكمت على ميوله النفسية واللاشعورية بسبب اصوله العشائرية التقليدية والبدائية من العمارة , فقد اراد في كتابه (الذات الجريحة) نفي الاصول الفارسية لاغلب العلماء والفقهاء والفلاسفة والمتصوفة , والادعاء كذبا بانتسابهم الى الاراميون العراقيون النبط . وهذا الراي يحوي نوعا من التدليس والتذاكي وخلط الاوراق فهو لايستطيع ارجاع اصولهم للعرب بحسب ميوله اللاشعورية القومية , لان هذه الورقة اصبحت قديمة ومفضوحة , فعمد الى ارجاعهم الى السريان العراقيون القدامى بدعاوى وطنية . فيما ان السبب الكامن والحقيقي هو العقدة والتحرج من ايران والفرس واعطاء الافضلية لها في هذه المجالات , رغم ان الكتاب السنة انفسهم والمستشرقون كلهم اثبتوا فارسية هؤلاء العلماء . وهذا الحال ليس بالمستغرب عند سليم مطر , فالكثير من الشيوعيين اصبحوا في اواخر عمرهم وكبر سنهم قوميون وعروبيون , بل واخذوا يتبنون الخطاب البعثي الطائفي الصريح , والسبب يعود الى انبهارهم الطفولي بالسلطة القومية والنزعة العسكرتارية للدولة العراقية سابقا , والرغبة باثبات عروبتهم ووطنيتهم والدفاع عن انفسهم من التهم الطائفية والشعوبية التي الصقتها الحكومات البعثية بالشيعة . واذا عرفنا ان سليم مطر اعلن صراحة بالفيس بوك عام 2019 نيته تاليف كتاب عن (الصراع التاريخي بين الفرس والعرب) لعرفنا مقدار صحة جميع الاراء التي ذكرتها سابقا في مقالاتي حول التاثير اللاشعوري للقومية العربية على الانتلجنسيا الشيعية , وذكرنا امثلة عن ذلك في كتابات عزيز الحاج وكاظم حبيب ورشد الخيون ونوري المرادي وفالح مهدي وخزعل الوصال وغيرهم . ولايمكن القول ان هؤلاء الاخوة الكتاب قد تحولوا للايديولوجية القومية العربية رسميا , وانما صراع داخلي ينتابهم بين الحين والاخر , بسبب التوجهات الواعية لليسارية والشيوعية التي ينادون بها والرغبات القومية اللاواعية التي انسابت اليهم من اصولهم الريفية والمحلاتية اولا والتدجين الطائفي والخصاء البعثي والاستهداف الحكومي ثانيا (كما في حالة الشاعر المعروف سعدي يوسف وقصائده القومية والطائفية الاخيرة) . فعندما اعلن الكاتب سليم مطر بالفيس بوك نيته تاليف كتابه هذا عن (الصراع التاريخي بين الفرس والعرب) ذكرت له بان كتب خير الله طلفاح تنفعه بهذا المجال كمصدر مهم , اصيب بالتوتر والغضب والانفعال من هذا الاقتراح , ويبدو ان شعر بالحرج من استدراج اللاشعور القومي له حتى وصل الحال به ان يتبنى مواقف خير الله طلفاح نفسه فغضب من هذا الراي واتهمني بالعمالة للمالكي والفرس المجوس !!!
في الواقع لااحد ينكر ان هناك توترات وحساسية بين العرب والفرس في اعقاب الغزو العربي للمناطق الحضارية التقليدية الاربعة في (العراق وبلاد الشام ومصر وايران) وهذا التوتر يرجع الى ثلاث اسباب :
الاول : السبب الحضاري : وهو المعطى الحضاري والتاريخي المتميز للفرس قبل الاسلام . فكلنا يعلم ان للفرس موروث حضاري قديم واجه اليونان والرومان قرون طويلة , فيما كان العرب امة وحشية متخلفة واباحية وتعيش بقايا المشاعية , وليس لها اي حظ من الحضارة والعمران – كما يقول ابن خلدون – لانهم في الاصل امة صحراوية وبدائية , وبما انهم عاشوا في بيئة مقفرة وقاسية , فقد وجدوا في الاسلام افضل فرصة للانقضاض على هذه المركز الحضارية الاربعة ونهب اموالها وسبي نسائها والسيطرة عليها . ويبدو ان العرب لم يكتفوا بعمليات السلب والنهب فقط , بل ونسبوا للرسول محمد كذبا تاييده للغزوات المبكرة وتلك الاعمال , ففي كتاب (كنز العمال) ادرجوا الحديث الاتي (والذي نفسي بيده ليفتحن عليكم فارس والروم ، ولتصبن عليكم الدنيا صبا) .وكل ذلك طبعا باسم الاسلام ونشره , وفعلا فقد نجح السراسنة في ذلك نجاحا باهرا من خلال اسلوب التوحش والهمجية الشبيه حاليا باسلوب (داعش) اليوم . الا ان الاشكال هو ان العرب اخذوا يشعرون بالنقص والدونية والاستلاب امام المعطى الحضاري الفارسي والتفوق المدني والجمالي , سيما بعد ان تجلي ذلك التفوق في جميع مظاهر التحضر والادارة والثقافة اولا وبروز اعلام الفرس في جميع مياديين الفلسفة والعرفان واللغة والتاريخ والفقه والحديث وعلم الكلام والتفسير ثانيا . الامر الذي شكل نوعا من الحسد والغيرة والحقد الباطني الذي لم يظهر للوجود بقوة بسبب الترابط المذهبي السني انذاك بين عامة المسلمين والفرس , وبقى ضمن نطاق اللاشعور الجمعي والكبت القومي حتى بروزه للعلن بعد تحول ايران للتشيع عام 1501 وتاسيس الدولة الصفوية ,عندها ظهر القيح والدم الاعرابي البربري بصورة لامثيل لها من الحقد والغل والكراهية انعكس في صور سوريالية من التكفير والتخوين والتشويه والارهاب . وكذا الامر مع الفرس فهم لايستوعبوا سيطرة العرب القادمين من الصحراء والمتخلفين حضاريا عليهم فشعروا ايضا بالتوتر من هؤلاء الوافدين الغرباء .
