الناصريون والمراجعة الغائبة


رضي السماك
2020 / 1 / 23 - 20:13     

أحتفلت قبل بضعة أيام ، وتحديداً في الخامس عشر من شهر يناير الجاري القوى والأحزاب الناصرية في عالمنا العربي وسائر القوى الوطنية ، وعلى الأخص في مصر ، بالذكرى الثانية بعد المئة لمولد الرئيس المصري والزعيم العربي جمال عبد الناصر ( وُلد في 15 يناير / كانون الثاني 1918 ) قائد ثورة يوليو / تموز المصرية العام 1952والتي سرعان ما أذِنت بتدشين عصر جديد على الصعيدين العربي والمصري ، هو عصر التحرر الوطني من الاستعمار الكولونيالي ، بدءاً من ازالة بقايا نفوذه في مصر سياسياً وعسكرياً متمثلاً في الاحتلال الإنجليزي ، وليس انتهاءً بإزالة نفوذه سياسياً وعسكرياً أيضاً في بقية أرجاء العالم العربي الواقعة تحت احتلاله ، ومعه كذلك الاحتلال الفرنسي لبعض بلدان المغرب العربي ، وعلى الأخص الجزائر . بيد أن عبد الناصر ما كان ليحقق زعامة عربية لولا ما كان يتمتع به من قيادة كارزمية ، كرئيس لمصر وكزعيم مؤثر في وجدان وعقول قطاع كبير من الشعوب العربية بلا منازع ، وما كان كذلك ليحقق تلك الانتصارات السياسية المبكرة أيضاً لولا دعم القوة العظمى الثانية في العالم حينذاك ألا هو الاتحاد السوفييتي ودول المنظومة الاشتراكية الحليفه له ، بدءاً من صفقة الاسلحة التشيكية عام 1955 لكسر احتكار الغرب للسلاح بشروطه ، ومروراً بالإنذار السوفييتي الشهير خلال العدوان الثلاثي عام 1956 ، وليس انتهاءً بإقدام الاتحاد السوفييتي على تسليح جيشه الوطني بالتسليح الثقيل وبالاسلحة المتطورة والتي مكّنت هذا الجيش لاحقاً من عبوره قناة السويس خلال حرب اكتوبر 1973 وتحقيقه الانتصار المحدود على إسرائيل . أضف إلى ذلك ما كان يتمتع من ثقة شعبية وعربية مطلقتين .
ليس خافياً ولا سبيل للإنكار حينما نقول : إن ثمة حنيناً جارفاً لدى أبناء الجيل الذين عاصروه أو حتى لدى أقسام من أبناء الأجيال اللاحقة الذين قرأوا وتأثروا بسيرته بعد رحيله أخذ يتعاظم بتعاظم الرزايا والكوارث السياسية ، ومافتيء كثرة من العرب يشتاقون لزعامة من طرازه متذكرين زمانه ، ذلك بأن عبد الناصر كان بالفعل في عصره نسيج وحده في الزعامة الوطنية والقومية المتفردة طوال عقدين تقريباً من فترة حكمه وثورة يوليو بقيادته ( 1952 - 1970 ) وهي الثورة التي سرعان ما أفل نجمها تماماً بعد موته وظلت زعامته القومية شاغرة ، فكما عجز كل رؤساء الأنظمة القومية عن مضاهاته في عصره في الزعامة القومية فإنهم ، وكذلك من خلفهم ، عجزوا عن مضاهاتها أو شغلها بعدئذ حتى يومنا هذا .
