يعجبني ماركس أكثر من سواه


عبدالرزاق دحنون
2020 / 1 / 19 - 10:21     

في هذا الحوار الذي نشرته مجلة «الفيصل» الواسعة الانتشار وأجراه الكاتب اللبناني أحمد بزون في منزل كريم مروة في بيروت العاصمة اللبنانية، في غرفة جدرانها كتب، وسيّدها لا تفارقه البسمة، ولا يدعوك إلّا إلى التفاؤل، حاولت الأسئلة أن نضيء بعضًا من مواقفه وأفكاره ونقده واعترافاته.

المفكر اليساري كريم مروة يصرُّ بأنه "مفكر يساري" وهي أحب الصفات إليه. قمت باختصار الحوار بحيث أبقيت على الأفكار الأساسية التي طرحها كريم مروة عن تجربته في الحزب الشيوعي اللبناني.

الحوار

● البيان الذي أصدرته منذ عامين «من أجل تيار ديمقراطي لبناني». وهو يدل أيضًا على أنك تريد أن تؤسس. أتحدث هنا على المستوى الشخصي، على أن نناقش هذا البيان لاحقًا.

■ نظرت إلى الوضع في لبنان، وهو وضع بائس ويزداد بؤسًا، وأكثر ما يوحي بالبؤس عدم وجود قوى تفكر في كيفية تخليص لبنان من هذا الواقع، والمشكلة الأساسية هي أن الأجيال الشابة يائسة، في حين أنا ابن الثمانية والثمانين عندي ثقة في المستقبل. قلت لهم: اليأس يعني أنك لم تعد تفكر في الحياة، ولا تدري ما ينتظرك. أنا أعتقد أنه علينا أن نفكر في ما نعمل، بنفس طويل، ونؤسس لتيار ديمقراطي مدني، عابر للطوائف والقوى السياسية المتحكمة بالبلد والمانعة للتغيير فيه، آخذًا في الاعتبار تجربة الحراك الذي حصل منذ مدة، وهو مهم، لكنه في الوقت نفسه دخل في مشكلة صراع بين أطرافه، كلٌّ يدّعي أنه البطل، وهذا قريب من الحراك الذي حصل في العالم العربي، الذي أطلقتُ عليه صفة ثورة.

● كنت داخل الحزب الشيوعي اللبناني تقف إلى جانب أصحاب الأفكار الجريئة التي تحاول اختراق الجمود الفكري. بمعنى أنك كنت منفتحًا على الرأي الآخر. ألم تواجه مشكلات مع القيادات الأخرى في الحزب؟