الثاني : السبب القومي (العرقي) : هذا التوتر لم يقتصر بين الفرس والعرب فحسب , بل هو جزء من مشكلة اعم واشمل وهو التوتر بين العرب والموالي , على اعتبار ان الفرس هم جزء من الموالي . فكلنا يعرف ان الشعوب والامم المفتوحة من قبل العرب اطلق عليهم تسمية الموالي ,وهو الاراميون النبط والسريان والفرس والاقباط والامازيغ , وكانوا يعتبرون انفسهم اصحاب حضارة عريقة ومدنية راسخة , فيما ان العرب كانوا يعاملونهم باحتقار وتعالي ويجبرونهم على الانضمام الى احدى القبائل العربية كموالي ,رغم انهم ابعد الناس عن التحضر والثقافة ولاحظ عندهم سوى استخدام السيف والغزو الذي استطاعوا به قهر الموالي واحتلال مدنهم واغتصاب اراضيهم ,حتى وصال بهم الحال القول (اهل السواد ارقاء)(وهذا السواد بستان لقريش) , بل ان العنجهية العربية البدوية لم تجعل لهم اي حقوق او دور سياسي واقتصادي رغبة بالاستحواذ على املاكهم واراضيهم والهيمنة على مقدراتهم , وصل الحال ان استمرت بفرض الجزية عليهم رغم اسلام الكثير منهم , الامر الذي شكل توترا قوميا بين العرب الحكام من جهة والموالي المحكومين من جهة اخرى . انعكس في صور عديدة من الاحتراب والانقسام والحرب الثقافية , كان اخرها ظهور جماعة التسوية الذين ينادون بالمساواة بين العرب والموالي والمعروفين بالادبيات العربية بالشعوبية . وافضل من عبر عن هذا الراي الشهيد مطهري عندما قال (ان الايرانيون قبلوا الاسلام دينا لهم ولم يكونوا يقبلون العرب اسيادا عليهم ,لان الامم المغلوبة كانت ترحب بالاسلام في بداية الامر لتجرده من اي لون قومي او صبغة عنصرية . فهو بذلك دينا انسانيا عاما ولم يكن الايرانيون – وهكذا سائر المسلمين – يقبلون سيادة العرب عليهم) .
الثالث : السبب السياسي : ونعني به التوتر والاشكالات السياسية التي حصلت بين العرب والموالي الفرس بسبب الصراع على السلطة والهيمنة والنفوذ . فكنا يعرف ان الفرس اصحاب حضارة وسياسية وادارة ناجحة وخبرة في التعامل الحضاري والمدني مع الناس واستعان بهم الحكام العرب كوزراء ومستشارين في الادارة , كما في حالة الوزراء ابي سلمة الخلال وابو ايوب المورياني ومعاوية بن يسار وتعيين الرشيد للبرامكة والفضل بن سهل وغيرهم , والسبب هو ان منصب الوزير اخذ اصلا من الفرس . كما ان الخلفاء انشغلوا بالمجون والخلاعة والجواري والغناء وليس عندهم الوقت لمتابعة الادارة والرعية . وذكرت ازهار احمد حمدان التميمي (ولم يكن العباسيون يعارضون ثقافة الفرس بل كانوا يميلون إليها ، لذلك اقتبسوا في جملة ما اقتبسوه من الفرس إدارتهم ونظمهم في الحكم وأصبحت كلمة الوزير تستعمل في الإدارة الإسلامية منذ ذلك الحين , بل بالغ الخلفاء العباسيون في التأثر بالنظم الفارسية إلى حد أنهم اتخذوا معظم وزرائهم من الفرس) . فكان من الطبيعي والحال هكذا ان تحصل تقاطعات وصراعات واشكالات سياسية واقتصادية واجتماعية بين العرب واولئك الوزراء المتنفذين الفرس حسدا وغلا , والعمل على تشويه سمعتهم والنيل منهم من خلال استحضار المتخيل العربي ضد الموالي والاستعلاء القومي والعنصري ,وكلنا نعرف ان الاشكالات والصراعات السياسية اذا لم تحل انيا فانها تتحول الى اشكالات اجتماعية (طائفية واثنية ودينية وقومية) او قد تعمل السلطات النافذة على اعطائها بعدا اجتماعيا من اجل استحضار المكبوت عند المجتمع المازوم ضد الاخر المختلف بالثقافة والتوجه السياسي والثقافي. كما في حالة السلطات القومية والطائفية في العراق قبل 2003 التي عملت على استتنهاض المتخيل ضد الشيعة والكورد عند ابناء المجتمع . فضلا عن ذلك ان انضمام الموالي الى اغلب حركات المعارضة والتمرد والثورة ضد السلطات الاموية والعباسية - وخاصة الشيعية - ساهم ايضا بزيادة الاحتقان والتوتر السياسي والاجتماعي بين العرب والموالي الفرس ,لان السلطات الحاكمة عملت على تشويه المعارضين والخارجين عن الدولة من خلال استخدام سرديات التكفير والتشويه والتخوين التي يطلقها الفقهاء والخطباء والكتاب الذين كانوا يشكلون انذاك الاداة الاعلامية الرئيسية المؤثرة على المجتمع وعامة الناس .