ويمكننا في هذا الصدد أن نكتفي بموقفين تدليلاً على زعامته الكارزمية وهما موقفان جريا خلال ربع قرن انقضى من وقتنا الراهن :
الأول : وقد وقع في عام 1996 إبان عرض فيلم " ناصر 56 " في القاهرة ، من اخراج المخرج الراحل محمد فاضل ، وسيناريو الكاتب المرحوم محفوظ عبد الرحمن وبطولة المرحوم أحمد زكي وفردوس عبد الحميد . وبطبيعة الحال الفيلم كما هو معروف يتناول محطة من أهم المحطات السياسية في حكم عبد الناصر وتاريخ بلاده والعالم العربي ، وهي تحديداً خلال تحديه بريطانيا وفرنسا بتأميم قناة السويس ، وتحديه أيضاً أمريكا برفض شروطها الابتزازية لبناء السد العالي . وقد نجح بفضل وقوف شعبه والشعوب العربية جمعاء من خلفه في كلا التحديين ، وخرج من معركة التحديين زعيماً عربياً متوجاً بلا منازع . ورغم أن مخرج الفيلم والنقّاد لم يتوقعوا ذلك النجاح الساحق الذي حققه ، فقد تفاجأ المخرج والطقم العامل معه بهذه الحقيقة ، وبأنه ليس واحداً من أكثر الأفلام حصاداً في تذاكر الشباك لفترة طويلة مقارنة بأفلام سنوات التسعينيات التي سبقته فحسب ؛ بل والأهم من كل ذلك كان اللافت لديهم ومعظم المراقبين الفنيين أن الفئة الأكثر إقبالاً عليه كانت من الشباب ، وهو ما يدلل على أنها قد قرأت سلفاً عن عبد الناصر قبل الفيلم ، فلا عجب إذا ما أشتدت بها اللهفة حينها بالإقبال المنقطع النظير على مشاهدته .
الثاني : وقد جرى إبان ثورة يناير / كانون الثاني 2011 في ميدان التحرير بالقاهرة وعدد من ميادين العواصم العربية التي جرت خلالها ما عُرف بثورات " الربيع العربي " آنذاك ، حيث لوحظ رفع بعض مجاميع المحتجين صور عبد الناصر وشعاراته رغم أنها ثورات تنادي بالإصلاح الجذري والديمقراطية .
وإذ أحتفلت مؤخراً القوى الناصرية والوطنية وحتى اليسارية التي تصادم معها عبد الناصر بالذكرى الثانية بعد المئة لميلاد الزعيم القومي والقائد الوطني جمال عبد الناصر فإنه آن الأوان على هذه القوى ، وبخاصة الناصرية ،وضع ما كان يُعرف ب " المشروع القومي " برمته على مشرحة التحليل العلمي ، أو على ميزان التقييم الموضوعي ، بعيداً عن تقديس التجربة أو الرجل وجعلهما فوق الأخطاء . فلن تتطور مسيرة الاحزاب الوطنية بدون الاعتراف بأخطائها وتصحيح مساراتها النضالية بدون خوف أو وجل . وإذا كانت إنجازاته الوطنية الداخلية وعلى صعيد التحرر الوطني العربي فضلاً عن التحولات الاجتماعية داخل بلاده أحسبها جميعها معروفة تميل لكفة تحقيق شيء من العدالة الإجتماعية من خلال صيغة " الاشتراكية العربية " المطعمة في معظمها بمباديء وأفكار الماركسية التي بشّر بها الميثاق الوطني عام 1962 فإن عدداً من أبرز أخطائه القاتلة لطالما جرى التغاضي عنها أو تبريرها من تلك القوى الناصرية والقومية ، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر :
1- اتباعه نظام حكم الفرد وتغييب التعددية والديمقراطية طوال مدة حكمه ، ومن ذلك أيضاً تذبذبه في كثير من المحطات والمواقف بين اليسار واليمين ، كضرب أكبر حلفاء له في مجلس قيادة الثورة ألا هم الضباط اليساريين ، ثم ضربه اليسار المصري الناشط على الساحة السياسية المصرية بالنظر لموقفه المتحفظ على الاسلوب المرتجل المتسرع اللاديمقراطي الذي تمت بها الوحدة الإندماجية مع سوريا عام 1958 وزجهم في السجن بالآلاف ليلة رأس سنة 1959 ، وهي الوحدة التي ما سرعان ما فشلت وأثبتت مآخذ القوى اليسارية والليبرالية صحة تحفظاتها وفشلت بعد أقل من أربع سنوات ، وخاصة لفرضه حل الاحزاب خلال الوحدة اسوة بما فعله داخل بلاده بعد أزمة مارس 1954 داخل مجلس قيادة الثورة ، ونعلم جيداً أن الرشاشات التي قتل بها الحرس القومي آلاف الشيوعيين وسائر القوى الديمقراطية في انقلاب 8 فبراير / شباط 14 رمضان في سنة 1963 داخل العراق على قيادة 14تموز الفتية الوطنية كان يطلق عليها " رشاشات بور سعيد " !