■ أول مشكلة واجهتني في مطلع شبابي عندما عدت من العراق إلى لبنان عام 1949م، معتبرًا نفسي شيوعيًّا، أن الحزب الشيوعي اتخذ قرارًا بإعفاء فرج الله الحلو من مهماته الأساسية، وكان رئيسًا للحزب؛ لأنه اعترض على قرار الاتحاد السوفييتي بتأييد قرار تقسيم فلسطين. اتخذ القرار من جانب خالد بكداش و«البوطة» التي معه، وكنت أسمع بفرج الله الحلو، وأكثر من ذلك وجدت أن مجموعة من المثقفين من بينهم رئيف خوري وهاشم الأمين وإميلي فارس إبراهيم وموريس كامل وقدري عرقجي، طردوا من الحزب لأنهم وقفوا إلى جانب فرج الله الحلو، فانضممت إليهم ورفضت الدخول إلى الحزب الشيوعي اللبناني، ما دام لا يستطيع أن يتحمل كلمة يختلف بها مع السوفييت، وبقيت كذلك حتى عام 1952م عندما دخلت إلى الجامعة، وانتخبت نائبًا لرئيس أول رابطة طلابية في الجامعة اللبنانية، فقال لي نديم عبدالصمد: كيف انتخبت بصفتك شيوعيًّا وأنت لست في الحزب؟ وكان ردي أنني شيوعي رغمًا عن الجميع، ولا أحد يقرر عني كيف أنتمي إلى الشيوعية، وضغطَ عليَّ فذهبت إلى رئيف خوري الذي كان مغمورًا بالشتائم من الحزب في ذلك الحين، وأنا أقدر رئيف خوري كثيرًا، فهو من الذين علَّموني أمورًا كثيرة، وعندما رويت له ما حدث، وأخبرته رفضي الدخول إلى الحزب قال: لا. هذا خطأ. ادخل واشتغل وناضل ولا تستسلم لما يحصل. أكبرت فيه قوله، وما إن دخلت الحزب حتى سلموني مسؤولية الطلاب الشيوعيين، وأرسلوني إلى اتحاد الشباب الديمقراطي العالمي عام 1954م، وعدت، ثم أرسلوني إلى مجلس السلم العالمي، وعشت أربع سنوات في الخارج مع منظمات عالمية، وفي لقاءات مع مثقفين وقياديين من العالم، وقد علمتني هذه التجربة أمورًا استثنائية. عدت عام 1964م، وكان الحزب الشيوعي اللبناني قد انفصل عن الحزب الشيوعي السوري، فعيَّنوني عضو المكتب السياسي، قلت لرئيس الحزب نقولا شاوي: إذا لم يكن الحزب ديمقراطيًّا لا أستطيع أن أعمل فيه، فطلب مني أن أتريث قائلًا: لم يمضِ إلا شهران حتى الآن على انفصالنا عن الحزب الشيوعي السوري، ونحن مضطرون لأن نجري تعيينًا لا انتخابًا، وهذا مؤقت حتى نعقد مؤتمرنا وننتخب القيادة، وكنت وجورج حاوي كأننا أبناء نقولا شاوي، فوافقت، لكن بعد عام على دخولي المكتب السياسي لم يعجبني الوضع، فقلت لنقولا: الروتين مملّ، فإما أن تكون لدينا مهمات وإلا ما الفائدة من الحزب! قال: ما اقتراحاتك؟ طلبت منه أن نحدد سكريتاريا، تهيئ لاجتماع المكتب السياسي، ونوسع المكتب السياسي، ونحدد مهماته، على أن تراقب اللجنة المركزية تنفيذ هذه المهمات، وتكون هناك محاسبة دائمة، ونحدد علاقاتنا وخصوماتنا. فأبدى استعداده لتنفيذ طلبي.

وهذا ما حصل بالفعل في فبراير عام 1966م، بعد سنة بالتمام. وخلال هذا العام ذهب وفد الحزب إلى موسكو لحضور مؤتمر الحزب الشيوعي السوفييتي، وعندما رجع لم يكن نقولا بين أعضائه، فسألت عنه، وكنت عضو سكريتاريا مع جورج حاوي وثلاثة آخرين من الحرس القديم، فكانت الإجابة أنه مريض، أربكني الموضوع، إلى أن أتتني دعوة إلى جنيف، فذهبت واتصلت من هناك بجورج بطل الذي كان في براغ، وكان ممن حضروا مؤتمر موسكو، وسألته عن حقيقة وضع نقولا، فقال: هناك مؤامرة ضد نقولا، ثم عدت إلى بيروت غاضبًا، وبدأت المعارك مع حسن قريطم الذي كان الثاني في الحزب بعد نقولا، وقد عقد اجتماعًا للسكريتاريا لم أدعَ إليه أنا وجورج، فقلت لقريطم: لا تعنيني المواقع القيادية، فإما أن أكون عضوًا فاعلًا ومسؤولًا مثلك وإلا «باي باي». المهم بدأت المعركة، ثم اتخذوا قرارًا بمساندة السوفييت من دون معرفتي وجورج، وعندما أبديت احتجاجي قال قريطم: نحن نأخذ مواقفنا السياسية من بيانات وكالة «تاس» (السوفييتية)، قلت له: أنت تفعل ذلك، أما أنا فالبيان أقرؤه وأرمي الورقة في سلة المهملات، أنا لا أقبل أن يملي عليَّ أي طرف الموقف الذي يعود إلى بلدي، إن كان السوفييت أو غير السوفييت، وهنا بدأت المعركة ضدي، واتخذوا قرارًا بإرسالي إلى موسكو بحجة إعادة تأهيلي (يضحك). ومنذ ذلك الوقت بدأت المعركة للخلاص من هذا الوضع. حينذاك تدخل السوفييت بشكل وقح، عن طريق سفيرهم في بيروت، وقرر القياديان في الحزب الشيوعي السوفييتي سوسلوف وبونماريوف، أن جورج حاوي جاسوس، أما أنا عندما انتهيت من مدرسة التأهيل منعوني من العودة، فأشار لي مدير المدرسة الذي كان صديقًا لي أن أكتب رسالة إلى بريجينيف، ففعلت وشكوت له أمري، فأفرجوا لي عن جواز السفر والبطاقة، لكن بونماريوف قال لي بكل وقاحة ما معناه: إني شريك جورج في الجاسوسية. وعندما رجعت إلى بيروت استقبلني نقولا، وقال لي بالفم الملآن: انتصرنا على السوفييت، أي أن جيل الشباب فرض رأيه على السوفييت والحرس القديم المرتبط بهم، وصار الحزب لبنانيًّا، يقرر في الوضع اللبناني ما يراه مناسبًا، فلا يفرض عليه السوفييت أمرًا. والطريف أننا عندما لبَّينا دعوة الاحتفال بالذكرى الخمسين لانتصار السوفييت عام 1967م، وذهبنا، حصل ما قاله لي نقولا شاوي مسبقًا أن من شتمني من القيادة السوفييتية أتى واستقبلني بالأحضان واعتذر مني. انظر كم كانت الشيوعية عظيمة في تاريخها (يضحك ساخرًا).

