محمد فريد وتطور الحركة الوطنية المصرية


علاء الشرقاوي
2020 / 1 / 23 - 17:30     

ها هنا قبر شهيد في هوى أمة أيقظها ثم رقد

كثيراً مما كتب عن محمد فريد تمسك بفكرة محددة تقول بأنه كان تابعاً لمصطفى كامل بشكل تام ومن دون أن يكون فريد نفسه صاحب أثر في الحركة الوطنية وحتى وإن كان صاحب أثر فإنه لم يكن صاحب طريق مختلف في الكفاح الوطني عن مصطفى كامل.
بيد أن المزيد من القراءة المتأنية لتراث محمد فريد أو ما تناول حياته وكفاحه يجعلنا لا نستسيغ هذه الفكرة تماماً.
ومما لا شك فيه أن محمد فريد وأثره على الحركة الوطنية قد لاقى ظلماً من ناحيتين، فبداية تم ظلمه من الوفد في عام ١٩١٩ وما تلاه، وفي هذه الفترة كان الظلم هذا من نصيبه هو ومصطفى كامل على حد سواء وكان السبب هو سعي الوفد للقول بأنه قد نبع من فراغ بدون مقدمات طويلة استغرقت وقتاً حتى تفجرت في شكل الحركة الثورية عام ١٩١٩ (والتي كانت قيادة الوفد لا تطمئن إليها خصوصا في البداية) بالرغم أن بعض هذه المقدمات كانت أكثر جذرية وصلابة في مواجهة الاحتلال مما كان عليه الوفد, ولكن الوفد كغالبية الحركات البرجوازية التي لا تعي و لا تعترف بوجود تراكمات كمية طويلة هي القادرة على إحداث الطفرة الكيفية وبالتالي يستمر في تصوير نفسه بأنه نابع من الفراغ وبأنه لا وجود قبله للحركة الوطنية وإن كان كامل قد لقي شئ من الإنصاف في مرحلة ما قبل ١٩٥٢ وأقل منه كان فريد وكان ذلك في الغالب في عهد وزارات الأقلية التي دأب الحزب الوطني على إقامة علاقات مع أحزابها (حتى وإن كان منهم من كان خارجاً من العباءة الوفدية).
أما الإجحاف الثاني فكان من عدم الاهتمام بتراث فريد وكفاحه بالقدر الكافي وقلة ما كتب عنه إذا ما تمت مقارنته بما كتب عن مصطفى كامل مثلا (حتى أن مئوية رحيله كانت منذ وقت قريب ومرت من دون اهتمام كبير أو من دون اهتمام يذكر).
والسطور القادمة لا أدعي أنها بحث متكامل حول محمد فريد، فهي أقل من ذلك ولكنها محاولة لتسليط الضوء على ما قام فريد بتقديمه للحركة الوطنية وكيف ساهم في تطورها بالشكل الذي جعل هناك إمكانية لهذا الانفجار الذي حدث في ثورة ١٩١٩، من حيث اتجاهه للاعتماد على الجماهير وممارسة الضغط على الحكومة وسلطات الاحتلال ومن حيث ربطه للقضايا الاقتصادية والاجتماعية في عملية التحرر من الاحتلال. كذلك أيضا توجهاته في مخاطبة القوى الأوروبية وكيف اختلفت توجهاته هنا عما كان يقوم به مصطفى كامل فبدلا من الاكتفاء بمخاطبة رجال السلطات في الدول الاستعمارية أو الرأي العام برؤية استعطاف الضغط من أجل الجلاء من وجهة نظر تقول بأن بقاء الاحتلال يمثل خطورة على مصالح هذه الدول الاستعمارية ولا يمكنها من الوصول لمستعمراتها بسهولة ولكنه يتجه هنا إلى أوروبا أخرى ممثلة في الأحزاب العمالية والاشتراكية والحركة الثورية، حتى وإن كان قد استمر في مخاطبة من سبق وخاطبهم سلفه، كذلك أثبت إدراكه لوحدة النضال التحرري في المستعمرات.
ففريد في وقت قيادته للحركة الوطنية يجمع بين الكفاح من أجل الجلاء، الدستور، الجامعة وقضية التعليم، والمطالب الاقتصادية في وحدة واحدة.
وحتى وإن كان في بعض مما قدمه ما قد بدأ منذ عهد زعامة مصطفى كامل (والتي كان الحزب سرياً في أغلب هذه المرحلة) فإن مع البحث المستمر نجد أولا تأثيراً لفريد منذ هذه المرحلة نوعاً ما وهو الرجل الثاني في الحزب آنذاك. كذلك وهو الأهم، اختلاف الظروف الموضوعية فيما بين عهد زعامة الرجلين.
ومن أجل الوصول إلى تصورات واضحة وجدت أن البداية الأفضل هي بوضع صورة ملخصة عن الأوضاع وقت تولي فريد موقع القيادة خلفاً لكامل، وأن أقوم بشكل مقارنة بين توجهات الحزب الوطني ونشاطه فيما بين الزعامتين.
بقي أن أقول بأن السبيل الأساسي نحو الفهم الأفضل لهذه الحركة يجب أن يكون بوضعها في إطارها الطبيعي من حيث الوضع العام في البلاد آنذاك ودرجة تطور الرؤى والأفكار ومن حيث الأصول الطبقية لقادة هذه الحركة وتحديد أفقهم وما تسمح به ظروفهم الذاتية أيضاً وأن الحركة هي في النهاية حركة برجوازية ويجب أن تفهم في هذا السياق ومن هذا المنطلق أساساً وأنها في أحسن أحوالها حركة برجوازية ثورية كانت تهدف لاستقلال مصر وتحديثها.

هزم الجيش المصري في التل الكبير في الثالث عشر من سبتمبر عام ١٨٨٢ وفي اليوم التالي دخلت قوات الاحتلال عاصمة البلاد بعد أن قرر المجلس العرفي عدم جدوى المقاومة وانهارت الروح المعنوية حيث وجد عرابي أن من بقي من جنود الجيش غير كاف وغير قادر على خوض المواجهة العسكرية كما كان مطلوباً وحتى فكرة الالتماس الذي حاول المجلس العرفي عبثاً تقديمه للخديوي كحل للأزمة أثبت فشله أيضاً وأصبحت دعوة محمد عبده لحرق القاهرة أمام الخديوي والاحتلال مع الانسحاب جنوباً غير قابلة للتطبيق، فوجد القادة أنفسهم مقيدين في السجون في انتظار المحاكمة والإعدام وفر خطيب الثورة ليحتمي بالناس لتكون ملحمة ثورية أخرى بعد هزيمة الثورة تستمر تسع سنوات وتنتهي باعتقاله ونفيه النفي الأول إلى يافا.
وهاهم بعض الوطنيين المنكسرين من إنكسار الثورة يفشلون في تعبيرهم عن اليأس من خلال تكوين جماعات لاغتيال المتعاونين مع الاحتلال بانكشاف تنظيماتهم واعتقالهم مبكراً ليستمر اليأس مسيطراً على النفوس ويعلن أنه لا بديل عن التعامل مع الأمر الواقع.

هذا هو الحال عقب الاحتلال حتى تولي عباس حلمي الثاني الأريكة الخديوية خلفاً لتوفيق، فالاحتلال مسيطر على البلاد يتغلغل داخل كل أجهزة الدولة، الجميع منكسر، قادة الثورة في المنافي، والاحتلال يجد من يعاونه ممن وضع مصلحته قبل مصالح البلاد وهم وإن شارك بعضهم في الثورة فسرعان ما تراجع خوفاً على مصالحه، كذلك من الواضح أن الاحتلال باق وأن الإنجليز سحبوا وعودهم الخاصة بالجلاء.
غير أن هذا الوضع بدأ في الإنكسار مع الوقت ومع تولي عباس خلفاً لتوفيق كانت بداية مبشرة بنتائج عظيمة.
فعباس يسعى لمباشرة أمور البلاد بنفسه ولا يرغب في تدخل من أحد في الوقت الذي فيه كرومر هو الحاكم الفعلي والآمر الناهي في البلاد، فإذاً لابد من الاتصال بالحركة الوطنية (الغريم الطبيعي للإنجليز) وإيجاد سبل الاتحاد معها وقيادتها هي نفسها في سبيل تحقيق ما يرمي إليه.
ولما كانت مبادئ الثورة العرابية صاحبة التأثير الأكبر في الشارع حينما تولى الحكم بحسب مذكراته، فلابد من الاستعانة بأحد رموزها فكان العفو عن خطيب الثورة عبد الله النديم صاحب المقدرة الأكبر على مخاطبة الناس وحشدهم بسلاسة آنذاك، فكان عباس مدركاً لأهمية وجود هذا الرجل في مصر للاستفادة من الحرب التي كان من الطبيعي أن يدخلها ضد الاحتلال. وفي صالون لطيف باشا سليم يلتقي النديم بمصطفى كامل الذي سيصبح تلميذاً له من أجل توجيهه الوجهة الصحيحة في الكفاح الوطني.
هذا هو الجو العام الذي بدأ فيه مصطفى كامل مشواره السياسي، خديوي يتقرب إلى الحركة الوطنية مدركاً أنها السبيل أمامه لممارسة سلطاته، وشاب تعلم من أستاذه أن الاتصال أن التنسيق مع الخديوي الآن يقيه شر الوقوع فيما وقع فيه العرابيون من قبل خصوصاً وأن الظروف حالياً تسمح بذلك بعكس ما كان الأمر مع توفيق، غير أن كامل قد وقع هنا ولوقت طويل في فخ التذيل للخديوي بدلاً من التحالف الطبيعي المرتبط بتحديد ما هو مرجو من هذا التحالف, كذلك لم يكن رابطاً بدقة بين مختلف القضايا كما فعل أستاذه بشكل يجعل كثير مما طرحه أو رفعه من شعارات مناسبة حتى يومنا هذا, فالفارق الأساسي بين الأستاذ وتلميذه هو أن الأستاذ كان منطلقاً أساسا من الشعب وتحديداً من كادحي هذا الشعب (وكيف لا ينطلق من ارضيتهم وهو منهم؟) حتى وإن اضطرته الظروف لمصانعة أصحاب الثروة في مراحل مختلفة وخصوصاً مرحلة الجمعية الخيرية الإسلامية (والتي كانت مدارسها بمثابة معاهد ثورية لطلابها حيث بث النديم فيهم أفكاره) إلا أنه كان مدركاً لطبيعة الصراع وموقف القوى الاجتماعية منه ولعل أبلغ تعبير عن ذلك هو ما كتبه من أزجال في التنكيت والتبكيت عبر فيها عن ذلك بينما كامل والذي لم يكن أرستقراطياً كان برجوازياً صغيراً وصاحب مشروع محافظ (ليس حتى ببرجوازي ثوري) يبغض الثورة ويخشى حركة الجماهير فضلاً عن أنه لا يتوقعها ولا يريدها من الأصل فكان أمراً طبيعياً له أن يتجه إلى الخارج يطلب منه العون طالما هو لا يجد ما يمكن المراهنة عليه, وحتى في صحفه هو فقط يجمع الناس من خلفه ويناضل بأسلوب الرأي العام لا بإسلوب تكبيد العدو خسائر في الواقع بل تكبيده خسائر في سمعته الدولية وأمام الرأي العام الخ.
فالحركة برجوازية القيادة تلعب على التناقضات أساساً ولا تتجه إلى الجماهير بل تخاف من حركتهم وتعزلهم عن المشاركة إلا فقط بجذب انتباههم.
فالتناقض الأول الذي لعبت عليه الحركة الوطنية آنذاك كان التناقض بين الخديوي والاحتلال، أما الثاني فكان التناقض بين إنجلترا من ناحية وبقية الدول الأوروبية (فرنسا أساساً) من ناحية أخرى، وثالث هذه التناقضات كان التناقض بين إنجلترا وبين الدولة العثمانية صاحبة السيادة القانونية على مصر.
وفي خطابات كامل التي ألقاها في أوروبا أو إلى الرأي العام الأوروبي تدور حول خطر الوجود البريطاني في مصر على مصالح هذه الدول، لا في مصر وحدها ولكن في عموم الشرق طالما أن مصر هي المشرفة على قناة السويس الرابطة بين الشرق والغرب وطريق هذه الدول إلى مستعمراتها.
فكأنه كان يتحدث على أن مصر أشبه بكعكة لا يجب أن تنفرد بها دولة أوروبية واحدة بل يدعوا الدول الأوروبية لكي تحافظ على الكعكة هذه سليمة حفاظاً على مصالحها، بل أبعد من ذلك فإنه كان موقف لا يجد مانع ولو أخلاقي في استعمار هذه الدول للعالم واستنزاف خيراته (من الممكن أن يكون مبرر ذلك هو محاولة التركيز على قضية واحدة كما أقر بذلك في مواقف أخرى له).
ولعل هذا كان نتيجة دراسة كامل لما كتب حول السياسة الدولية في ذلك الوقت، بالإضافة طبعاً إلى محاولته الدؤوبة للاحتماء بالدولة العثمانية صاحبة السلطة القانونية على البلاد لعله بها يجد ما يقوي موقفه الدولي خصوصاً وأن ذكرى منشور عصيان عرابي الذي أصدره عبد الحميد الثاني إبان تصدي الجيش المصري للجيش البريطاني في التل الكبير. فكان الاعتماد على التناقضات والضغط الدولي هما طريقا كامل في الجهاد ضد الاحتلال، ويفسر الدكتور رفعت السعيد الأمر ب “وعندما تكون الحركة الوطنية ضعيفة، ومقبلة لتوها من رحم ثورة مجهضة ومهزومة، وعندما تكون قيادتها عاجزة إقتصادياً، متخلفة إجتماعياً تخشى من حركة الجماهير أو لا تتصورها فإن الطموح الخارجي يكون هو المسلك المعتمد والأقرب إلى التصور".
والواقع أنه في حالة قيادة كامل (وهو الذي لا إنكار لدوره في بعث الروح الوطنية من جديد) كان الخوف من حركة الجماهير هو سيد الموقف خصوصاً في الوقت الذي كانت فيه الحركة في بدايتها تجمع حولها الأنصار من "أصحاب المصالح" الذين يبغضون الثورة وحركة الجماهير لما رأوه في المواجهة السابقة من وعي وربط الجماهير بين مقاومة الغزو وتقسيم الاقطاعات الكبرى على الفلاحين، كان على الحركة الوطنية أن تتجنب حركة الجماهير وتتجه خارجياً، هكذا كانت الحركة الوطنية تسير لوقت طويل تحت قيادة كامل وتحديداً حتى عقد الاتفاق الودي بين إنجلترا وفرنسا فكان إيذاناً بضرورة التجديد في أسلوب الحركة الوطنية (حتى وإن تأخر تبلور هذا الأسلوب الجديد وأخذ وقته) فكان هذا الأمر هو من قام بتحديد الخنادق, فهنا الخديوي يتراجع عما كان عليه وازداد تراجعه بعد رحيل كرومر ومجيء جورست, كذلك إنسحاب المعتدلين من داخل الحزب تباعاً منذ ذلك الوقت وهم الذين بدأوا في الالتفاف حول أحمد لطفي السيد في السعي لتشكيل الجريدة والعمل على "تحديث وتمدين" المجتمع أولاً في ظل الاحتلال حتى تصبح الأمة قادرة على حكم نفسها ووقتها تستحق البلاد أن تحصل على استقلالها. بينما الحزب الوطني كان لا يزال متمسكاً بحتمية الجلاء كأساس لبقية القضايا الأخرى. وفي الوسط ظهرت جماعات التي إما اتجهت على المطالبة بالمزيد من السيطرة البريطانية أو العثمانية على البلاد أو جماعات كانت تغالي في جذريتها كالحزب الجمهوري الذي لم يستمر طويلاً أو لم يكد يبدأ لينتهي حتى وإن كانت دعوته لقيام النظام الجمهوري بدلا عن حكم أسرة محمد علي قديمة بعض الشيء وتعود إلى زمن الثورة العرابية فإن الظروف الموضوعية لم تكن في صالحه وقت تأسيسه.
كذلك فمنذ توقيع الاتفاق الودي وانسحاب المعتدلين من صفوف الحزب الوطني لم يعد هناك وجود لخوف مصطفى كامل من إعلان تأسيس الحزب وأن هذا الحزب لن يقسم الحركة الوطنية التي انقسمت بالفعل وزاد تأكيد الأمر عندما أسس المعتدلون حزبهم بزعامة لطفي السيد وأسس الملتفون حول الخديوي والمباركين لسياسة الوفاق ايضاً حزبهم بزعامة الشيخ علي يوسف. ومهما كان إختلاف هذه الأحزاب الثلاث الكبرى فإن التنسيق بينهم قد عرف طريقه خصوصاً بين الامة والوطني من ذلك اشتراكهم في مشروع الجامعة والذي لم يكن يرضي كرومر بطبيعة الحال وكذلك مشاركة حزب الأمة في مؤتمر الشبيبة المصرية بجنيف عام ١٩٠٩ومشاركة أحمد لطفي السيد في لجنة تمثال مصطفى كامل بالإضافة لتصريحات كل من أحمد لطفي السيد وعلي يوسف في أعقاب إغتيال بطرس غالي بأن المباحثات كانت قائمة فيما بينهم وبين الحزب الوطني من أجل الاتحاد ولكنها توقفت بعد حادث الإغتيال لنبذهم سياسة العنف (كان هذا جزء من تلخيص مجلة الطان بعنوان الأحزاب في مصر نشرته اللواء في عدد ٧يونيو١٩١٠ ونقلت معناه مما ذكره الدكتور يونان لبيب رزق في كتابه تاريخ مصر بين الفكر والسياسة).