وقد اشاع البعض ان الدافع الاساسي في استلهام الفرس للدين الاسلامي الجديد وتاسيس حضارته وثقافته ومعارفه الفلسفية والفقهية والعقائدية والاصولية , انما كانت رد فعل ثقافي وفكري على هزيمتهم العسكرية امام العرب في معارك القادسية ونهاوند وجلولاء , وانهم لم يتحملوا سقوط دولتهم وامبراطوريتهم العظيمة على يد العرب الغزاة الحفاة , وارادوا اثبات وجودهم وتفوقهم من خلال الانتصار الثقافي والعلمي والحضاري في هذه الحرب , وجعل الاسلام يحمل صبغة فارسية خاصة , تبلورت في البدء من خلال التسنن والاعتزال اولا ثم التشيع والتصوف لاحقا . في الواقع ان هذا الكلام يحمل جانبا من الصحة اذا اعتبرنا هذا الافعال والسلوكيات لاشعورية وعفوية تقوم بها المجتمعات المتفوقة مدنيا وحضاريا , لان الانماط الحضارية والثقافية لامة ما لاتموت او تندثر , وانما تبعث نفسها من جديد عند توفر الظروف الملائمة , كما حصل مع السريان النبط في العراق والاقباط في مصر والاراميين في بلاد الشام , الذين فرضوا انساقهم الحضارية والمدنية على الاسلام . الا ان القول والادعاء ان هذا الفعل هو سلوك واعي او ورد فعل شعوري او ضمن تخطيط مسبق قام به الفرس للنيل من العرب بدافع الثار والحقد على تلك الهزيمة , فهو كلام غريب وغير عقلاني او موضوعي , ويحمل جانبا كبيرا من نظرية المؤامرة لسبب بسيط هو : ان هذا القول يتناقض مع مايذكره المؤرخون والباحثون العرب انفسهم بان الفرس كانوا يتعرضون للظلم والاضطهاد والتمييز من حكامهم , وانهم رحبوا بالفاتحين العرب الذين حرروهم من تلك الدولة الغاشمة وتسلط الدهاقنة , حتى ان احتلال الامبراطورية الفارسية العظيمة المترامية الاطراف من الفرات الى نهر جيحون لم يستغرق سوى عشرين عاما فقط !! الا انهم بعد ذلك ينسون انفسهم ويقعون بهذا التناقض الغريب , ويذكرون ان الفرس يحقدون على العرب والمسلمين لانهم اسقطوا دولتهم وامبراطوريتهم , وانهم دخلوا للاسلام من اجل تقويضه وتدميره من الداحل !!! وقد رد الشهيد مطهري في كتابه (الاسلام وايران) على هذا الراي بالقول : بان اخلاص الفرس في خدمة الاسلام وتاسيس حضارته ومعارفه وعلومه يدحض هذا القول , لان الانسان الحاقد - كما هو معروف - لايعمل باخلاص في خدمة من يكرههم وبحقد عليهم . واكد قائلا بانه حتى لو كان هذا القول يشمل الفرس المعاصرين للغزو والاحتلال العربي لايران , فهو حتما يشمل الجيل المعاصر للاحتلال فقط , وليس كل الاجيال اللاحقة التي اصلا لم تعرف الامبراطورية او تعاصرها , وانما عاصرت دولا جديدة وحكاما مسلمين مختلفين , وليس من المعقول ان يستمر رد الفعل على تلك الهزيمة اربعة عشر قرن . وقد اراد البعض ازالة هذا التناقض بالقول ان الارستقراطية الفارسية هى من اخذت تحقد على العرب لانه ازال امتيازاتهم ودولتهم وليس العامة من الناس , وهو ايضا راي لايصمد امام واقع ان تلك الارستقراطية هى اقلية لايعتد بها اولا والعرب اثبتوا امتيازاتهم ولم يصادروها بتعيين الدهاقنة انفسهم كمشرفين على الجباية ثانيا . علما ان اكثر من روج لهذه الظاهرة التي بعثت بقوة – كما قلنا – بعد تحول الفرس للتشيع هم الكتاب الطائفيون والقوميون العنصريون والمستشرقون الغربيون الذين كانوا يصرون على تسمية الحضارة الاسلامية بالعربية من اجل الفصل بين القوميات الاخرى - واهمها الفرس - وبين العرب لاغراض سياسية وسلطوية . وكمتلازمة لهذا الموضوع فقد اشاع البعض ايضا ان الفرس يحقدون على الخليفة عمر بن الخطاب لانه اسقط امبراطوريتهم ودولتهم , وهذا خطا كبير لايغتفر لان اسقاط الدولة الفارسية ومقتل اخر كسرى عندهم وهو يزدجرد الثالث المعروف بلقب برويز (631-651) لم يكن في عهد الخليفة ابن الخطاب , وانما قتل سنة (30) هجرية في عهد الخليفة عثمان بن عفان . ولم يقتصر الامر على هذا الراي فقط , وانما اشاع البعض من الكتاب الطائفيون