● الشيوعي الفرنسي روجيه غارودي الذي تأثرت به في إحدى مراحلك اعتنق الإسلام بعد اختلافه مع حزبه، لكنك وأنت ابن رجل دين، بقيت بعيدًا من هذا الخيار. هل السبب برأيك هو حصانة الأفكار الماركسية؟

■ سفراتي إلى أوربا علمتني أمورًا كثيرة؛ أن أكون منفتحًا جدًّا، وأفكر وأشغل دماغي. هذه كانت حصانتي. أما بالنسبة إلى الماركسية، فأنا لست قارئًا مهمًّا لها، هناك أمور كثيرة في كتاب «رأس المال» لم أفهمها، هكذا كانت قدراتي، فأنا لم أنجز في الجامعة سوى سنة واحدة، علمًا أني دخلت الأدب العربي لا الفلسفة، لكن تجربتي واهتمامي بالحياة وقراءاتي المكثفة باللغتين العربية والفرنسية، وزياراتي المتكررة إلى أوربا وبلاد العالم، فأنا زرت 65 بلدًا، من القارات الخمس، أي أنني زرت كل الدول المهمة، والتقيت 30 رئيس دولة وعشرات القادة الحزبيين من كل الاتجاهات، ومئات المثقفين كل ذلك علمني كيف أكون مجددًا لأفكاري، ومفهومًا في خطابي. المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي السوفييتي عام 1956م أحدث الكثير من التغييرات المهمة وخضّة في الحركة الشيوعية، لكن خروتشوف، للأسف، لم يكن أمينًا لذلك، وكان روجيه غارودي من أوائل الذين استفادوا من هذه التجربة، ونشر مجموعة من الكتب الرائعة جدًّا، وكنت قارئًا نهمًا فتأثرت به، وبآخرين أيضًا، لكن آلمني أن تغير في السنوات الأخيرة من عمره، وكان خارج الحزب حينها، فلم أفهم كيف خرج من الحزب الشيوعي ودخل الإسلام. وذات عام من التسعينيات أتى إلى لبنان، فكتبت كلمة عنه في جريدة «النهار» بناءً على طلبهم، وكانت كلمتي مهذبة لكن مع لؤم، وحضرت جلسة نقاش معه بحضور مثقفين آخرين، لم تكن كافية لفهم سره، بعدها دعاه جورج حاوي إلى الغداء، ودعاني، كنا ثلاثتنا فقط، فطلبت منه: احكِ لي بالضبط ما الذي حصل حتى تحولت، إلا إذا كنت تمارس دورك الإسلامي هذا من موقعك كماركسي (بسخرية)، قال لي بشيء من الحدة: صحيح. فتوقف النقاش، وفهمت أنه كان منافقًا.