هذه صورة عامة وسريعة للحالة المصرية عشية تولي محمد فريد زعامة الحزب حاولت أن أجمع فيها بين الإختصار ودقة الوصف قدر الإمكان، ولكني أرى لزاماً قبل التوجه لأثر فريد في الحركة الوطنية وكيف تطورت في مرحلة زعامته ان نتابع نشاطه وتطور أفكاره هو نفسه.
كان فريد أرستقراطياً وسليل عائلة تركية أي فئة أعلى من نظيرتها المصرية في المجتمع آنذاك وذلك بخلاف كامل الذي كان إبناً لعائلة مصرية من الطبقة الوسطى وشريحتها الدنيا لمزيد من التحديد.
وفي بدايته توجه إلى العمل في سلك القضاء، فبدأ في قلم قضايا الدائرة السنية منذ عام ١٨٩١ والتي كان والده ناظراً عليها منذ عام ١٨٨٦.
وهذا العام أيضاً هو العام الذي بدأ فيه فريد تسجيل مذكراته والتي يصنفها الدكتور عاصم الدسوقي ضمن الكتابات التاريخية من وجهة نظر المؤلف (تأريخ من وجهة نظر المؤلف) لا المذكرات الشخصية وبشكل عام كان فريد مهتماً بالبحث التاريخي، ففي العام نفسه نشر كتابه عن محمد علي وفي عام ١٨٩٤نشر كتابه عن الدولة العثمانية وكذلك كتابه عن تاريخ الرومان في عام ١٩٠٢ ولكنها لم تكن كتاباته الأولى, فلقد مارس الكتابة منذ أن كان طالباً بمدرسة الحقوق ومما ذكره عبدالرحمن الرافعي عن تلك الكتابات الأولى يتضح أنها كانت ذات توجهات وطنية واضحة حيث أن الرافعي ذكر أن فريد استخدم اختصارا لاسمه بتأثير من والده الذي كان يخشى عليه من بطش الاحتلال مما يدل على توجهاته الوطنية المعادية للاحتلال فيما كتبه من مقالات آنذاك.
وفي مذكرات فريد نجد هجومه الشرس على طبقة كبار الملاك والباشوات، فهو يرى أنهم هم من قاموا بتسليم البلاد للإحتلال البريطاني (وذلك يخالف رؤية كامل الذي قال بأن السبب هو خيانة عرابي وذلك في إحدى رسائله إلى مدام جوليت آدم وكذلك رؤية أبناء طبقته الاجتماعية ذاتها والتي كانت قريبة من الخديوي بطبيعة الحال آنذاك) فبحسب فريد فإن كبار الملاك هم من ساعدوا الاحتلال ويساعدونه على ضمها لأملاك بريطانيا الواسعة.
هكذا عبر فريد ومنذ البداية عن رؤيته لهذه الطبقة الاجتماعية وأصبح منفصلاً عنها حتى وإن كانت هذه الآراء حبيسة الكراسات التي كتب عليها مذكراته أو مفكراته كما كان يصفها أحياناً.
بالإضافة إلى ذلك، نجد أمراً هاماً اخر يعبر عن أفكاره آنذاك وهو رؤيته للدولة العثمانية والاحتلال فيقول بأن الإنجليز لم يرتكبوا ما يسبب الكراهية لهم ولكن حب الوطن يفرض التمني بالجلاء على ألا تعود البلاد للسيادة العثمانية، ووضع تصور يقول ببقاء الاحتلال ١٥ سنة أخرى حتى تبلغ البلاد حداً من التمدن يساعدها على الاستقلال. فهذه الرؤية هي ذاتها رؤية المعتدلين في السياسة المصرية آنذاك وهي نفسها الرؤية التي سيقول بها لطفي السيد بعد ١٦ عاماً من تسجيل محمد فريد لها في مذكراته.
هكذا كانت تصورات محمد فريد عن الأوضاع في تلك المرحلة، غير أنه من الإجحاف أن نقول بأن هذه الرؤية كانت لها السيطرة عليه تماماً، فسرعان ما دخل في صراع مع المسيطرين على أمور البلاد (بخصوص قضية التلغرافات) قرر على أساسه أن يترك وظيفته ويتجه لممارسة مهنة المحاماة المنبوذة إجتماعياً آنذاك.
غير أن رأي فريد هذا بخصوص الدولة العثمانية وإن كان قد قاله به بعد ذلك إلا أنه تغير في المنتصف مع تطور الأحداث، فمثلاً في عام ١٨٩٧ كان فريد يقيس مدى الشعور الوطني عند المصريين بمقدار توجههم نحو المشاركة في الإكتتاب لدعم الدولة العثمانية في حربها ضد اليونان ومدى ظهور هذا التأييد، وقبل ذلك في عام ١٨٩٤ يقول في كتابه عن تاريخ الدولة العثمانية بأن بقاء هذه الدولة والمحافظة عليها هو إبقاء وحفاظ على الإسلام نفسه. ومن قبل ذلك في تأييد سياسة عباس حلمي الثاني في التقرب من الدولة العثمانية وترك سياسة إسماعيل وتوفيق الساعية لفصل مصر عن الدولة العثمانية الأمر الذي يعرضها لأن تكون فريسة سهلة للدول الأجنبية (وهو نفس الرأي الذي قاله به ويلفرد بلنت فيما بعد في سياق نصائحه للحركة الوطنية المصرية).
ولكنه لم يكن ايضاً إنبطاحاً أو تذيلا للدولة العثمانية، ففي عام ١٨٩٧ نفسه نجده يبدي سروره لاستبدال مجموعة من الموظفين الأتراك بموظفين المصريين ففي كتابته عن ذلك يصف كبار الموظفين من الأتراك بأنهم مستبدون بالأمور ومارسوا الظلم على كل من هو مصري ووطني. فكما وصفه الدكتور رؤوف عباس حامد: تبلور فكر محمد فريد السياسي في هذه الفترة حول الإتجاه الإسلامي الوطني.
غير أن فريد يغير من لهجته حول الدولة العثمانية بعد ذلك بسنوات وقت صدور الدستور العثماني فهو يهنئ الأمة العثمانية على الحصول على دستورها ويتمنى أن تحصل الأمة المصرية أيضاً على دستورها فهو هنا يفصل بين الأمة المصرية والعثمانية وكان ذلك في وقت جهاد الحركة الوطنية المصرية من أجل إستعادة دستور١٨٨١ الذي توقف العمل به بعد سيطرة الاحتلال على البلاد.
كذلك نجد قيام فريد بالتعديل في البند الأول من مبادئ الحزب، فبدلاً من الصيغة الأولى التي كانت تنص على الجلاء وحصول مصر على الاستقلال في إطار الفرمانات التي سمحت لها بوضع أشبه بحق الحكم الذاتي على صيغة تقول بالاستقلال التام فتصبح: "استقلال مصر مع سودانها استقلالاً تاماً بأية حماية أو وصاية أو أي قيد يقيد هذا الاستقلال".
فإذا قام فريد بالربط بين الجلاء وهو المبدأ الأساسي في الحزب الوطني وبين الدستور وجعل هذا التحرك منفصلاً عن الإطار العثماني بشكل واضح منذ أن تولى قيادة الحزب، بل وفي قلب الدولة العثمانية ارتدى شارة "مصر للمصريين" الخاصة بالحزب. وبالتأكيد كان وراء هذا الموقف ظروفاً موضوعية ساهمت في خروج الموقف بهذا الشكل لا مجرد أفكاره، بعض هذه الظروف الموضوعية كان خاصاً بالدولة العثمانية وما كانت تعانيه من أزمات والبعض الآخر كان متعلقاً بالمنتمين للفكرة العثمانية في مصر خصوصاً من أبناء الارستقراطية التركية الذين قرروا الانفصال مبكراً عن إطار الحزب الوطني فكانت هذه الظروف الموضوعية مع أفكار فريد جعلت توجهات الحزب في عهد زعامة فريد يتطور عما كان عليه الوضع في عهد زعامة مصطفى كامل.
إذاً، نصل إلى سؤالين مهمين، هما: ما سبب هذا التناقض في موقف محمد فريد؟
وهل يعقل هذا الاختلاف الكبير بين كامل وذراعه اليمنى وقت زعامته أي فريد؟