والمستشرقون ايضا (امثال فلهوزن وبراون ونيكلسون) ان تبني الفرس للتشيع هو ايضا من اجل تقويضه والهجوم عليه وتدميره من الداخل , وكأن التشيع ليس من الاسلام والمسلمين !! وهذا الراي هو ليس اغرب من الراي الاول حول رد فعل الفرس ضد الاسلام وحسب , بل هو قراءة اسقاطية ساذجة للتاريخ وتفتقر لابسط البديهيات , لان الفرس عندما دخلوا الاسلام فانهم اعتنقوه ضمن المذهب السني البسيط انذاك , ولم يكن الايرانيون الفرس في العقود الاولى من الاسلام شيعة ابدا , وانما كانوا سنة متعصبين وامويين , والتشيع كان مقتصرا على مدينة قم في جنوب طهران ومشهد في خراسان , (والاخيرة كانت تضم القبائل العربية التي هجرها الامويين) فكيف يكون التشيع رد فعل الفرس ضد العرب والاسلام ؟! الا اللهم القول ان الفرس انتظروا تسعة قرون متتالية لياخذوا ثارهم من العرب والاسلام عندما تحولوا للتشيع في القرن العاشر الهجري !!! والمفارقة الاغرب في هذا القول ايضا ان بعض القوميين الايرانيين المتطرفين وخاصة ابان حكم الشاه العلماني القومي , قد اشاعوا ايضا مقولة الرفض الفارسي للاسلام واضطرارهم القسري للايمان به واعتبار التشيع والتصوف هو احدى وسائل الرفض والمقاومة الذاتية للقومية الفارسية بوجه العرب . فقد اشار المؤرخ الايراني قاسم غني الى ذلك بالقول (ان التشيع والتصوف كانا من الاسلحة التي حارب بها الفرس العرب للقضاء عليهم) الا انه استدرك معقبا (ان هذا لم ياتي عن اختيار متعمد او ارادة او خطة مرسومة وانما بحكم الانفعال النفسي وتاثير العواطف والاحاسيس الخفية) . الا ان السؤال الذي يطرح نفسه اذا كان التشيع هو وسيلة الفرس للقضاء على العرب انذاك , فلماذا لم نجد اي ثورة او انتفاضة شيعية فارسية بالتاريخ ؟؟ وان جميع الثورات هى عربية وعلوية خالصة . ثم كيف يكون التصوف هذا المعطى المسالم والزاهد والعابد طريقا للقضاء على العرب ؟! اعتقد ان من اهم سمات الشخصية الفارسية الارية هى الاخلاص بالقول والعمل وهو احد اسرار تفوقها على العرب الساميين في الحضارة والثقافة والتمدن , وانهم حملوا الاسلام وخدموه باخلاص وصدق , وليس بحقد وتامر – كما صور ذلك الكتاب القوميون والطائفيون – وان بصماتهم الايجابية على الاسلام والحضارة الاسلامية تشهد على ذلك , الا ان الفرس من جانب اخر لم يلغوا هويتهم القومية واعجابهم الذاتي بتاريخهم وحضارتهم العظيمة والخالدة , واعترفوا بالتزاوج بين الدين الاسلامي والحضارة الفارسية وكما قال الشاعر مهيار الديلمي :
قومي استولوا على الدهر فتى ومشوا فرق رؤوس الحقب
وابي كسرى على ايوانه اين في الناس اب مثل ابي
وقبست المجد من خير اب وقبست الدين من خير نبي
وضممت الفخر من اطرافه سؤدد الفرس ودين العرب
وكما ذكرنا سابقا ان كل تلك التوترات الحضارية والقومية والسياسية بين العرب والموالي الفرس لم تصل سابقا في الموروث التاريخي والعربي الاسلامي الى درجة القطيعة والعقدة النفسية والاجتماعية , لان الفرس كانوا انذاك حماة المذهب السني ودعاته الاصليين ومنظريه الايديولوجيين , وان العقل الطائفي العربي كان يتحمل تلك التوترات الحضارية والقومية والسياسية بين الفرس والعرب , الا انها لم تتحول الى عقدة قومية وطائفية الا بعد ان تحولوا للمذهب الشيعي من قبل الشاه اسماعيل الصفوي عام 1501 والتي صادف خلالها - لسوء الحظ - الصراع مع الدولة العثمانية السنية , عندها بدات العقدة من الفرس وايران بالتشكل تدريجيا والتبلور مرحليا , استحضر لها خطابات من الحقد والغل والكراهية خرجت من خلف اسوار التاريخ ,قام على ترويجها العديد من الفقهاء والخطباء والكتاب والاعلاميين الطائفيين , من خلال سرديات الاعلام والتربية والجيش والتعليم , وتحول الفرس بقدرة قادر (او تحديدا بقدرة الدولة العثمانية) من بناة الاسلام الحضاري والمدني والجمالي الى متهمين بالهدم والتامر على الاسلام .