● منذ مراحل سابقة في حياتك وأنت تقدّم أفكارًا نقدية جريئة للماركسية كفكر ونظرية، معتبرًا أنها ليست نظرية فوق النقاش!

■ بصراحة، استنادًا إلى أفكار ماركس بعدم تحويل الأفكار إلى عقائد، مجرد القول: إني ماركسي، يكون خطأ، أنا آخذ من ماركس ومن سواه، نعم يعجبني ماركس أكثر من سواه، لديه أفكار عظيمة أشرت إلى بعضها وأفكار أخرى انتهت، بهذا المعنى لا أسمي نفسي ماركسيًّا، أعتبر نفسي مفكرًا أتمسك بقيم دخل إليها ماركس باسم الاشتراكية، وفي المناسبة أنا أرى أن أي كلام عن الاشتراكية والشيوعية لا معنى له، فقبل أن تنهار التجربة الشيوعية، تجرأت عام 1983م وفي مئوية وفاة ماركس، وكتبت في عدد خاص لمجلة «الطريق» عن المناسبة، فاعتبرت أن هناك أزمة في الماركسية في الدول العربية، حتى لا أعمم، ومن حقي أن أعتبر هذا الكلام ماركسيًّا أو غير ماركسي، وفي عام 1990م نشرت كتابًا عنوانه: «حوارات» ناقشني فيه أربعون مثقفًا حول مقالات لي نشرتها في «الأهرام»، في آخر الكتاب وضعت خلاصة رأيي، وكنت قد أمضيت سنة في الاتحاد السوفييتي بين عامي 1987 و1988م، ورأيت كارثة البيريسترويكا، وأوهام التجديد في حركة عمرها 70 سنة، فكنت من أوائل من تكلموا عن أزمة في الاشتراكية.

● يبدو أنك اقتديت ببليخانوف حين قال: التكنولوجيا والإنتليجنسيا هما حاملتا حركة التغيير لا الطبقة العاملة. بمن تأثرت أيضًا من منتقدي الماركسية؟

■ صحيح تأثرت به، وبغرامشي وجورج لوكاش، والطريف في الموضوع أن لينين نفسه عندما قام بثورة أكتوبر، وبالمناسبة لم تكن ثورةً كانت بمنزلة انقلاب عسكري، اكتشف خطأه بعد انتصار هذا الانقلاب، اكتشف أنه أراد تنفيذ الاشتراكية في بلد متخلف ومدمَّر بفعل الحرب، وعندما انتهت الحرب الأهلية أراد أن يقيم سياسة جديدة، فهو نشر نصًّا مهمًّا جدًّا عام 1923م، كان ألقاه في محاضرة رائعة جدًّا، أمام المسؤولين عن التثقيف في الحزب، يقول: نحن الآن في سلطة العمال والفلاحين، انتصرنا، لكن الآن ما الذي يبني روسيا المتخلفة المدمَّرة غير الرأسمال، والرأسمال يأتي بشروط الرأسماليين لا بشروطنا. أطلق على ذلك تسمية «رأسمال الدولة»، وقال: لا تبحثوا عند ماركس عن هذا الموضوع، فهو لم يتكلم عن ذلك. وتابع: نحن أمام خيار واحد، أن نأتي بالرأسمال من الداخل أو الخارج لبناء روسيا، إذا فعلنا ذلك تستمر السلطة وإلا فسوف نخسرها. وما علينا إلا أن نستقبل هذا الرأسمال بدم بارد.