والاجابة على تلك الأسئلة تحتاج إلى شرح طويل والدخول في أسئلة أخرى في السياق نفسه،
بحسب الدكتور عبدالمنعم الجميعي، فإنه لم يكن هناك أي تناقض بالمعنى الكامل للكلمة، فكامل نفسه كان في خطه الموالي للدولة العثمانية بسعي فقط لتلافي مجابهة أكثر من خصم في وقت واحد. ففي نهاية الأمر إن المحافظة على وضع مصر كما أقرته الفرمانات السلطانية يعني حصولها على الاستقلال الفعلي بغض النظر عن الوضع القانوني كذلك فمن الممكن إستخدام الدولة العثمانية لتقوية الموقف الدولي للمسألة المصرية، بينما التخلص من العثمانيين أنفسهم فهو ليس بمسألة تذكر لشدة سهولة حدوثه. غير أن كامل كثيراً ما وقع في فخ تفضيل المصلحة العثمانية على المصلحة المصرية كما حدث في مسألة طابا.
ولكن أجمالاً نجد أن برنامج الحزب في فترة زعامة كامل كان يتشابه مع برنامج الحزب الوطني في فترة الثورة العرابية، حتى في المبدأ الأول، حيث نص برنامج الحزب الوطني آنذاك على التبعية للدولة العثمانية للحصول على مساعدتها في مواجهة قوى الاحتلال (كان ذلك مضمون ما ذكره الدكتور عبدالمنعم الجميعي في كتابه الحزب الوطني بين زعامتين بهذا الخصوص).
وهذا الرأي نجد أنه صحيحاً عند مراجعة بعض خطب وأفكار كامل مع التركيز على ما كان بين السطور غير أن الفارق بين كامل وفريد هنا هو وضوح الرؤية بالنسبة لفريد أكثر من كامل وكذلك صعوبة الوضع الذي تولى فيه زعامة الحركة الوطنية عما كان عليه الوضع في عهد مصطفى كامل، فلم يكن على عهد كامل وجود لسياسة الوفاق بين الخديوي والاحتلال أو وجود لوفاق ودي بين إنجلترا وفرنسا (خصوصاً في البداية).
فالحزب الوطني كان حزباً برجوازياً ولا يتوقع وجود حركة للجماهير قادرة على الحسم وفرض الجلاء فرضاً وهذا كان السر في توجه كامل نحو الخارج للحصول على تأييد ودعم القوى الأوروبية لتحقيق الجلاء المنشود.
وبالطبع لم يكن فريد غير برجوازي ولكنه مع ذلك لم يكن أمامه بدائل أخرى في ظل الظروف التي تولى فيها زعامة الحركة الوطنية سوى السعي لحشد الشعب خلفه في حركة هادفة للجلاء.
وهنا كان إلتقاء فريد والعرابيين غير أن الفارق هو إختفاء القوة المنظمة صاحبة الحق في حمل السلاح أي الجيش من المشهد الثوري في وقت فريد عكس الحال وقت الثورة العرابية.
ولكن، هل توقف فريد عن استخدام التناقضات بين القوى الاستعمارية وبعضها لتحقيق هدف الحزب الخاص بالجلاء؟ في الواقع لا لم يتوقف عن ذلك ولكنه إختلف عن كامل في درجة الوعي والإدراك التي تمتع بها حتى من قبل توقيع الاتفاق الودي الذي أكد على أن وحدة المصالح الإستعمارية بين هذه الدول قادرة على حسم كثير من الخلافات ولا تسمح بمساعدة القوى الوطنية مساعدة جدية فقط كل ما يمكن تقديمه لهذه القوى هو الضغط على القوى الواقعة معها في تناقض للحصول على مزيد من المكاسب.
وإن نظرة على ما كتبه محمد فريد في مجلة الموسوعات (وهي المجلة التي أنشأها في نوفمبر عام ١٨٩٨ أي بعد أن توطدت الصلات بينه وبين كامل بالفعل ٣ أعوام) ترشدنا إلى أسلوبه في التفكير وتكون الدليل على إدراكه لوحدة المصالح بين الدول الاستعمارية، فمن هذه المقالات: إنجلترا وفرنسا بأفريقيا، الإنجليز في غرب أفريقيا، إنجلترا في الترنسفال، الشركة الانجليزية الافريقية، الروسيا في مملكة كوريا، ومطامع أوروبا في الصين.
فلقد قام فريد في هذه المقالات والتي نشرها في فترة بدأت في ٢٦ابريل ١٨٩٩ حتى ٣٠مارس ١٩٠ قد تحدث فيها عن الاستعمار وحركته وأساليبه وربما كما يقول الدكتور رفعت السعيد "لعله أصدر الموسوعات خصيصاً لهذا الهدف".
إذاً ففريد كان واعياً بأن المسألة المصرية هي جزء من مسألة شعوب أخرى واقعة تحت نير الاستعمار وليس الأمر تعهدات دولية فقط ولا يوجد قوة قادرة على إقرارها وبحقيقة وحدة مصالح القوى الاستعمارية وأن التناقضات فيما بينهم أشبه بخلافات اللصوص حول تقسيم مسروقات وهذا ما أراد نشره بين الشعب المصري، فهم ليسوا بأبناء جزيرة منعزلة بل هم شعب من شعوب عدة واقعة تحت نير الاستعمار وعليهم مقاومة هذا الاستعمار. ولما كان يدرك حقيقة الاستعمار وألاعيبه بالنسبة للدول البعيدة لم يفته أن يدركه أيضاً في محيطه العربي، فوجه نقداً شديداً لسياسة فرنسا في الجزائر إبان مشاركته في مؤتمر المستشرقين عام ١٩٠٥ ومن قبل ذلك ندد بسياسة فرنسا في تونس. فهو كان مدركاً لوحدة قضية شعوب المستعمرات ووحدة نضالهم ومصالحهم وإن كان قد اتخذ في تنديده بسياسة فرنسا في تونس والجزائر شكلاً دينياً لنقده فهو في المسائل المتعلقة بالشعوب الأخرى كان الأساس التحرري الذي قال به واضحاً مما يجعله في دائرة أكبر من دائرة الاتجاه الوطني الإسلامي التي قال بها الدكتور رؤوف عباس (لا يفوتنا أن نقول بانه غالبا هذا الرأي نابعاً من واقع الجزء الأول فقط من مذكرات محمد فريد التي تنتهي في عام ١٨٩٧ والتي قام بتحقيقها الدكتور رؤوف عباس بينما مقالاته في الموسوعات او حتى تنديده بالسياسة الفرنسية في تونس والجزائر انما هي تبدأ بعد ذلك الحين).
وإن كان كامل قد عبر لمدام جوليت آدم عن غضبه من موقف فرنسا المتخاذل والموالي لإنجلترا في مسألة الترنسفال، فهو لم يكن ينتبه أو يعي ما كان فريد يعيه من وحدة مصالح المستعمرين كذلك لم ينتبه كامل إلى سياسات فرنسا التي كان يراهن عليها في أمر المساعدة على تحقيق الجلاء عن مصر في الشمال الأفريقي والذي تربطه به روابط أكثر مما تربطه بالترنسفال.
كذلك فإن الحزب الوطني كان بمثابة جبهة أكثر منه حزباً بالمعنى المفهوم لكلمة حزب فضم في داخله كل من كان يؤمن وقتئذ بضرورة الجلاء كحل لأزمة البلاد حتى وإن إختلفوا في مسائل أخرى، وهذا يوضح سبب كثرة الانشقاقات في داخل الحزب مع تطور الظروف في مصر.
كذلك فإن فريد قد تغيرت آراءه أحياناً بيد أنه تمسك بضرورة الجلاء كحل للمسألة المصرية، ومن المهم أن نذكر هنا أن الحزب الوطني قامت سياسته واستمرت في عهدي فريد وكامل على أساس طرق كل الأبواب والسعي لأي انتصار فالحزب رحب بتولي سعد زغلول نظارة المعارف واستبشر بذلك خيراً، وكذلك رحب بتولي بطرس باشا غالي رئاسة النظار وهو جلاد دنشواي وتمنوا أن يمحي بأمجاده ماضيه.
كذلك وكما ذكرت سابقاً فإن فريد بالتأكيد كان خاضع لظروف زمنه وهي التي فرضت عليه تطوير الأسلوب الكفاحي في مواجهة الاحتلال كما سنبين.
ولعل أسلوب المقارنة هنا هو السبيل الأفضل الذي سيمكننا من معرفة كيف طور فريد الأسلوب الكفاحي للحركة الوطنية من أجل الجلاء، ولكن بعد التأكيد على ما تغير في الظروف المحلية والخارجية
.
فكما قلنا سابقاً فإن حادث الحدود (حادثة فاشودة) وما تبعها من عقد الاتفاق الودي بين إنجلترا وفرنسا قد دفع بكل من كان يؤمن بأن سبيل الجلاء هو فرنسا خارج الحركة الوطنية لإدراكهم بأن فرنسا لن تساعدهم كما كانوا يتوقعون، كذلك الملتفين حول الخديوي قد خرجوا ايضاً لتغير الظروف مع مجيء جورست لأن الأمر قد اختلف بالنسبة للخديوي الذي مال نحو سياسة الوفاق مع الاحتلال وهو أساساً كان منذ عهد كرومر قد أخذ يغير شيئاً فشيئاً من سياسته نحو الحركة الوطنية وعبر عن ذلك في مناسبات عدة لعل أهمها هو حضوره لاحتفال الجيش البريطاني بعيد ميلاد الملك في قصر عابدين فلم يعد هناك وجود للخديوي الداعم لمقاومة الاحتلال بل أصبح يميل أكثر إلى التفاهم معه عندما أخذ نصيبه الشكلي في الحكم وهذه كانت سياسة جورست التي رأت أن ذلك هو السبيل لضرب الحركة الوطنية خصوصاً بعد أن ملأت الدنيا ضجيجاً إعتراضاً على حادث دنشواي وهيجت الرأي العام البريطاني نفسه.
كذلك وفي هذه الأثناء أيضاً أدركت الجماهير أنها موجودة وبدأت في التململ فهذه مصر التي تذوب شوقاً إلى الثورة طلاب مدارسها العليا يتعرضون لضغوط الاحتلال وأمام هذه الضغوط تتفجر تظاهراتهم وصدى دعوات مصطفى كامل وإن كانت دعوته تقوم على الإحراج الدولي والاعتماد على الخارج في تحقيق الجلاء تحمس الشعب من أجل الوقوف أمام الاحتلال.
وخارجياً، الحركة العمالية في أوروبا تتطور وتدرك أن تحررها مرتبط بتخلص المستعمرات من الاستعمار، وكامل يتصل ببلنت لكي يساعده بمحررين لجريدة الحزب الإنجليزية فيمده بالشيوعي الروسي تيودور روزشتين الذي يزيد من علاقة الحزب الوطني بالأحزاب العمالية في الخارج.
وفي الداخل فالنقابات المختلطة زادت من وعي العمال المصريين بضرورة التنظيم.
والدولة العثمانية أصبحت في حالة صعبة من الضعف حتى أن مندوبها الجديد لم يعد قادراً على رفع أي صوت أو إيجاد قوة لديه كما كان سلفه مختار باشا، كذلك الأرستقراطية التركية أصبحت تخشى من تأكيدات كامل المستمرة على أن مصر للمصريين مهما عبر عن فكره الخاص بعدم التناقض بين المصرية والعثمانية أو الجامعة الإسلامية.
كل ذلك كان يضع ضرورة تغيير بعض الأساليب أو في حالة الحفاظ على الأساليب القديمة تكون مع تطوير لها ولكن كل ذلك في إطار واحد محدد سلفاً هو ضرورة الجلاء وأنه هو السبيل الوحيد لحل المسألة المصرية.

ولنبدأ في المقارنة بين فريد وكامل في مسألة التوجه نحو الخارج بما في ذلك الدولة العثمانية:
كان كامل يبني خططه في الإعتماد على الخارج على أساس من الوضع الدولي لمصر بوصفها إحدى ولايات الدولة العثمانية (وهو الشكل القانوني الذي لم يسعى الاحتلال لتغييره) والتي حتى وان كانت تتمتع بوضع خاص في داخل الدولة نتيجة لجهود محمد علي التي حتى بعد فشلها أسفرت عن معاهدة لندن ١٨٤٠وما حددته من وضع لمصر الإضافة إلى فرمانات السلطان الأخرى التي إما أصدرها إلى محمد علي أو لإسماعيل نتيجة لرشاويه المستمرة (حتى وإن كان هذا الإعتماد مرحلياً ريثما الإستعداد للتخلص من الوجود العثماني نفسه).
فهو كان يتقوى بالدولة العثمانية (التي كانت أساساً ضعيفة) ورغبتها في إستعادة سيطرتها على مصر لكي يجد منها دعماً وضغطاَ على الاحتلال.
وفي الوقت نفسه يتجه إلى القوى الأوروبية التي في تناقض مع انجلترا محاولاً استغلال التناقض بل وأحياناً التنبيه لوجود هذا التناقض أو خلقه إذا لزم الأمر وذلك بالتأكيد على خطورة بقاء الاحتلال البريطاني لمصر على مصالح تلك الدول فهو يتجه إلى الرأي العام الأوروبي يخاطبهم بصيغة ضرورة التحرك لإنقاذ مصالحهم من خطر النفوذ البريطاني وإستئثار بريطانيا بمصر، فإن وضع مصر وما بها من مصالح أوروبية فضلاً عن قناة السويس وما تمثله من أهمية لأنها قناة الاتصال الشرق بالغرب فهي قناة اتصال أوروبا بمستعمراتها يحتم أن تبقى مصر مستقلة عن أي احتلال أو أي نفوذ أجنبي لأن وجود نفوذ قوي لإحدى الدول الأوروبية يهدد مصالح بقية هذه القوى الكبرى.
إذاً فكامل كان يتحدث بصيغة إذا كنتم لا تخافوا على مصالحكم في داخل مصر فخافوا على مستعمراتكم وطريق الوصول السريع إليها الذي بصمتكم عن الاحتلال هذا تجعلونه في يد قوة قد تختلفوا معها ذات يوم فتفقدوا مستعمراتكم لصالحها. ولم يكن يبالي بأن هذه الدول هي دولاً إستعمارية تماماً كإنجلترا وبأن المسألة المصرية لا تختلف عن مسألة بقية المستعمرات الأخرى.
وكان إتصاله بالدوائر السياسية في الخارج موجهاً أساساً لقوى السلطة بالإضافة إلى قوى المعارضة الرسمية أو الأحزاب البرجوازية التي هي أيضاً شريك في السلطة والتي كانت تتبادل مع الحكومة القائمة كراسي الحكم بين وقت وآخر. ولعل الاختلاف كان حينما توجه للاتصال ببلنت الذي وإن كان عضواً بحزب الأحرار فلم يكن صاحب انتماء مختلف عن بقية من خاطبهم في أوروبا لكنه كان شديد الاختلاف في واقع الأمر واتصال كامل به يشير لوجود تطور لدى كامل نفسه فبلنت هذا هو صديق الشيخ محمد عبده الذي كان كامل على خلاف معه بسبب علاقة محمد عبده المتوترة بالخديوي كذلك كان يعتبر من المعتدلين في السياسة المصرية كذلك فإن بلنت هذا كان صيقاً لعرابي ومتعاطفاً مع حركته الثورية التي طالما صب كامل عليها غضبه وسخطه بل وأتهم عرابي نفسه بأنه خائن وأن خيانته هذه هي التي سلمت البلاد لإنجلترا, غير أنه من الجائز أن يكون لفريد أثر في توجه كامل للإتصال ببلنت نظراً لما تمتع به فريد من مكانة في الحزب آنذاك وأن فريد كان حاضراً مع كامل حينما عرف بلنت كامل وفريد على مرشحه للعمل في جريدة الحزب الإنجليزية. وكان من رشحه بلنت هو تيودور روزشتين الثوري الروسي عضو الجناح البلشفي في حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي آنذاك ولعله من الغريب أن يرضى كامل بوجود شخص ثوري في إحدى مؤسسات الحزب ولكن يمكن قبول كامل للأمر كان لأن هذا الثوري ليس بمصري.