وبعد تاسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921 نقل اقطاب السلطة من الضباط الشريفين وزعماء الحكومات العراقية من احفاد المماليك والانكشارية والترك وحتى الفرس – كما سنرى – من خريجي مدارس اسطنبول العسكرية والمدنية الحقد العثماني ضد الفرس الى مؤسسات الدولة الفتية وخطابها الاعلامي ومناهجها الدراسية وسلوكها الاقصائي , الا ان الامر المختلف والمتغير المفاجىء هو ان الخلافة العثمانية قد الغيت من قبل مصطفى كمال اتاتورك عام 1922 الذي دخل في علاقة متميزة مع رضا شاه بهلوي زعيم ايران الجديد (1921 – 1941) , فنقل اقطاب السلطة الصراع من الفرس الى الشيعة العراقيين , واتهامهم بالعجمة والشعوبية لاسباب اقصائية ومتعلقات طائفية تتعلق بالرغبة في الهيمنة على السلطة واستغلال مقدراتها الاقتصادية والسياسية والاستحواذ على مناصبها الامنية والعسكرية والتعليمية ,مستغلين الترابط المذهبي بين العراق وايران والانتقال الجغرافي لزيارة العتبات المقدسة عند الطرفين والدراسة الدينية في الحوزة العلمية وغيرها .
ويعد العراق الميدان الاول لتشكيل العقدة الطائفية من ايران , ليس لان ارضه منبع الطائفية الاموية والعباسية ومؤسسها الاول ومقرها الاصلي في التاريخ الاسلامي فحسب , بل لانه كان الميدان الاول للصراع العثماني – الصفوي . وتجد هذا واضحا في التاليف الضخم والهجوم المتحتدم لملايين الكتب والمؤلفات والمجلات التي طبعت خلال المائة عام الاخيرة ضد الشيعة بعامة والفرس والايرانيين بخاصة , تورط في مستنقعها النتن اكاديميون وكتاب وشعراء وسياسيون من امثال محمود شكري الالوسي ومعروف الرصافي وعبد الرزاق الحصان وفاروق عمر وخالد الجنابي وعبد العزيز الدوري وعبد الله سلوم السامرائي وعبد الحميد العلوجي وسيار الجميل ومحمد بهجت الاثري وغيرهم . ويمكن اجمال اسباب العقدة السنية العراقية من ايران والحقد المتطرف عليها الى خمس اسباب هى :
1 . المقتضيات الطائفية والعنصرية وتحول ايران للتشيع قبل حوالي خمس قرون ودورها البارز والرئيسي في نشر المذهب في ارجاء العالم وتقويته ورسوخه . ورغم الادعاء بالتفوق القومي والسبب العروبي للسنة العراقيين في العقدة من ايران , الا ان هذا ليس سوى قول كاذب يراد به استمالة واستغلال المغفلين والمخصيين الشيعة من المثقفين والعامة على حد سواء في خلق الرابطة العضوية للهجوم على ايران وباقي القوميات الاخرى , وقد نجحوا في ذلك الخداع – للاسف - نجاحا باهرا من خلال استدراج واستمالة الكثير من الاكاديميين والمثقفين والكتاب والادباء الشيعة لهذه العقدة .