2- وثوقه المطلق الأعمى بصديق عمره المشير عبد الحكيم عامر ، وهو أكبر رمز للفساد بالمعنيين الاخلاقي والعسكري داخل الجيش ، بل والسبب الاول لفشل الجيش المصري عام 1956 لمواجهة دول العدوان الثلاثي ، هذا باعتراف حتى أكبر المقربين والمستشارين له بل ومستودع أسراره ألا هو الكاتب الصحفي الراحل محمد حسنين هيكل ، والذي اعترف أيضاً بأنه - المشير - كما كان وراء الاخفاق العسكري في حرب 1956 ، فقد كان هو نفسه وراء فشل الوحدة في عام 1961 ، وهو نفسه أيضاً وراء الطامة الكبرى لمصر وكل الدول العربية والمتمثلة في هزيمة يونيو/ حزيران 1967 ، وإن كانت الأمانة تقتضي القول أن عبد الناصر يتحمل المسؤولية الاولى لوقوعها كما أقر بذلك في خطاب تنحيه غداة الهزيمة لا البحث عن كبش فداء .
3- استنزافه الميزانية المصرية في مشاريع وتمويلات لجهات ودول عربية لتحقيق شعاراته القومية والتي كثيراً ما أتت على حساب أولوية مشاريع التنمية الداخلية .
4- وثوقه في أحد أبرز المتزلفين له من ضباط مجلس قيادة الثورة والمعروف بميوله اليمينية وتعيينه قبل وفاته نائباً له ألا هو الرئيس أنور السادات الأمر الذي أدى لاحقاً حسب آليات النظام الناصري في تداول الحكم أو الرئاسة لخلافته وانقلابه السريع على مبادئه وأفكاره ومعاداة اليسار الناصري في الاتحاد الاشتراكي الحاكم بل واليسار الماركسي المصري والسوفييت وحلفائهم في المعسكر الشرقي المنظومة الاشتراكية وضرب كل منجزات التحولات الاجتماعية المتحققة وفق صيغته لبناء الاشتراكية العربية لصالح الاقطاع والرأسمالية الطفيلية ، تحت مسمى شعاره العتيد " الإنفتاح الاقتصادي " .
5 - استدراجه لحرب 1967 غير المتكافئة مع العدو الاسرائيلي تساوقاً مع موقف الجناح اليساري المتطرف لنظام البعث السوري بزعامة صلاح جديد ونوري الدين الأتاسي ( والذي كان برتبط مع مصر بمعاهدة دفاع مشترك ) ، و تصديق عبد الناصر أكذوبة الحشود على حدود سوريا مع إسرائيل والتي أثبت وفد عسكري مصري بقيادة الفريق عبد المنعم رياض أرسله هو نفسه إلى سوريا عدم صحتها ، ومن ثم طلبه المتهور بسحب قوات الطواريء على الحدود مع إسرائيل ، فضلاً عن اجرائه الآخر غير المدروس بإغلاق خليج العقبة في وجه الملاحة الاسرائيلية ، وكل هذه الأجراءات اعتبرتها إسرائيل والمجتمع الدولي اجراءات تحضير حرب على إسرائيل وأعطاها مبرر العدوان على ثلاث دول عربية ، مصر وسوريا والاردن ، بعدئذ في صبيحةالخامس من يونيو / حزيران 1967 بذريعة الدفاع عن النفس .