وعلى الجانب الأخر محمد فريد كان يحافظ على اتصال الحزب بمن سبق واتصل بهم سلفه ومخاطباً الرأي العام الأوروبي، واستمر على خطى سلفه في استغلال التناقضات بين القوى الأوروبية الاستعمارية وبعضها واستغلال الوضع القانوني لمصر الذي حددته الفرمانات السلطانية والمعاهدات الدولية التي نصت على عدم انفراد دولة واحدة بتقرير مصير مصر وبالتالي استمرار استخدام رؤية استعمارية الجوهر بالنسبة لمصر ولكن لم يكن هذا كل سياسة فريد الخارجية.
ففريد اتجه إلى جانب من اتجه إليهم إلى الأحزاب الثورية والعمالية الأوروبية والتي كانت في عداء مع السياسات الاستعمارية لبلادها بجانب عداءها لسياسات حكومات بلادها الاقتصادية والسياسية وقد أقام مع هذه الأحزاب علاقات قوية حتى إننا نجد حضورهم فيما عقده فريد من مؤتمرات بالخارج وأحياناً جلسوا جنباً إلى جنب بجوار خصومهم من الدوائر الرسمية والأحزاب البرجوازية (حتى وإن لم يكونوا من البلد ذاتها) كما حدث في المؤتمر المصري المنعقد في بروكسل 1910 ومن قبله مؤتمر الشبيبة المصرية بجنيف 1909. ولعل هذا الإقتراب من الحركات الثورية والعمالية في أوروبا شبيه بالتقارب بين العرابيين والحركات العمالية والثورية الأوروبية.
وفي الإطار نفسه كان فريد واحداً ممن تكرر حضورهم لمؤتمرات السلام التي عقدتها الأحزاب الاشتراكية في أوروبا وظهر تأثره بتوجهاتهم عندما أسس منظمة السلام بوادي النيل.
وكما ذكرنا سابقاً أن فريد كان يقوم بإستغلال التناقضات بين القوى الأوروبية الاستعمارية وبعضها على طريقة سلفه كامل، لكنه لم ينسى حقيقة وحدة المصالح الإستعمارية حتى رغم التناقضات التي بين هذه القوى وبعضها، فهذا كان موقفه منذ بداية عمله بالسياسة وهو ما عبر عنه في كتاباته التي كتبها في مجلة الموسوعات حول الإستعمار وأغراضه وأساليبه وسياسات الدول الاستعمارية في أفريقيا وآسيا وناصب هذه الدول العداء بما في ذلك فرنسا التي كانت قبلة الحركة الوطنية حتى الاتفاق الودي.
هذا على صعيد الدول الأوروبية الإستعمارية، أما على صعيد الدولة العثمانية صاحبة السلطة القانونية على مصر فنجد أن فريد كان يقوم بالتفريق بين مصر والدولة العثمانية أو بين الأمة المصرية والأمة العثمانية على وجه التحديد بعكس كامل الذي كان لا يرى فرقاً بين الإنتماء لمصر والانتماء للدولة العثمانية فمصر هي جزء من الدولة العثمانية وشعبها جزء من الشعب العثماني او الجامعة الإسلامية العثمانية التي تضم في داخلها العديد من الأمم والقوميات وأصحاب الديانات المختلفة أيضاً (هذا على صعيد موقفه الرسمي الذي أكده في أغلب ما أعلن وكتب بغض النظر عن بعض الخطابات والمقالات الأخرى التي تحدث فيها حول رؤيته القائلة بأن مصر للمصريين وحدهم وعبر عن أن توجهه نحو الدولة العثمانية هو مجرد توجه وقتي ريثما تتمكن البلاد من التخلص من النفوذ العثماني بعد التخلص من الاحتلال الأجنبي). وموقف فريد الذي اتخذه منذ بداية زعامته يعبر أساساً عن موقفه الأصلي من الدولة العثمانية وهو الذي أراد التخلص من الاحتلال ولكن مع عدم عودة النفوذ العثماني إلى البلاد كذلك فلا يمكننا نفي الظروف الموضوعية الخاصة بهذه الفترة حيث كانت الدولة العثمانية لا يمكن التعويل عليها تماماً في مسألة تحقيق الجلاء وحتى مندوبها بمصر لم يكن صاحب قوة كما كان سابقاً وكما أوضحنا فيما سبق.
واللافت للانتباه في مسألة العلاقة مع الدولة العثمانية هو أن موقف فريد في إعلان الانفصال عنها أو في إعلان رغبة الإنفصال عنها بمعنى أدق كان راديكالياً أكثر من العرابيين الذين ناصبوا الدولة العثمانية العداء أيضاً ولكن مع الاحتفاظ بصلات محدودة بها لكيلا تكون في صفوف العدو بشكل كامل بالإضافة إلى درجة تكور الوعي آنذاك الذي كان يتمسك بوجود واستمرارية "دولة الخلافة" وسيادتها على البلاد الإسلامية. وكان كلما تقدم فريد والحركة الوطنية ككل في كفاحهم ضد الاحتلال كلما ساءت العلاقات مع الدولة العثمانية أكثر أو كلما إتخذ فريد أسلوباً يعبر عن رؤيته أكثر حتى بالرغم أن ذلك كان يخلق تناقضاً ويعمقه في الحزب حتى على مستوى القيادة كبينه وبين الشيخ جاويش. ففريد كان يجهر في الاستانة نفسها بموقفه من السيادة العثمانية على مصر وعبر عنه في شارة مصر للمصريين التي كان يرتديها حتى هناك ويهاجم من تمسكوا بم-بدأ الجامعة الإسلامية بالشكل الذي يرتضيه رجال الدولة في الاستانة وركز في هجومه على الشيخ جاويش وكذلك محمد فؤاد سليم الذي كتب عنه فريد ما يشبه النعي وأن وفاته كانت بمصر وهذه الوفاة قبل أن ينحاز إلى الأتراك ويتم تعيينه سفيراً للدولة العثمانية في برن بسويسرا ليكون مراقباً ومعاكساً لأعمال الحزب الوطني هناك.
غير أن فريد تمتع أيضاّ بمرونة مع من كان يمكن المرونة معهم في الدولة العثمانية، أي الأطراف التي لم تكن تنظر لمصر على أنها لا تزيد عن كونها إحدى ولايات الدولة العثمانية وأنها لا تستحق النظام الدستوري، فلقد كان المحك الأساسي بالنسبة لفريد هو الإعتراف بحقوق الأمة المصرية وبأن التخلص من سيطرة أجنبية لا يعني الخضوع لسيطرة أجنبية أخرى.
وفي نهاية هذه المقارنة أرى أنه لابد من الإشارة من جديد إلى أن سياسة الحزب الوطني كانت تقوم على إستغلال كل الفرص للوصول إلى الهدف المنشود حتى ولو وصل الأمر إلى دعم أحد الخصوم من أهل البلاد كما حصل عندما رحبوا بتعيين سعد زغلول ناظراً للمعارف أو عندما دعموه فيما بعد في انتخابات الجمعية التشريعية، فهي سياسة أشبه بأن تكون سياسة لعب على كل الحبال (وهو أمر طبيعي بالنسبة للأحزاب البرجوازية خصوصاً إذا ما كانت تمر بظروف كالتي كانت الحركة الوطنية المصرية تمر بها وقتذاك) وكذلك كان فريد دائم السعي من أجل التوحيد بين الأحزاب الوطنية أو على الأقل إيجاد تقارب فيما بينهم مثلما حدث في مؤتمر الشبيبة المصرية بجنيف عندما وجه الدعوة وحضره أناساً من خارج الحزب وكذلك يمكن تأكيده مما صرح به زعماء الأحزاب الأخرى لجريدة الطان عقب مقتل بطرس غالي وأنه لولا حادث الاغتيال لكان من الممكن قيام الوحدة بين هذه الأحزاب. (ومن الجدير بالذكر أن سياسة الحزب هذه استمرت فيما بعد أيضاً كما يمكن أن نتبين ذلك من كتابات عبدالرحمن الرافعي التالية لتلك المرحلة ولكن هذا يخرجنا خارج الإطار المحدد للمقالة).