2 . الصراع الصفوي - العثماني او الصراع بين الحكومات الايرانية الشيعية اللاحقة - مع الدولة العثمانية المقدسة عند اهل السنة . فكلنا يعلم ان سنة العراق عندهم انبهار عجيب وتقديس اسطوري للعثمانيين سابقا والترك لاحقا , لذا تجد عندهم ليس الانحياز للتاريخ العثماني واعماله البربرية وافعاله الهمجية ضد المجتمعات العربية وغير العربية – ومنها العراق – فحسب , بل والتستر على الشعوبية التركية التي احتقرت العرب واستبعدتهم واذلتهم واغتصبت اعراضهم , فيكفي ان تعرف مثلا ان الدكتور والمؤرخ عبد العزيز الدوري في كتابه (التكوين التاريخي للامة العربية) لم يذكر سياسية التتريك التي قام بها جماعة الاتحاد والترقي بعد الانقلاب العثماني وثورة الاتحاديين عام 1908 سوى سطرا واحدا . والغريب ان الدكتور سيار الجميل الموصلي لم يذكر حتى اصطلاح (التتريك) في كتابه (المجايلة التاريخية) وليس سطرا واحدا عند سرد تاريخها في هذا النص (وتعد سنة 1908 علامة فارقة في حياة هذا الجيل اذ انطلقت منه المشروطية الثانية - العمل بالدستور - وولادة السياسية العثمانية الجديدة التي شاركت النخبة العربية المثقفة فيها , ثم انقلبت عليها نتيجة الممارسات التي زاولها الاتحاديون , فكان ذلك بمثابة الشرارة القومية) . ويكفي ان تعرف ان سبب عدم وجود نهضويين بارزين من سنة العراق ضد الدولة العثمانية - كما هو حاصل عند المصريين والشاميين - هو تقديسهم وحبهم للدولة العثمانية وعدم رغبتهم بالخلاص منها والتحرر من عبوديتها واذلالها . واكد هذا المعنى الكاتب حسن العلوي في كتابه (بقية الصوت الاجابات المؤجلة) بقوله (في ذروة الانتشار الهائل لمدرسة التنوير في بلاد الشام ومصر والمغرب وظهور دعاة التحديث , انشغلت مشيخة الاسلام السني في العراق بتاسيس جمعية لنصرة الاستبداد الحميدي ومهاجمة حركة التنوير) (يقصد جمعية المشورة التي اسسها عبد الرحمن النقيب) . اذن يمكن القول بانه لولا الصراع العثماني – الفارسي لما تبلورة العقدة من ايران عند سنة العراق بهذه الصورة المغالية .
3 . النجاح الحضاري والمدني والسياسي والاقتصادي للدولة الايرانية الحديثة والتعرية الثورية التي قام بها النظام الاسلامي بعد الثورة عام 1979 للانظمة والمجتمعات العربية الذليلة والخانعة للديكتاتوريات الاستبدادية والاحتلالات الاجنبية . فكلنا يعلم ان الدول العربية تعيش في اسفل السلم الحضاري والاجتماعي والاخلاقي وفق المعيار والتقييم العالمي في الديمقراطية والحرية والعدالة والمساواة والتنمية , ناهيك عن امراضها واختلالاتها المفصلية من قبيل الاستبداد والفساد والاحتراب والهزائم المزمنة مع اسرائيل وغيرها . فيما وجدوا ان ايران حققت تقدما هائلا وكبيرا في جميع المياديين - لاحاجة لسردها بهذا المجال الضيق - واهمها التنمية السياسية والاقتصادية والنهضة الاجتماعية والاخلاقية فضلا عن القضية الثورية والاقتدار والشجاعة في مواجهة امريكا واسرائيل والغرب عموما . في الواقع انا اطرح هذه الحقائق دون الايمان بها ,لاني لااعترف بهذه الثوريات العصابية وادعو للتحالف مع امريكا والغرب الليبرالي في مواجهة التخلف والفقر والاستبداد , ولكني اعرض هذه التصورات من خلال تقييم العرب انفسهم لها ورؤيتهم الخاصة للمقاومة والمواجهة والشجاعة , فهم مازالوا يقدسون هذه القيم التي ورثوها من ثقافتهم البدوية التي تقدس البطولة والمواجهة , الا ان المفارقة هى انهم في الدرك الاسفل من الاذلال الاسرائيلي والامريكي والاستبداد الحزبي والعائلي والطائفي والعنصري . فيما وجدوا ان ايران وكيف انها واجهت اعظم دولة في التاريخ وهى الولايات المتحدة الامريكية والتي طالبتها عشرات المرات بالحوار والتفاوض وحتى الاعتراف بها كدولة متميزة , الا انها كانت ترفض ذلك رفضا قاطعا . وكيف انها ضربت القواعد الامريكية واسقطت طائراتها المسيرة واحتجزت قواتها عندما دخلت مياهها الاقليمية , وهو الامر الذي لم يفعله ليس العرب فقط وانما حتى الاخرين الثوريين . كما اصاب العرب الغل والحقد والحنق بعد ان وجودوا ان حزبا شيعيا صغيرا مواليا لايران في لبنان - وهو حزب الله - وكيف انه الوحيد الذي حرر اراضيه من اسرائيل