وإذا ما انتقلنا من مسألة السياسة الخارجية أو التوجه الخارجي إلى المسألتين الاقتصادية والإجتماعية أجد أنه أولا لابد من التأكيد على الطبيعة البرجوازية للحزب لكي يمكننا فهم الأفاق المتاحة أمام الحزب وقيادته خصوصاً وأننا هنا امام البرجوازية الصغيرة ووعيها أساساً وأمام الطرف المحافظ من هذه البرجوازية. غير أن الظرف الموضوعي أيضاً قد أخذ هذه البرجوازية الصغيرة يساراً قدر المتاح أمامها وأمام وعيها.
لما كانت الأوضاع قد رسمت الطريق أمام مصطفى كامل لكي يكون الرهان الأساسي على كل من الخديوي صاحب السلطة الشرعية أو الرسمية والسلطان صاحب السلطة القانونية لكون مصر تابعة له قانويناً وكذلك الدول الأوروبية صاحبة المصالح والامتيازات في مصر والتي بالتأكيد لا يهمها سوى ما يضمن لها تحقيق الأرباح، كل ذلك جعل الشعب وحركته خارج إطار الاهتمام الأساسي خصوصاً وأن الطبيعة الطبقية تخشى حركة الجماهير وتدرك سلفاً بأنها لن تستطيع السيطرة عليها وتأطيرها كما تريد هي (مثلما حدث في أيام الثورة العرابية حيث جرت الجماهير الثورة يساراً ودعم موقفها جهاز الثورة الدعائي ممثلاً في صحف النديم) بالإضافة إلى أنها لم تكن تتوقع حركة الجماهير من الأساس (بالرغم أن حادثة حرق جريدة المقطم لم تكن بعيدة ولكنها كانت تعبير عن غضب وقتي اكثر من كونها حركة جماهيرية واسعة). غير أن كامل وهو مما يحسب له في هذا الإطار قد اهتم بعملية التعليم وإعداد الجيل القادم وذلك منذ أن قام بتأسيس مدرسته وفيما بعد من دعم لمشروع الجامعة المصرية والذي كان أيضاً مدعوماً من المعتدلين بل وكانوا متولين إدارته (قاسم أمين وسعد زغلول) حيث كان هذا المشروع في الواقع مناوئاً للإحتلال وكان أشبه بمظاهرة وطنية حقيقة ضد الاحتلال (وكرومر شخصياً) الذي كان لا يرى لزوماً لهذا المشروع وأنه من الأفضل دعم الكتاتيب في القرى بدلاً من هكذا مشروع. فكان كامل هنا يتفق مع المعتدلين في وجوب إعداد الشعب الإعداد السليم نحو الجاهزية للاستقلال والمطالبة بحقوقه في بلاده فضلا عن مباشرة هذه الحقوق.
كذلك قد تحدث كامل غير مرة عن سوء أحوال الفلاح المصري ومعاناته وكذلك عن معاناة أرباب الحرف، غير أنها كانت أحاديث ودعوات مبهمة غير واضحة المعالم وكأن الهدف منها محاولة الوصول إلى هذه القطاعات الشعبية الغير ممثلة داخل عضوية الحزب (كانت عضوية الحزب في الأساس من نصيب البرجوازية الصغرى في المدن وتحديداً المدن الكبرى من دون الاهتمام الجاد بتجنيد الفلاحين أو أصحاب الحرف داخل الحزب ويمكن أن مرد ذلك إلى أن الحزب كان يعتبر نفسه في أغلب مرحلة زعامة كامل حزباً ينتسب إليه كل مصري عن طريق المولد أساساً) والتقريب بينهم وبين الوطنيين لكيلا يكونوا فريسة دعاية الاحتلال وأعوانه الذين تحدثوا كثيراً حول مزايا الاحتلال وفوائده بالنسبة للفلاح الذي تحسنت أحواله بعد قدوم الاحتلال. ولقد تعمقت هذه العلاقة بين الحزب وجماهير الشعب من الفلاحين في أعقاب حادثة دنشواي عندما ملأ كامل العالم بضجيج الإحتجاج على الاحتلال وفضح سياساته وكذبه بخصوص نجدته المزعومة للفلاح المصري حتى سبب له المشاكل في بلده نفسها والضغط الداخلي من أجل الإفراج عمن تم حبسهم بسبب هذا الحادث.
كذلك في فترة زعامة كامل ظهر المزيد من التوجهات الاجتماعية على استحياء من ذلك ما نشرته اللواء في عددها الصادر في ١٣ أغسطس ١٩٠٢ حيث نشرت ما يلي: "إن حالة العمال أصبحت مما لا يمكن السكوت عليه تجاه أرباب الأعمال الذين ليس عندهم أدنى شفقة ولا رأفة".
هذا في الوقت الذي كان يرى فيه الحزب وزعيمه أن الإضرابات العمالية بمثابة داء أوروبي تسرب إلى مصر بالإضافة طبعاً لرؤية الحزب المحافظة وطبيعته كجبهة متحدة التي فرضت الحفاظ على السلام الاجتماعي كسبيل لوحدة الحركة الوطنية وعدم تشتيت جهدها في الخلافات الداخلية للبلاد بدلاً من الاهتمام بأمر جلاء قوات الاحتلال البريطاني عن البلاد، بالإضافة لأن مثل هذه الإضرابات كانت عادة ما تتم بواسطة النقابات العمالية التي كانت موجودة آنذاك وهي كلها كانت نقابات مختلطة تضم العمال المصريين والأجانب جنباً إلى جنب فكان تحريض الإضرابات يتم عن طريق تحريض العمال الأجانب أصحاب الخبرة في هذه الإضرابات, ولما كان هؤلاء مغضوب عليهم من قبل دولهم أنفسها التي يراهن عليها كامل والحزب آنذاك فمن الممكن مهاجمة نشاطهم بعكس أصحاب المصالح التي يجب على الحزب أن يؤكد إحترامه لحرمة أموالهم وممتلكاتهم عسى أن تساعده دولهم في إحراج الاحتلال وإجباره على الخروج من مصر, وأما مثل هذا الرأي فهو هنا يمكن اعتباره وسيلة لعدم صرف العمال عن صف الحركة الوطنية والتأكيد على أن هذه الحركة لا تنسى وضعهم السيء تماماً كذلك فإن مثل هذا الرأي وإن كان صريحاً يهاجم أصحاب الأعمال صراحة فهو لا يقدم جديداً في واقع الأمر ولكنه يمكن اعتباره تسجيل موقف فقط لا أكثر.
كذلك يمكن تفسير الأمر بأنه طالما كان الحزب هو جبهة متحدة فمن الممكن أن هذا كان من تأثير اتجاه آخر في الحزب هو الاتجاه صاحب رؤية أقرب لأن تكون يسارية خصوصاً وأن هذه الأفكار بتطوراتها المختلفة قد عرفت طريقها إلى مصر من قبل هذه المرحلة أو الذين تعرفوا عليها من خلال القراءة في هذه الفترة.
وعند الإنتقال إلى فريد صاحب الأصل الارستقراطي (والذي كانت رؤيته في فترة زعامة كامل في أمر الإضرابات متشابهة تماماً) نجد أن الأمر يتغير في عهد زعامته والذي أيضاً لم يكن وليد شخصية فريد فقط ولكن لعبت فيه الظروف الموضوعية دوراً أساسياً بطبيعة الحال.
ففي تطورات الحال في الفترة الأخيرة من زعامة كامل قد تم حشد الشعب وراء الحركة الوطنية، ومادامت مصر تذوب شوقاً إلى الثورة كما وصفها كرومر في كتابه فلقد كان الشعب منذ البداية راغباً في التحرك والمواجهة ضد الاحتلال غير أنه كان مفتقداً إلى القيادة التي تؤمن بحركته وتقوم بتوجيهها وجهتها السليمة لكيلا تنتهي حركته هذه المرة بهزيمة كما هزمت الثورة العرابية ومحاولة الانتقام اللاحقة لها.
ولعل فريد بل وغيره من قادة الحزب قد أدركوا منذ هذه اللحظة أن حشد الشعب وراء الحركة أكثر مما كان في عهد كامل أي حشده وراء الحركة حشداً إيجابياً أي بإستغلال تجمع الجماهير وراء الحزب والحركة من أجل ضرب الاحتلال بشكل مباشر، ولما أصبح حشد الجماهير حشداً إيجابياً هو السبيل الأساسي والتوجه الخارجي هو الهامشي كان لابد للحزب أن يتجه لربط مشاكل الحياة اليومية لأعرض فئات الجماهير بمسألة وجود الاحتلال نفسه بالإضافة لأن الارستقراطية وأرباب الأعمال كانوا قد انفصلوا فعلياً عن الحزب وتفرقوا بين موالاة الاحتلال أو المعتدلين مع وجود من توجه إلى موالاة الخديوي أو العثمانيين (حتى وإن بقي بعضهم داخل الحزب أو من أنصاره حتى لكنهم لم يكونوا تياراً قوياً قادراً على إثبات نفسه بل مجرد أفراد ).
وبالنسبة لما دفع فريد لكي يكون توجهه الخارجي هامشياً بدلاً من أن يكون أساسياً نجد أن الحكومات والأحزاب والدوائر الرسمية في أوروبا الاستعمارية أثبتت انه لا أمل يرجى منها في مساعدة الحركة الوطنية المصرية حيث أن مصالحها كدول إستعمارية تتوافق مع مصلحة إنجلترا وإن التناقض الذي يقوم بين هذه الدول ما هو إلا تناقضاً وقتياً ومرتبطاً أكثر بأمر إقتسام كعكة الدول التي وقعت تحت الاستعمار فيما بينهم فلا يمكن مطالبتهم بالوقوف إلى جوار أمة مظلومة وهم ظالمون بأنفسهم لأمم أخرى حتى وإن كان في سيطرة إنجلترا على مصر تهديداً مرتقباً لمواصلات هذه الدول بينها وبين مستعمراتها, فإن هذا التناقض ليس بالأساسي على أي حال وبالتالي قابل للحل.
وهذا يعيدنا إلى رأي فريد في الإستعمار الذي سطره في مقالاته بمجلة الموسوعات، فكان هنا التقاء الذاتي والموضوعي ففريد كان مؤمناً بوحدة مصالح الاستعمار وسخر نشاطه وجزء من مقالاته في الموسوعات لتبيان الأمر بالحديث حول الاستعمار وسياساته في الدول التي وقعت فريسة له وقد جاء تأكيد ذلك وأصبح أمام فريد مهمة إيجاد السبيل الجديد الذي يجب أن تتبعه الحركة الوطنية المصرية فكان التوجه إلى الجماهير هو الحل الأساسي، بينما أصبحت أوربا هي الهامشية خصوصاً أوربا الرسمية التي بقي على علاقته بها بسبب ما سبق وأوضحناه من سياسة اللعب على كل الحبال التي اتبعها الحزب من أجل تحقيق هدفه الأساسي وهو الجلاء كذلك فإنه من الممكن وجود تأثير لأوروبا التي توجه إليها فريد ألا وهي أوروبا الأحزاب العمالية والاشتراكية والتي نصحت الحزب الوطني بإتخاذ الطريق الثوري لا الإصلاحي لتنفيذ هدف جلاء الاحتلال عن مصر.
ولتوضيح ذلك فلنسير مع الأمر ونرى كيف تم.
فكما أوضحنا سلفاً فإن السبيل لحشد الجماهير كان عن طريق ربط مشاكلهم بمسألة وجود الاحتلال أي ربط القضية الوطنية بالقضية الطبقية (ولكن هنا لم يكن الأمر بهذه الجذرية مهما إتخذت شكلاً جذرياً فيمكن القول بأنها القضية الاجتماعية للدقة) وكان توجه الحزب خارج أسوار المدن الكبرى هو البداية لحشد الجماهير وتنظيمهم لا مجرد دعمهم الهامشي خصوصاً وأن الحزب حتى ذلك الوقت كان مقتصراً على فئة المثقفين البرجوازيين الصغار في المدن.
ولما بدأ الحزب في حشد هؤلاء بدأ في خلق الروابط التنظيمية الخاصة بهم فكان تأسيس النقابات وبدأ الحزب بتأسيس نقابة عمال الصنائع اليدوية عام ١٩٠٩ في بولاق والتي انتشرت فكرتها إلى محافظات أخرى فأنشئت فروعها فيها وبحسب عبدالرحمن الرافعي فلقد كان الحزب الوطني هو من وضع لها قانونها وأتخذ لها ناديها بالسبتية وهو المكان الذي شهد إلقاء الندوات التي كانت بدايتها بندوة عن حال الطبقة العاملة الأوروبية فكأن الأمر كان نقل خبرة كفاحية للطبقة العاملة المصرية خصوصاً وأن ما كانت تحصل عليه الطبقة العاملة الأوروبية من إمتيازات ولو جزئية سهلت حياتها نوعاً ما كان نتيجة لقوة الحركة النقابية التي كانت تتبع الأحزاب العمالية والاشتراكية الأوروبية. ولعل الدليل على مسألة نقل الخبرة الكفاحية هذه أن الحزب كان على علاقة طيبة بالنقابات التي تأسست قبل هذه الفترة وهي نقابات مختلطة جمعت العمال المصريين بالعمال الأجانب المشتغلين في مصر كنقابة عمال المطابع المختلطة ونقابة عمال السجائر (لفافي السجائر) المختلطة.
كذلك كان العمل على ترقية أحوال هذه الفئة متزامنا مع تنظيمها، فقبل أشهر من تأسيس نقابة عمال الصنائع اليدوية وتحديداً في نوفمبر من عام ١٩٠٨ قام الحزب بتأسيس مدارس الشعب الليلية والتي كان دورها محو أمية الفقراء والعمال بالمجان، وكانت مهمة التدريس بها ملقاة على عاتق أعضاء الحزب وأحياناً ما قام محمد فريد بالتدريس في هذه المدارس أيضاً، ولم تكن مهمة هذه المدارس قاصرة على القراءة والكتابة بل تعدت ذلك إلى نشر الثقافة فمن دروسها: قانون الصحة والاحتياطات الصحية, العناية بتربية الأطفال, القوانين الخاصة بالمعاملات اليومية, أخلاق وآداب, تاريخ مصر والعالم الإسلامي, جغرافية مصر, دروس الأشياء, دروس الدين هذا طبعاً بالإضافة للقراءة والكتابة والحساب.
أي أن هذه المدارس قد عملت على النهوض بهذه الطبقة الاجتماعية التي تشكل السواد الأعظم من أهل البلاد وربطت بين تعليمهم وبين مبادئ الحزب وأهدافه ونشرت بينهم ما يجب نشره من المعارف. الأمر الذي جعل هذه المدارس بمثابة منظمة حزبية.
بالإضافة الى ذلك كانت الحركة التعاونية والتي كانت أيضاً سبيلاً من الحزب لوقف أعمال المرابين الأجانب في داخل الريف وجمعت الفلاحين تحت راية الحزب الذي أصبح بتطور الظروف واشتداد حدة الصراع في تطور مستمر جعلته حزباً حقيقياً وأقرب لأن يكون صاحب مشروع نهضوي حقيقي لا مجرد جماعة من أصحاب الشعور الوطني الراغبين في جلاء الاحتلال عن بلدهم وبالتأكيد ليس كياناً هلامياً فضفاضاً كما كان الأمر في البداية.وأصبح شعار فريد واضحاً أن الاستقلال الاقتصادي لمصر ماهو الا مقدمة لاستقلالها السياسي.

ولكن هل هذا كل شيء بخصوص القضية الاجتماعية والاقتصادية؟
والإجابة هي لا ، فلابد في هذا الإطار أيضا من الحديث حول الرؤية الاقتصادية لفريد.
بحسب رينيه روشبرون فإن آراء فريد الاقتصادية تتشابه مع اراء الثوريين الروس الملتفين حول فلاديمير لينين الذي استمتعت له مع أصدقاء من الوطنيين المصريين (المصدر: المصور ١٤/١١/١٩٦٩ درية عوني ، حديث مع رينيه روشبرون نقلا عن د.رفعت السعيد ،محمد فريد الموقف والمأساة طبعة الهيئة العامة للكتاب من سلسلة تاريخ المصريين ص ٢١٣) ولكنها ترى أن الفارق بين لينين وفريد هو أن فريد كان لا يزال يحترم شرعية النظام الحاكم حتى ولو كان الحاكم غير مخلص، لكنه متفق مع الثوريين الروس الملتفين حول لينين في أمر استغلال النظام الرأسمالي لطبقات الشعب.
ولم تكن هذه العلاقة هي أول علاقة بين الحزب والماركسيين الروس فالعلاقة من الممكن القول أنها بدأت مع ظهور روزشتين كصحفي في ذا ايجبشن استاندرد، كذلك وبحسب بوندرايفسكي في كتابه سياستان إزاء العالم العربي، أنه من خلال مطالعة كراسات لينين التحضيرية لكتابه الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية نجد أنها قد تضمنت الأبحاث والخطابات والنقاشات الخاصة بكل من مؤتمر الشبيبة المصرية في جنيف ١٩٠٩ (والذي شارك به روزشتين) والمؤتمر المصري ببروكسل ١٩١٠ الأمر الذي يؤكد وجود روابط قوية بين الحركة الوطنية المصرية والحركة الثورية في أوروبا عموما والروسية خصوصا.
كذلك كان فريد على علاقة قوية بـ الأممية الثانية، والغريب هو أنه حتى بعد صلته القوية بـ لينين والبلاشفة استمر على علاقته بـ الأممية الثانية بعد انفصال البلاشفة وأصحاب الخط الثوري في أوروبا عن الأممية الثانية. ولعل السبب في ذلك كان طبيعة الحزب في أمر الطرق على كل الأبواب أكثر من أن ذلك كان نابع من اتفاق الرؤى الإصلاحية بين الحزب وهذه الأحزاب.
والسؤال، هل إتصال فريد بالحركة الاشتراكية والثورية الأوروبية هو السبب في إضافة التوجهات الاقتصادية والاجتماعية للحزب؟ أم أن هذه التوجهات وسعيه لتكوين النقابات كانا الدافع للحركة الثورية الأوروبية للاتصال به ومد جسور الصداقة؟
في الواقع يمكن القول بأن كلا العاملين كان لهما تأثير.
فلقد كان الحزب يعلن دائما منذ عهد كامل أنه يقف إلى جوار الكادحين من أبناء الشعب ولكن ذلك طبعا على استحياء، وفريد وكامل كانا من أصحاب الرأي بأن الإضرابات هي داء تسرب من أوروبا إلى مصر (ذكرنا من قبل أن لعل السبب في ذلك كان راجع لأن التنظيمات العمالية في وقت زعامة كامل كانت نقابات مختلطة وغالبا ما تولاها العمال الأوروبيون أصحاب الخبرة في التنظيمات العمالية والحركة النقابية). ولكن بتطور الظروف يدرك فريد أهمية هذا السلاح في مواجهة الاحتلال ورجاله فكان من الطبيعي أن يتجه إلى تعميق العلاقات مع القوى الثورية والاشتراكية في أوروبا ولكن من دون أن يكون الحزب نفسه حزبا اشتراكيا وإن كان ذو مسحة اشتراكية .
وإجمالا فإن الحزب في عهد زعامة محمد فريد بلور رؤية أكثر نضجا مما كانت في عهد زعامة كامل فأصبح صاحب مشروع نهضوي أبرز ملامحه التعاونيات والعمل على تمصير الاقتصاد والتخلص من سيطرة الأجانب الاقتصادية وإدراك دور الرأسمالية الأجنبية في وضع مصر المزري أي اختصارا فإن الحزب في زعامة فريد أخذ يترجم الشعارات الفضفاضة إلى أرض الواقع في صورة رؤية ناضجة.
وفي الإطار الاجتماعي أيضا تكون نقطة الحجاب وتعليم المرأة إحدى النقاط التي يجب الحديث حولها.
فمن المعروف أن مصطفى كامل وقف بشدة أمام دعوة قاسم أمين إلى تحرير المرأة وخلع الحجاب كذلك كان الموقف العام في الحزب يميل في غالبه نحو الفكر المحافظ، ويمكن ربط ذلك برؤية الخديوي الذي عارض ما طرحه قاسم أمين، كذلك ارتباط قاسم أمين بـ المعتدلين في الحركة الوطنية، وأن دعوته قد ارتبطت بأنها دعوة تغريب للمجتمع المصري أكثر من كونها دعوة لأمر مفيد للمجتمع من عدمه، فكان لها رفضا شعبيا أيضا.
ولما كان هذا الرفض الشعبي موجودا (خصوصا عند الطبقة الوسطى) بالإضافة لرأي الخديوي كان لزاما على كامل أيضا أن يعارض هذا، فالحزب كانت رؤيته آنذاك تقوم على جمع كلمة الأمة والخديوي على أمر معين وهو الجلاء قبل الحديث في أي قضية من القضايا الأخرى. وفي تلك المرحلة التي سبقت إعلان تأسيس الحزب في ١٩٠٧ كان مفروض على الحزب وقادته عدم دعم أو تأييد ما لا يلقى إجماع شعبي أو ما قد يبعد عنهم بعض أبناء الشعب.
وفي عهد زعامة فريد لم يختلف الأمر من حيث رفض مسألة خلع الحجاب فكان رأي فريد أن الدعوة لخلع الحجاب هي دعوة للانحلال على النمط الأوروبي، والأهم بالنسبة للمرأة هو الاهتمام بتعليمها وتأسيسها على أسس سليمة تماما كالرجال.
فهنا لم يختلف موقف فريد عن موقف سلفه واستسلم فريد لرؤية طبقته الاجتماعية التي ظل ابنا لها حتى وهو يقف على يسارها، فكل ما أمكن تقديمه هو الدعوة لتعليمها ومساواتها بالرجال في هذا الأمر.
ولختام نقطة المسألة الإجتماعية، فقد أثار فريد مسألة في عهد زعامته هي مسألة إلغاء الرتب والألقاب الاجتماعية( أفندي، بك، باشا) وهو أمر لم نجد دليلا على أنه كان مطروحا في عهد زعامة كامل للحركة الوطنية ، وأورد عبدالرحمن الرافعي في كتابه عن محمد فريد جزءاً مما كتبه فريد في عدد العلم الصادر في ٢٦ ديسمبر ١٩١٠ حيث كتب فريد ما معناه أن هذه الألقاب قد الغيت عند من أسماهم بـ”الامم الراقية“ بما في ذلك الدولة العثمانية التي استبقت الرتب فقط لمن قاتلو في حروبها بينما جميع وزراء حكومتها من غير أصحاب الرتب
ولعل حديثه هنا عن ”الأمم الراقية “ يوحي بأن هذه الدعوة هي مما يمكن أن يقال عنه ”دعوة تغريبية“ بعض الشئ أو دعوة تأخذ ممن يطلق عليهم بالأمم الراقية أساتذة ولكنه يعود ويؤكد أهمية ذلك وفائدته وأن الألقاب هذه من دون فائدة حقيقية بل هي تعلم الإفساد.

ولعل النقطة الأخيرة في المقارنة بين الزعيمين هي نقطة احتار في عنونتها. ولعل العنوان الأفضل لها يكون : يكون بين الطريق السلمي والإرهاب الثوري.
رفع الحزب الوطني منذ زمن مصطفى كامل شعاره القائل بـ”لا مفاوضة إلا بعد الجلاء“، غير أن المأزق كان كيف يتم تحقيق الجلاء المنشود؟ وكان طبيعيا أن يكون الحزب في مرحلة زعامة كامل رافضا للثورة لهشاشة وضع الطبقة المكونة لهذا الحزب والساعة لتحقيق الجلاء، وإدراكها أن الطريق الثوري يعني أنه من الممكن بل ومن الطبيعي أن تخرج الجماهير عن السيطرة فيفرضوا شروطاً تخالف مصلحة هذه الطبقة كما حدث عندما فرضت جماهير الفلاحين شروطاً طبقية مضادة لمصالح كبار الملاك أثناء الثورة العرابية، كذلك فالثورة تعني أيضاً مما تعنيه أن عون الدولة العثمانية من أجل الجلاء سيكون قابلا للانقطاع وتكون الدولة العثمانية نفسها مصطفة في خندق الأعداء إلى جوار قوى أوروبا الاستعمارية وعلى رأسها إنجلترا مما يجعل أمام الحركة الوطنية مهمة أكثر تعقيدا وهي مهمة مجابهة أكثر من عدو جميعهم أقوياء في وقت واحد.
على هذا الأساس كان قرار كامل بخوض الكفاح بالطريق السلمي والمراهنة على التوازنات الدولية آملا الحصول على مساندة قوى أوروبا (خصوصا إذا ما اقتنعت الدول الأوروبية بخطورة استمرار الاحتلال على مصالحها في مصر وعلى طريق مواصلاتها بمستعمراتها في أفريقيا وآسيا)، وكذلك الحصول على دعم الدولة العثمانية صاحبة السلطة القانونية على مصر، غير أن كامل في مرة أثناء حديث له مع جريدة ”لاكورييري“ الإيطالية في ١٥ مارس ١٨٩٥ يهدد بالثورة وبإستخدام العنف في سبيل تحرير البلاد من الاحتلال، لكنه يعود وفي أكثر من مرة يؤكد على أن طريق الحزب الوطني هو الكفاح السلمي القانوني حتى تحقيق الجلاء، وحتى عندما وحتى عندما تلقى رسائل دعم من بعض ضباط الجيش المصري وصلت إلى إعلانهم الخضوع الكامل له، رد بحسم برفضه لأيديهم الممدودة إليه.
وفي بداية زعامة فريد كان يأخذ خط سلفه إلى أن أدرك حقيقة المأزق الذي هو واقعٌ فيه وحقيقة تغير الظروف وتحديد الخنادق.
إذا، كان لابد من تغيير الخطط أو تطويرها بمعنى أدق، ففي عهد فريد بدأ التطور من استخدام الطريق السلمي بحت إلى طريق العنف الفردي ضد الاحتلال وأعوانه مما يمكن أن يُطلق عليه ”الارهاب الثوري“ فهو مجابهة عنف الاحتلال وأعوانه بعنف مضاد ولكنه ليس بعنف ثوري مكتمل كما الحال في الثورات الكبرى التي شهدها العالم ولكنه قريب الشبه بالعنف الفردي الذي مارسته منظمات ثورية في العالم أو الذي فكر في تنفيذه الوطنيون المصريون منذ عهد الخديوي إسماعيل (على سبيل المثال كان موكول لمحمد عبده عندما كان ثوريا وتلميذاً للأفغاني التربص بالخديوي اسماعيل في قصر النيل لقتله).
ولكن، هل بدأ الحزب سياسته الخاصة بالإرهاب الثوري قفزة واحدة أم أنه تدرج في أسلوبه الكفاحي الجديد حتى وصل لمرحلة ممارسة العنف؟
في الواقع لم يكن الأمر قفزة واحدة ولكنه بدأ بشيء من التدرج.
فكانت البداية باستخدام سلاح جمع التوقيعات للمطالبة بالدستور، ثم سلاح للتظاهرات الشعبية والإضرابات العمالية التي كانت تحت قيادة الحزب الذي بدأ أيضاً في تأسيس النقابات الوطنية مع استمرار تنسيقه مع النقابات المختلطة (كان فريد مهتماً غاية الاهتمام بتأسيس النقابات حتى أننا نجده في فترة نفسه يرسل إلى عبدالرحمن الرافعي مطالباً إياه بالإهتمام بتأسيس النقابات).
وفي ذلك الوقت يمكننا أن نجد بدء عمليات الإرهاب الثوري فيش شكل تهديدات للخديوي كما حدث معه في حادثة قطار مريوط المتجه إلى الإسكندرية عندما وضعوا له العوائق أمام القطار وهددوه بنسف موكبه، فضلاً عن التهديدات السلمية كالتهديد بالتوقف عن دفع الضرائب الذي قال به رجال الحزب في موقفهم الرسمي كوسيلة ضغط من أجل الاستجابة لمطلبهم الخاص بإعادة الدستور.
وإننا نجد الاتجاه نحو الحسم في قيادة فريد أكثر مما نجد هذا الاتجاه لدى كامل، فحتى عندما يستخدم فريد الوسائل السلمية نجد أن ميوله نحو الحسم واضحة لا تشوبها شائبة بخلاف كامل.
إلى أن نصل إلى عام ١٩١٠ وتحديداً يوم ٢٠ فبراير، يوم انطلق الرصاص من مسدس ابراهيم الورداني تجاه بطرس باشا غالي فكانت بداية حوادث الاغتيال وإعلان من الوطنيين عن بداية جديدة بإغتيال المتعاونين مع الاحتلال، حتى وإن أنكر الموقف الرسمي للحزب صلته بـ الورداني الذي كان أحد أعضاء الحزب وأنكر الورداني نفسه أن ما فعله كان من تخطيط الحزب مما أبعد التهم الرسمية عن الحزب وقادته (بينما استمرت التهم من الأحزاب المنافسة ومن الجرائد التابعة لهذه الأحزاب أو التي كانت أبواقاً للاحتلال كجريدة المقطم) حتى مع وجود متهمين آخرين من المنتمين للحزب فقد تم إدراج الأمر بأنهم أسسوا جمعية تتخذ من حوادث العنف والاغتيال أسلوباً لتحقيق أهدافها لا أنهم جزءاً من الحزب الوطني كما لم تتم محاكمة بقية من تم اتهامهم حيث استثنتهم محكمة مصر من قرار إحالة الورداني لمحكمة الجنايات ليحاكم أمامها. وإن كان موقف الحزب الرسمي أنكر أن الورداني نفذ إغتياله لبطرس غالي مستنداً إلى خطة حزبية وكذلك أنكر الورداني أن الأمر كان نابع من تخطيط حزبي، فإن مذكرات فريد التي جاء بها ذكر الورداني عام ١٩٠٩ بأن الورداني قد انضم إليه في الاستانة لحضور احتفالية خاصة بذكرى إعلان الدستور العثماني، كذلك لم ينكره صبري أبو المجد في كتابه ”محمد فريد ذكريات ومذكرات“ عندما تحدث عن زيارات فريد للطلاب المصريين المنتمين للحزب بأوروبا وهداياه لهم التي كانت عبارة عن مسدسات كذلك زيارات الورداني لتجديد العهد معهم.
وبناءً عليه يمكننا أن نقول بوضوح بأن اغتيال بطرس غالي كان نتيجة لقرار حزبي باستخدام هذه الوسيلة ضد الاحتلال ورجاله من المصريين المتعاونين معه. ويمكن أن نقول أيضاً باحتمالية وجود جهازاً سرياً يتبع الحزب هو الذي نظم هذا الأمر كوسيلة كفاحية وأن هذا الجهاز كان أيضاً تحت قيادة فريد الذي كان مهتماً بأن يتدرب شباب الحزب في الخارج على استخدام السلاح وأن يجيد استخدامه.
ولكن، من أين للحزب بهذه الفكرة ؟
أعتقد أن الأساس لذلك قد نشأ من واقع تراث الحركة الوطنية التي فكرت في استخدام هذا السلاح منذ أيام الخديوي إسماعيل، وأعادت التفكير في استخدامه عقب وقوع الإحتلال حيث تأسست جمعية الانتقام التي سرعان ما تم كشفها ووجد عناصرها أنفسهم في السجون وتم اجهاض محاولتهم.
بالإضافة إلى ذلك كانت الخبرات الثورية المستمدة من الأصدقاء بالخارج، فبدأت بالخبرات الثورية الهندية في مكافحة الاحتلال والتي عرفت أخبارها طريق الوصول إلى مصر، فكانت اللواء تنشر ما هو متوفر من أخبار تظاهرات الطلاب الهنود الحاشدة ونضال شباب الهند الثوري ضد الاحتلال، وقد عرفت أخبار المناضل الهندي ”دنجرا“ الذي اغتال ”السير كرزون ديلي“ طريقها للوصول للوطنيين في مصر فنشرت اللواء في عام ١٩٠٩ مقالات عن دنجرا، ختمتها في ١٧ أغسطس من العام نفسه حيث كان مقررا إعدام دنجرا يومها وكان الختام للشيخ عبدالعزيز جاويش حيث كتب ” سلام عليك يا دنجرا. سلام في ظلمات القبور. سلام عليك كلما ذكرك الذاكرون. سلام عليك حيا وميتاً“. وكانت هذه المقالات عن دنجرا من أسباب تذمر رئيس النظار آنذاك بطرس باشا غالي، الذي بث شكواه إلى المعتمد البريطاني موضحاً له خطورة الأمر من حيث كونه دعوة لفعل ما فعله دنجرا ولكن في مصر هذه المرة. (وكأنه كان يشعر بأنه سيكون الضحية الأولى لهذا فسرعان ما تحدث عن مخاوفه).