بقوة السلاح , فيما ان جميع الدول العربية وقادتها التاريخيين من قبيل جمال عبد الناصر والقذافي وصدام حسين وغيرهم تجرعوا كاس الهزيمة المنكرة ولم يحرروا شبرا واحدا , ان لم يكن العكس , فقد تعرضوا لهزائم مذلة لامثيل لها بالتاريخ , كانت نهاية احدهم وهو زعيمهم صدام حسين في حفرة تحت الارض مختبئا مثل الجرذ الخائف . لذا فمن الطبيعي ان يشعر سنة العراق بالحقد والعار والنقص والاستلاب والتعرية امام الاقتدار الايراني , ومن الطبيعي ان ينعكس ذلك بمظاهر من التشويه والحقد والغل . ولاحاجة الى ذكر اخر المواقف البطولية التي ظهر فيها الاقتدار الايراني في مواجهة الخنوع السني وهو تحرير المحافظات السنية من سيطرة داعش . فبعد سقوط الموصل وصلاح الدين والانبار عام 2014 تعرضت هذه المحافظات الى اكبر نكبة في تاريخها , حيث سيطر عليها اكبر تنظيم اجرامي وارهابي ومتخلف خرج من كهوف التاريخ , قام بسبي الاف النساء واغتصابهن وتدمير الجامعات وحرق المكتبات وسرقة الاثار والمتاحف ,وادخل اليها عشرات الالاف الارهابيون من خمسين جنسية افريقية واسيوية واوربية فرضوا على نسائهم جهاد النكاح وغيرها من الممارسات والسلوكيات المشينة , (ذكر السياسي الموصلي غانم العابد عام 2016 وجود ثلاثة الاف امراة مغتصبة واكثر من الفي امراة حامل) . وكالعادة هرب اغلبية رجال اهل السنة الى مخيمات النازحين مع النساء والاطفال , ولم يخلصهم من هذا التنظيم الا الشيعة من رجال الجيش العراقي والحشد الشعبي بالتعاون مع ايران . الا انهم لايعترفوا بهذه الحقيقية خوفا من ذكرها للاجيال القادمة والخشية من تلازم عار السقوط والهروب مع التحرير الشيعي – الايراني لهم .
4 . الاصول الفارسية للمدن السنية في العراق . فمن المعروف ان اغلبية المدن السنية العراقية اسسها الفرس وسكنوا فيها مئات السنين ابان سيطرتهم على العراق , وهم بالتالي يكونون – على الاغلب - من ذرية اولئك الجنود . ومن الطبيعي ان تتولد عندهم عقدة نفسية من هذا التاريخ الذي يعتبرونه صفحة سوداء في حياتهم يجب اسدال الستار عنها , فهم يتحملون ان تكون اصولهم من الانكشارية والترك والقوقاز والمماليك والكورد واليهود (كما في عشيرة العانيين) , ولكنهم لايتحملون ان ترجع اصولهم للفرس , فتجد عندهم هذا التعويض النفسي والدفع الذاتي ومحاولة التملص من تاريخهم من خلال اليات التعمية والتغطية والهجوم على الفرس . فمثلا محافظة الأنبار تسمى بالعهد الساساني فيروز شابور وتعني شابور المنتصر . وأنشأت المدينة عام (350) ميلادية بيد الأمبراطور شابور الثاني ملك فارس . ومدينة الأنبار مجاورة - او هي نفسها - مدينة اليهود البابلين (نهاريا) . كما انها تجاور مدينة بامديثيا اليهودية القديمة التي تقع على مسافة قريبة جدا من مدينة الفلوجة الحالية . وعرفت المحافظة باسم لواء الدليم حتى عام 1961. وكلمة أنبار كلمة فارسية تعني المخزن ، أسماها المناذرة الأنبار لأنها كانت مخزناً للعدد الحربية ، أو لأنها كانت مخزناً للحنطة والشعير والتبن. وتعد من أهم المدن في فترة الاحتلال الساساني على العراق، لأنها ذات مركز حربي مهم لحماية عاصمة الدولة حينها "المدائن" من هجمات الروم. واما اكبر عشيرة في الانبار وهم الدليم فهم بقايا الفرس واسمهم الاصلي الديلم , كما اثبت ذلك الدكتور مصطفى جواد في احدى مقابلاته في تلفزيون العراق في الستينات مع المقدم الالوسي , اي ان الدليمي كلمة محرفة عن الديلم الفرس الذين يسكنون في شمال ايران سابقا , ومنهم البويهيين الذين سيطروا على بغداد في القرن الرابع الهجري . واما تكريت التي كانت في البدء قلعة حصينة تطورت لاحقا الى مدينة , فقد ذكر ياقوت الحموي في كتابه (معجم البلدان) بان اول من بنى هذه القلعة سابور بن اردشير بن بابك , وان امراة من اشراف الفرس يقال لها (داري) كانت تحكم هذه القلعة عندما افتتحها المسلمون صلحا عام 20 هجرية . واما اهلها فيقال لهم (الجرامقة) نسبة الى منطقة تعرف بجرمق في فارس والذين كان العرب ينظرون اليهم باحتقار ظاهر حتى انهم اذا شتموا شخصا قالوا له (جرمقي) . كما سكنها الكورد قرون طويلة كان من ذريتهم القائد المعروف صلاح الدين الايوبي . واما سامراء فهى بالفارسية ساء مرة وتعني (موضع الحساب) وهى مدينة عتيقة من مدن الفرس كما ورد في كتاب المقدسي احسن التقاسيم في معرفة الاقاليم . واما الموصل فقد اهتم الأخمينيون الفرس الذين حكموها سنة 550-331 ق.