أما خبرات الاصدقاء الثانية فهي تعيدنا للعلاقة بين الحركة الوطنية المصرية من جهة والحركة الثورية الأوروبية من جهة أخرى، خصوصاً وأن ما ذكره صبري أبو المجد في كتابه سابق الذكر يؤكد أن بداية هذه المجموعة التي تدربت على استخدام السلاح كانت في أوروبا حيث درس هؤلاء وحيث التقوا الثوريين الأوروبيين الذين كانوا من أصحاب الفكر الاشتراكي في الغالب خصوصاً وأن القطاع الأكبر منهم كان يعمل في المصانع ليعيل نفسه وكذلك لأن اليسار الأوروبي في ذلك الوقت بما في ذلك تياراته الانتهازية هي التي فتحت أبوابها لمساندة الوطنيين المصريين، وكثيرا ما طالبت الأحزاب العمالية والاشتراكية في أوروبا الوطنيين المصريين بسلك الطريق الثوري لتحقيق أهدافهم.
إذاً، فلقد استمدت الحركة الوطنية المصرية تكتيك الإرهاب الثوري من منبعين، الأول هو الخبرات المصرية والثاني هو الخبرات الثورية القادمة من الخارج. مع وجود الظروف الموضوعية التي هيأت إمكانية القيام بمثل هذه العمليات، والتي وصفها عصام الدين حفني ناصف بأنها كانت تلعب دوراً ثوريا في تحريك الجماهير وقت التخلف السياسي وضعف النشاط الحزبي.