م في توطين العرب والفرس فيها وأصبحت مدينة ذات شأن. (وكانت الموصل محتلة من قبل الفرس الأخمينيين، وكان سكانها منقسمين بين عرب وفرس. ينظر : الموصل عبر التاريخ: أزهر العبيدي:10) ولم تسلم الموصل من الحروب التي دارت بين الشرق والغرب والتي سببت نكبتها لعدة مرات، ومنها الحروب التي دارت بين الساسانيين والرومان سنة 241 وسنة 579. وفي سنة 627 انتصر الروم على الفرس بعد معركة حاسمة قرب الموصل، فأصبحت تحت حكمهم سنوات طويلة. فيما يذكر عبد الرزاق الحسني في كتابه (العراق قديما وحديثا) ان مدينة الوس بناها سابور ذو الاكتاف وجعلها مسلحة لحفظ ماقرب من البادية ويبدو ان هذا السبب في تطرف الالوسيين طائفيا وهو الاصول الفارسية لمدينتهم . ولم يقتصر الامر على المدن السنية فحسب بل ان الكثير من المؤرخين يرجعون اسم العراق وبغداد الى اصل فارسي قديم الامر الذي شكل حرجا عند اصحاب الوطنية البعثية الكاذبة , فقد ذكر وليم بولك في كتابه (لكي نفهم العراق) ان كلمة العراق العربية اشتقت من كلمة (ايراغ) الفارسية التي تعني الاراضي المنخفضة .(فيما ان الواقع انها اشتقت من كلمة اوروك او مدينة الوركاء في جنوب العراق) . واما بغداد او بغداذ هو في الأصل اسم لقرية قديمة من قرى الفرس ويعني اسمها «عطية الله» و«بغ» اسم علم لإله وثني من الشرق الآسيوي و«داذ» بمعنى «أعطى» .
5 . رجوع الكثير من السياسين والمثقفين والادباء السنة الى اصول فارسية ورغبتهم بالبراءة من هذا الواقع من خلال الهجوم والنيل من الفرس الايرانيين , وهو مصداق قول الامام علي (لايتعصب الادخيل) . واعتقد ان السبب الاساس لتعصب العراقيين السنة للقومية العربية والتطرف في الادعاء العروبي هو معرفتهم اللاشعورية انهم ليسوا عرب , وانهم بقايا الاقوام التي سيطرت على البلاد من الترك والبويهيين والسلاجقة والمغول والجلائريين والفرس واليهود والكورد والانكشارية والمماليك والجورجيين والكولة مند وغيرهم . علما ان تلك الاقوام نادرا ماينزحون الى الجنوب لاسباب جغرافية وعقائدية وسياسية . وكما قال الحسني في كتابه العراق (قديما وحديثا) (استولى طغرل بك الملك السلجوقي التركي سنة 447 هجرية على بغداد وتعاظم شان الترك في العراق وكثر اختلاطهم بالشعب العراقي عامة حتى تملكوا الدكاسر والقرى واسسوا عدة امارات بماردين والموصل وكركوك ..... وقد حاول الترك الاستقرار في خوزستان (عربستان) فلم يستطيعوا , لان سكان العراق الجنوبي عرب وهؤلاء ترك ,والتفاهم بين الطرفين عسير..... واما المغول والتتار الذين اخضعوا الدولة العباسية لدولتهم سنة 656 هجرية ويليهم تركمان دولتي الخروف الابيض والخروف الاسود , فقد اختلطت قبائل هؤلاء الرحالة بسكان العراق الشرقي الشمالي والعراق الشمالي اختلاطا تاما من سنة 813 هجرية الى سنة 914 هجرية , اي منذ انقراض الدولة الجلائرية الى تاريخ دخول الصفويين الفرس الى العراق) . ويبدو ان هذا السبب الذي جعل الدكتور سيار الجميل يرجع اصول الرئيس السابق صدام حسين الى المغول التتر . فيما تهكم الشاعر معروف الرصافي على رئيس الوزراء في العهد الملكي ياسين الهاشمي بقوله (زعيم العروبة من طوزخورماتو) . وكذا الامر مع عائلة الكيلاني الذين يدعون انهم من ذرية الشيخ عبد القادر الكيلاني , فهم يرجعون الى مدينة كيلان في شمال غرب ايران , رغم ادعائهم الكاذب بالنسب العلوي . ومن اشهر شخصياتهم في التاريخ المعاصر رئيس الوزراء عبد الرحمن النقيب الكيلاني . وكذا الامر مع الرصافي الذي يرجع الى ام تركمانية واب كوردي واصول تاريخية من الفلوجة المدينة التي اسسها الفرس , فقد عرف عنه الهجوم على الشيعة والايرانيين لهذا السبب الخفي . واما ال الجادرجي فرغم الادعاء باصلهم التركي , الا ان هناك من يربط اصولهم بالفرس لان اسم العائلة هو فارسي, وهو السبب اللاشعوري في اطلاق بعض النوازع الطائفية عند كامل الجادرجي .(يتبع القسم الرابع والاخير)