ولكن، لأي غرض كان سعي فريد والحزب الوطني لتنفيذ عمليات الإرهاب الثوري؟ وهل هذا كان نهاية المطاف بالنسبة لخططهم أم أنه كان بداية لأمر أكبر وأشمل؟
وإجابة السؤالان مرتبطة ببعض ولكن لنبدأ بالأول والذي تكمن إجابته في هدف الحركة الوطنية الأساسي ألا وهو تحقيق الاستقلال (بدأ بالجلاء فقط وانتهى في زعامة فريد بالاستقلال التام الذي لا يرتبط بالخضوع لأي دولة) كذلك تم ربط الاستقلال السياسي والاقتصادي على نحو واضح ومحدد.
أما الثاني فإجابته هي أن الأمر لم يكن النهاية بالنسبة للحركة الوطنية آنذاك ، بل على العكس كانت المقدمة لأمر أكبر كان يتطور في فكر قادة الحزب ولكن كانت تنقصه الظروف الموضوعية التي تساعد على تحقيقه. وهذا الأمر الأكبر كان الثورة.
الثورة التي تفاجئ فريد نفسه بانطلاقها عام ١٩١٩ كانت الهدف المنشود من وراء تكتيكات الحزب هذه. ولعل كون الثورة هدف الحزب أو وسيلته لتحقيق هدفه في الاستقلال التام لمصر هو المفسر لتطور أساليب الحزب الكفاحية منذ تولي فريد زعامته، وكذلك اتصالاته الخارجية وتوجيهها ناحية أحزاب ومنظمات ثورية واشتراكية مع تهميش الاتصال الخارجي لأحزاب السلطة والمعارضة الرسمية في أوروبا. كذلك التأكيد المستمر من قبل فريد على تشابه قضايا الشعوب الواقعة فريسة للاستعمار (وذلك حتى من قبل أن يتولى زعامة الحزب أو يتكون الحزب بشكله النهائي من خلال ما كتبه في مجلة الموسوعات مثلا).ولكن، فإن هذا السعي أيضا واجه عقبات عدة منها ما هو ذاتي وما هو موضوعي.
غير أن العقبة الموضوعية الأساسية كانت ممثلة في القدرة على حشد جماهير الشعب، وكان من المفترض أن تكون في طريقها للحل طالما أن الحزب يقوم بتنظيم الجماهير في داخله وفي منظماته الجماهيرية المختلفة، والتي كانت النقابات العمالية والتعاونيات ونادي المدارس العليا، فكان لحزب منذ أن تولاه فريد وبالرغم من الضربات القمعية التي كالتها له السلطات، أكثر قوة مما كان عليه إبان زعامة كامل، ولعل ذلك يعود أساساً لأنه أصبح حزباً بالمعنى الحقيقي وارتباطه الذي ازداد بالقطاعات الشعبية، فلم تعد علاقته معهم قائمة على أساس من مطالبة الجماهير صاحبة المصلحة في استقلال بلدها بالوقوف على الهامش والتأييد من مسافة بعيدة لنضال الحركة الوطنية القائم على مخاطبة الرأي العام الأوروبي بل على العكس، أصبح لزاما على الجماهير أن تشارك في العملية الكفاحية التي كانت تسير بشكل يومي، فأصبح عليها توقيع عرائض المطالبة بعودة الدستور والمجلس النيابي، أصبح عليها الخروج للتظاهر للمطالبة بالدستور، أصبح عليها الإضراب عن العمل أحياناً للمطالبة بتحسين أوضاعهم المعيشية وستجد من الحركة الوطنية الدعم والتأييد وكذلك من المتعاطفين معها حتى وإن تعطلت مصالحهم نتيجة للاضراب فهم مدركون بفضل صحافة الحركة الوطنية (جهازها الإعلامي) عدالة قضية المضربين وأنها جزء من كل أكبر هو قضية تحرر المصريين من الاحتلال طالما تساند حركتهم الصحف الوطنية التي وضعت التخلص من الاحتلال أولوية لها.
كما أصبح من حق من حرم منهم من التعليم أن ينتظم في مدارس الشعب الليلية التي نظمها الوطنيون وتولوا مهمة التدريس فيها من أجل النهوض بالشعب وأوضاعه وتعريفه حقوقه وواجباته والسبب الكامن وراء تردي أحواله.
وإذا ما أتينا إلى الحزب نفسه (الظرف الذاتي) لوجدنا أن الأمور كانت أكثر تعقيداً من الظرف الموضوعي.
فكما ذكرنا سابقا،لقد كان الشكل الأول الذي تأسس عليه الحزب أقرب لأن يكون جبهة وطنية منه إلى الحزبان السياسي الحقيقي، الأمر الذي يجعل من أصحاب الرؤى المختلفة سويا في إطار الحزب نفسه، ويتطلب قيادة قوية قادرة على السيطرة على الأعضاء وأكثر من ذلك قادرة على إرضاء الجميع ومنع تفجر الخلافات الكبرى حفاظاً على وحدة الحزب والحركة الوطنية ككل.
وبالرغم من الانشقاقات التي وقعت داخل الحزب في الفترة السابقة على إعلان تأسيسه إلا أن فكرة هذه الجبهة استمرت حتى بعد الإعلان الرسمي وبعد تولي فريد زعامة الحزب خلفا لكامل. إلا أنه في هذه الفترة بدأت التباينات داخل الحزب والخلافات في الظهور على السطح. ولعل أبرز هذه التباينات كانت التباين بين فريد وبين علي فهمي كامل (شقيق مصطفى كامل الذي كان طامعا في خلافة أخيه) الذي كان بمثابة رجلا للخديوي داخل الحزب.
كذلك كان الشيخ جاويش الذي وإن كان على صلة جيدة بفريد وكان ممن وثق بهم فريد كذلك كانت كتاباته ذات قوة وساهمت في التعريف بالنضال الثوري الهندي (مقاله عن دنجرا)، إلا أن التباعد بينهما كان حتميا في الأستانة حينما عبر جاويش بصراحة عن ميوله وتوجهاته العثمانية. وفي أمر التوجهات والميول العثمانية لم يكن جاويش وحده بل كان معه آخرون سواء ممن استقطبهم هو أو استقطبتهم الحكومة العثمانية نفسها.
كانت هذه إحدى الصعوبات الذاتية وهي الخلافات الداخلية بين الولاء للخديوي والولاء العثمانيين والالتزام بالخط السليم للحزب.
وننتقل لصعوبة أخرى في الظرف الذاتي ايضا، الا وهي كيف نظر فريد ومن معه إلى الثورة؟
في الواقع فإن نظرتهم للثورة كانت أقرب لأن تكون الحل النهائي بعد فقدان الصبر والحيلة، لا الحل الأساسي في مواجهة الاحتلال ورجاله حتى بالرغم من التحضيرات التي ذكرناها سابقاً الخاصة بإشراك الجماهير في نضال الحزب من أجل الاستقلال فبالتالي يمكن توقع كيفية النظر إلى الثورة ووجود احتمالات دائمة بالتراجع إذا ما لاح أمل جديد في تسوية الأمر بعيداً عن اللجوء للثورة.
وفي الإطار نفسه كانت مشكلة أخرى هي ”الدعوة للحياة الحرة“ وهي الدعوة التي توجه بها الحزب منذ زمن مصطفى كامل إلى الشباب وأستمر عليها فريد من بعده، كانت هذه الدعوة تقوم أساسا على تحريض الشباب على عدم التوظف في الوظائف الحكومية المختلفة والعمل في الأعمال الحرة بدلا من ذلك، وبالتأكيد كانت هذه الدعوة موجهة إلى الشباب من ابناء البرجوازية الصغيرة والمتوسطة القادرين على التوجه للعمل في المهن الحرة. وبالرغم من أن هذه الدعوة قد أضعفت في قوة الحزب نوعا ما إلا أنها كانت في وقتها وبحسب من توجهت إليهم أقرب لأن تكون محاولة للعصيان والوقوف أمام توغل الموظفين الأجانب –الانجليز تحديدا– في الوظائف العامة فإما التخلي عن الموظفين الأجانب أو رفض الوطنيين لتولي الوظائف، ولا يمكننا أن ننكر أنها كانت دعوة طوباوية بعيدة عن الواقع وأنها كانت من أسباب ضعف قوة الحزب.
لنصل إلى نقطة أخرى في عوامل ضعف الحزب في أمر الثورة، ألا وهي من هم حلفاء الثورة أو ممن انتظر الحزب مساندة الثورة؟
في الواقع لقد أرادوا المساعدة من أصدقاء الحركة الوطنية القدامى لا من الأصدقاء الجدد الذين توطدت الصلة بين الحزب وبينهم عندما تولى فريد الزعامة.
فلقد سعوا للحصول على دعم من الأتراك والألمان قبيل اشتعال الحرب وأثناء الحرب وكان الدعم الذي طالب به فريد عبارة عن أسلحة وذخائر ليتولى الحزب إدخالها وتخزينها بمصر حتى توزيعها لاستخدامها عند اشتعال الثورة. ومن هذا المنطلق التقى فريد سكرتير عام وزارة الخارجية الألمانية للحديث حول إمكانية إمداد الحزب بالسلاح المطلوب. ويبدو أن أمر إشعال الثورة هذا كان من وجهة نظر فريد حال هزيمة دول الوسط في الحرب العالمية الأولى، حيث يتبين أن الخطة الرئيسية التي كانت عند فريد هي أن هزيمة إنجلترا في الحرب هي القادرة على حسم الموقف وإجبارها على الجلاء، فكان هنا يعيد تقريباً كامل خطط الحزب القديمة المراهنة على قوة الضغط الخارجي على انجلترا .
ولعل السبب في توجهه نحو الألمان والأتراك أو نحو خطة الحزب القيمة والاصدقاء القدامى من الحكومة الاستعمارية الالمانية والدولة العثمانية كان السبب فيه هو أن الأصدقاء الجدد من أحزاب وقوى اشتراكية وثورية ليسوا بالقوة التي تمكنه من المراهنة عليهم في مساعدة الثورة بالشكل المطلوب والذي ستتمكن منه هذه الدول حتى وإن كانت منهزمة. كذلك، فعندما نجح أحد الأصدقاء الجدد في الوصول إلى موقع السلطة بالأسلوب الثوري في بلاده عام ١٩١٧(البلاشفة) لم يكونوا بالحال القوي الذي يمكنهم من تقديم العون المطلوب للثورة في مصر.
كذلك وعند بداية الحرب لاح بقوة أمل نجاح الخطة الأولى للحركة الوطنية وكان مبعث هذا الأمل اللقاء الذي تم بين فريد والخديوي عباس الثاني بالأستانة والذي به تم الصلح بينهما بعد أن أدرك عباس أن السبيل لكي يمارس حكمه يحتاج إلى حليف وطني قوي وأن هذا الحليف الذي يريد لن يكسبه إلى صفه إلا بتقديم تنازلات يريدها الحليف فكانت التنازلات ممثلة في إعادة الدستور ومجلس النواب، فكان صدور منشور الخديوي عباس للأمة في ١١ نوفمبر ١٩١٤ بإعادة الدستور. وقد تضمن المنشور فيما تضمنه تسيير جيش عثماني إلى مصر لكي يعيد الحال لما كان عليه قبل عام ١٨٨٢ بما يعني التخلص من الاحتلال وعودة الدستور والمجلس النيابي ضمناً، ولكن عباس يزيد التأكيد بعودة الدستور وإلغاء القوانين المنافية للحريات. فإذاً كان الأمل معقود على نجاح الخديوي الذي يصاحب الجيش العثماني (والذي لابد له أولاً من الانتصار في ميدان الحرب على الحلفاء قبل التوجه إلى مصر أو بالتزامن على أقل تقدير)، وأصبح التحالف بينهما قائماً على أساس أنه لا وجود للحكم الاستبدادي بعد إنجاز مهمة جلاء القوات البريطانية. فإذا ما انتصر الإنجليز فهنا يتم تفجير الثورة في مصر كما صرح بذلك لمن كان معه في ألمانيا من شباب الحزب الوطني عام ١٩١٥، لذا أقول أنه نظر إلى قرار الثورة على أنه الخطوة الأخيرة اليائسة التي سيلجأ إليها حال فشل الخطوات الأخرى التي لا تجعل الشعب في داخل المعادلة. ومن الغريب حقاً أن فريد قد استمر في رأيه هذا من الأتراك وظل يراهن على ما يمكن أن يحققوه من انتصار للقضية الوطنية المصرية أو ما يقدموه من دعم لها رغم وجود الأمير سعيد حليم في منصب الصدر الأعظم وهو الذي يعادي منح مصر نظاماً دستورياً وكان يرى أن تكون مصر ولاية عثمانية عادية ضمن ولايات الدولة، أي حتى حرمانها مما كانت تتمتع به من وضع أفضل قبل عام ١٨٨٢وأرسل إليه من ينتقده على رفعه شعار "مصر للمصريين" في الأستانة.
ولم يكن يفوت فريد هذا الأمر، فيكتب في مذكراته مهاجماً الأتراك وواصفاً إياهم بالغباء وضحالة الفكر وأن خوفهم من إعطاء مصر وسائر عرب الدولة حقوقهم وجعل علاقتهم قائمة على اتحاد ديمقراطي إنما هو نابع من أنهم مدركون أن العرب أكثر تفوقاً من الأتراك وأنه بذلك سيتمكن العرب من السيطرة الكاملة على الدولة العثمانية. كذلك يصرح في لقائه مع وكيل الخارجية الألماني بأن الأتراك لا حق لهم في مصر وأن نتيجة حكمهم يمكن معرفتها بالنظر إلى الأوضاع السيئة في الشام ( أي أن فريد هنا يعود لرأيه السابق في الدولة العثمانية ورفضه أن تعود مصر إليها بعد التخلص من الاحتلال البريطاني).
والنقطة الأخرى في غرابة موقفه هي أنه بالرغم من إنتظاره قيام دول الوسط (تركيا تحديداً) حال الإنتصار في الحرب بتحرير مصر من الاحتلال طبقاً للصيغة التي وضعها الخديوي المخلوع عباس حلمي الثاني (كان خلع عباس لاحقاً على إصدار منشوره سابق الذكر إلى الأمة)، وبعد أن كان يؤمن نفسه حال فشل خطته أو تذبذب العثمانيين (الذين كان يرى أنهم يفضلون بقاء الاحتلال على إعطاء مصر حقوقها ونظامها الدستوري) عبر طلب الأسلحة والذخائر من الألمان لكي يفجر الثورة في مصر وأرسل عبدالعزيز عمران لبحث الأمر والوقوف على استعداد رجال الحزب في مصر. وبالرغم من كل ذلك كان يسير في خطه الخاص وصداقته بأصدقاء الحركة الوطنية الجدد في أوروبا من الأحزاب والحركات الثورية والاشتراكية التي كانت تخالف طريق حكوماتها والتي ربما لو كشف أمر علاقته بها لاًصبح منبوذاً من الطرفين (وحتى وإن استمر على علاقته بالتيارات الانتهازية داخل الأممية الثانية فهو جمع في صداقته بين الانتهازيين والثوريين).
الأمر الذي يضعنا أمام احتمالين لتفسير موقفه، فإما انه كان يرى في أحد الطرفين أنه ليس بالصديق المخلص فكان يضمن صداقة من هو أكثر إخلاصاً في الوقت الذي لا يقطع صلته بالأقل إخلاصاً. وإما انه كان مستمراً على سياسة الحزب المتبعة من قبل أن يتولى الزعامة (والتي استمرت ايضاً في الحزب الوطني في الفترة المعروفة بالفترة الليبرالية والتي من الممكن أن نلمسها في كتابات الرافعي وتحليله للمواقف السياسية) وهي سياسة اللعب على كل الحبال لعل إحدى هذه المحاولات قد تفلح ويتحقق هدف الحركة الوطنية.
ولكل احتمال قوته الأمر الذي يجعله قائماً، ففريد لم يكن يثق في الأتراك وكان مدركاً خبث تصرفاتهم وسياستهم. كذلك كان مدركاً أن الألمان في النهاية قوة استعمارية تماما كإنجلترا وأن مصالحها مع الأتراك لهي أكبر من أي مصلحة قد تكون لها مع مصر. الأمر الذي يعزز الاحتمال الثاني ( الخاص بأن مرد ذلك كان لسياسة الحزب الوطني الخاصة باللعب على كل الحبال) و يجعله الأقرب إلى الصواب. بينما قوة الاحتمال الأول فتكمن في صلته بالتيار الانتهازي داخل الحركة الاشتراكية الأوروبية والذي من الممكن أن يكون وقع تحت تأثير هذا التيار فجعله ينتظر العون من الحكومات الاستعمارية مجدداً.
ولكنني أرى أن الاحتمال الثاني الخاص بأن مرد ذلك هو سياسة اللعب على كل الحبال هو التفسير الأصوب للأمر، وبغض النظر عن صحة هذا الأسلوب من عدمه، فإن فريد في النهاية هو أحد أبناء طبقة اجتماعية هذا هو اسلوبها، قد يكون على يسارها أحياناً كثيرة ويميل للحسم ولا يتخلى عن مبادئه كقاعدة ولكن لكل قاعدة استثناء وهذا أمر طبيعي. لكنه دائماً ملتزماً بمبدأ التمسك بالجلاء كأساس ومتمسك بشعاره ”مصر للمصريين“.
ولقد استمر فريد في أوروبا يؤكد على حق مصر في الحصول على حريتها واستقلالها سواء في خطبه أو مذكراته للمؤتمرات سواء في أثناء الحرب أو بعدها حتى كان إنفجار الثورة في مصر والذي يمكن ببساطة مما تقدم معرفة كيف ساهم فريد والحزب الوطني تحت زعامة فريد في تفجيرها حتى وإن لم يكونوا هم محركي الاحداث بل قيادة جديدة صعدت من بين المعتدلين لا المتطرفين وأرادوا قطع أي صلة رسمية بالحزب الوطني أو المتطرفين كما كان يطلق عليهم، حتى إنهم تنكروا لفريد حينما توجهوا إلى باريس ولم يردوا على رسالته التي أرسلها لهم ” نحيي فيكم الوطن الغائب ونتمنى لكم التوفيق“.
غير أن الوفد (والذي كانت قيادته رافضة للثورة على الأقل في الموقف الرسمي المعلن وترى أنها عائق أمام تحقيق المطلوب منها) لم يجدوا مفراً من الاتصال برجال الحزب الوطني خصوصاً في الخارج ليعاونوهم على أداء مهمتهم، كذلك فلقد كان رجال الحزب في الداخل عامل مساعد جيد في عمليات جهاز الثورة السري التي لجاً إليها الوفد من أجل ممارسة الضغط على السلطات (كان معروف عن الحزب الوطني أنه من دبر محاولات الاغتيال المتكررة في أثناء الحرب لرجال الاحتلال والمتعاونين معهم من المصريين ومنهم السلطان نفسه) حيث كان شباب الحزب منظماً ومشبعاً بالروح الثورية حتى أن الرافعي يعلن بانه في شبابه وقت اندلاع الثورة كان ميالا إلى الأسلوب الثوري بخلاف وقت كتابة كتابه عن ثورة ١٩١٩.
وفي الخارج، قام طلاب الحزب في فرنسا بالضغط على الوفد لكي يتوجه إلى اليسار الأوروبي لأنهم كانوا مدركين من هو الصديق المخلص للحركة الوطنية، كذلك فقد مارسوا ضغطاً على الوفد لكي يتخذ إجراءات ثورية وحاسمة حتى ضاق سعد زغلول وشعر بخطأ الاعتماد عليهم فقرر قطع معونة الوفد لهم ولكن الدعم وصلهم من الشعب، الأمر الذي يقول أنه حتى في ظل قهوة زعامة الوفد فإن احدى منظمات الحزب الوطني كانت ذات قوة واضحة حتى وهي خارج البلاد (كذلك يظهر تعلق المصريين بمحمد فريد في جنازته وفي تحمل أحد التجار مصاريف نقلها من ألمانيا حيث توفي إلى مصر).
ولقد بقي فريد حتى رحيله في ال١٥ من نوفمبر عام ١٩١٩ مضحياً ومكافحاً في سبيل استقلال مصر التام، ونال تقدير شعبه بأن تولى أحد التجار نقل جثمانه وتنفيذ وصيته القائلة بأن يدفن في مصر وكذلك في مظاهرة تشييعه إلى مثواه الأخير حتى وإن كانت زعامة الشعب قد انتقلت للوفد لا للحزب الوطني.
وأخيراً، فإن دور محمد فريد في الحركة الوطنية لهو ذو أثر كبير حتى وإن تم إنكاره دائماً بطرق مختلفة أو التركيز فقط على أن تضحياته كانت تضحية بالمال أو المنصب فقط. فإن تضحياته كانت أكبر من ذلك كثيراً حتى استحق اللقب الذي لقبه به عبدالرحمن الرافعي ”رمز الإخلاص والتضحية“.
ولعل أهم ما قدمه فريد (في نظري) يمكن أن يلخص في نقاط ثلاث:
١ أنه ربط القضية الوطنية بالقضية الطبقية .
فلقد ربط وجود الاستعمار بالاستغلال الذي تعرض له كادحي مصر وأدرك أن تنظيمهم ونضالهم من أجل تحقيق مطالبهم هو جزء من عملية الصراع ضد قوى الاستعمار لذا اهتم به بشدة فنجد اهتمامه بتأسيس النقابات العمالية خير دليل على ذلك ودعمه لإضراب عمال الترام أيضا دليل على ذلك.
٢ أنه أدرك حقيقة الوحدة بين قوى الاستعمار وأن بريطانيا لا تختلف في الكثير عن فرنسا فعلى عكس سلفه كان متصلا بالنضال التحرري في المغرب العربي وأبعد من ذلك بل علاقة ذلك بقوى مجابهة الاستعمار في المستعمرات بشكل متطور عن رؤية الثورة العرابية (والتي نبتت من زمنها) وأبعد من ذلك بالمناضلين ضد النظام الرأسمالي في قلب المركز ذاته فكان اتصاله بالقوى الشيوعية في أوروبا (كان البلشفي تيودور روزشتين أحد محرري صحيفة الحزب الإنجليزية ناهيك عن مؤتمرات أوروبا ومشاركة الأحزاب الاشتراكية بها وحشد تأييدهم إلى جانب القضية الوطنية في مصر) ، حتى وإن كان قد جمع بين هذا الخط وخط سلفه كامل في استخدام التناقضات بين الدول الأوروبية الاستعمارية ، فلقد كان أكثر وعيا من سلفه كامل.
٣ إشراك الشعب في النضال من أجل الاستقلال، فلقد حشد فريد الشعب في كل معاركه فهو أيضا حشد الناس من جديد للمطالبة بالدستور واستخدم التظاهرات كسلاح فعال في مواجهة السلطتان الشرعية والفعلية بالإضافة لاستخدام أسلوب الإرهاب الثوري للتأكيد على جدية الحركة
إن فريد بما قدمه يكون هو صاحب التمهيد الحقيقي لكل ما حدث في علم ١٩١٩ ولكنه مطموس دوره في التمهيد لذلك ومطموسة اضافاته للحركة الوطنية ولا أحد يذكر سوى أنه كان خليفة كامل في زعامة الحركة الوطنية ومجرد تابع لمصطفى كامل .
ومن الممكن اعتبار أن فريد قد جعل من الحزب الوطني حزباً برجوازياً ثورياً، وفي نفس الوقت كان ممهداً للحركة الشيوعية المصرية التي بدأت بتأسيس الحزب الأول.
وفي النهاية أؤكد على ما قلته في بداية المقال بأن هذه السطور لا أدعي أنها بحث أو ورقة علمية أو تشمل الحقيقة كلها ولكنها محاولة لتسليط الضوء على ما وجدته بين السطور وفكرت في صياغته في مقالة اردت ان انشرها في ال١٥من نوفمبر ٢٠١٩ في مئوية رحيل محمد فريد ولكن لم يسعني الوقت أن انهيها بالشكل الذي ارتضيه لذلك تأخرت حتى وقت نشرها الحالي. وكل ما أرجوه هو استمرار النقاش والبحث حتى كشف الحقائق كاملة.
وأرى أن يكون الختام بالأبيات الأخيرة من قصيدة حافظ إبراهيم على قبر محمد فريد:
لهف نفسي هل ببرلين امرؤ فوق ذلك القبر صلى وسجد
هل بكت عين فروت تربه هل على أحجاره خط أحد
هاهنا قبر شهيد في هوى أمةٍ أيقظها ثم رقد.


المصادر والمراجع:
عبد الرحمن الرافعي : محمد فريد رمز الإخلاص والتضحية
عبدالرحمن الرافعي: مصطفى كامل باعث الحركة الوطنية.
د.رفعت السعيد: محمد فريد الموقف والمأساة.
د. رفعت السعيد: عصام الدين حفني ناصف.
د. رفعت السعيد: تاريخ الحركة الاشتراكية المصرية ١٩٠٠–١٩٢٠
د. يونان لبيب رزق: تاريخ مصر بين الفكر والسياسة (الأبحاث: ٣ ٤ ٥ ٦)
الجزء الأول من مذكرات محمد فريد تحقيق د. رؤوف عباس ( تاريخ مصر من ابتداء سنة ١٨٩١ مسيحية).
د. عبد المنعم الجميعي: الحزب الوطني بين زعامتين.
د. عبد العظيم رمضان: مذكرات السياسيين والزعماء في مصر ١٨٩١/ ١٩٨١.
صبري أبو المجد: محمد فريد ذكريات ومذكرات.
د. فاروق أبو زيد: أزمة الفكر القومي في الصحافة المصرية
محمود العسكري: صفحات من تاريخ الطبقة العاملة المصرية.
د.لطيفة محمد سالم: القوى الاجتماعية في الثورة العرابية