اكتشف لينين خطأه ثم عاد إلى نظرية ماركس التي تقول: إن الاشتراكية لا تتم إلا من أعلى مرحلة من تطور الرأسمالية، وأعلى مرحلة من تطور القوى المنتجة، وأعلى مرحلة من تطور الطبقة العاملة. وفي إحدى محاضراتي عام 1990م قلت: هناك 15 خللًا بنيويًّا في الاشتراكية، بدأت من لينين ووصلت إلى ما كان يجري في البلدان الاشتراكية مما يناقض القيم الشيوعية بكل المعاني. ومن خلال تجربتي ومعرفتي بالدول الاشتراكية والاتحاد السوفييتي بشكل خاص، أرى أن الفساد كان سائدًا، وما أعرفه فظيع جدًّا.

● أنت مرة تستعين بالماركسية على الماركسيين، ومرة تنتقد الماركسية نفسها. ماذا بقي من الماركسية اليوم، برأيك؟

■ هذا سؤال صعب. كما قلت لك من قبل لا أميل إلى توصيف نفسي منسوبًا إلى شخص أو عقيدة. والماركسية ليست عقيدة، إنما أفكار، قد يكون من الخطأ أن نسأل: ماذا بقي من الماركسية؟ يمكن أن نسأل: ما الذي بقي من أفكار ماركس؟ وما الذي انتهى مع الزمن؟ وما بقي من أفكاره هو ما ذكرته في حديثي، الإنسان هو القيمة الأساسية في الوجود، وكل ما له علاقة بالحياة يدور حول مصلحة الإنسان، والقيم الأساسية هي التي ترتبط بهذا الأمر، والأفكار ليست عقائد، والفكر تاريخي.

● هناك من يحمّل اليسار المسؤولية الأساسية لإخفاق أفكار ماركس، وهناك من يحمّل الماركسية نفسها أزمة اليسار. ما رأيك؟

■ رأيي أن الاتجاهين خطأ. مجرد إصرار البعض على اعتبار كل ما قاله ماركس مقدسًا، يعني أن لا علاقة لهم بالفكر ولا بحياتنا ومستقبلنا، أما أنا فسميت نفسي يساريًّا، لا شيوعيًّا ولا اشتراكيًّا، مع أن كلمة يساري لم يكن لها معنى إلا أيام الثورة الفرنسية، بمعنى ما هو أقرب إلى الواقع والتغيير، فكلمة يساري لا تعني عقيدة محددة، فيها ميل واتجاه نحو التغيير استنادًا إلى بعض القيم التي أخذناها من ماركس، ثم هل هناك قبضاي يصف نفسه بالاشتراكي أو الشيوعي يمكن أن يشرح لي صفته! أكثر من ذلك، في أحد حواراتي قلت: إذا طُرح على شخص رأيه بكلمة شيوعي بعد كل الذي حصل، ماذا يقول؟ إذا كان لديه بعض العقل يمكن أن يرد: ألا تخجل أن تطرح عليّ هذا السؤال، عمن تسأل! عن أولئك الذين عملوا الكوارث باسم الشيوعية.

● إذن، أنت ضد تطبيق الاشتراكية أو الشيوعية في العصر الحالي، وأنت أيضًا ضد الحقد على الرأسمالية بشكل عام، وتبحث عن التكامل معها. هل يعني ذلك أنك متوافق مع النظرية الثالثة التي توفق بين الرأسمالية والاشتراكية وطبقتها بعض الدول الإسكندنافية وسواها؟

■ أنا لست ثالثًا، أنا أول! بمعنى أنني أفكر كيف أغيّر في بلادي، وهذا التغيير لا يستند إلى عقيدة، إنما إلى قراءة الواقع واستخلاص مهمات منه، وأشرت في إحدى إجاباتي إلى أن أمامنا مهمتين كبيرتين، الأولى كيف نعمل نظامًا ديمقراطيًّا تعدديًّا، والثاني كيف نعمل دولة مدنية حديثة فيها فصل بين الدين والدولة، والدولة مهمتها الاهتمام بكل مرافق الحياة. واستنادًا إلى هاتين المهمتين أطرح السؤال: كيف أعمل تغييرًا؟ وأجيب: عناصر التغيير ثلاثة: حرية، وتقدم بكل المعاني، وعدالة اجتماعية. وتحقيق هذه الأقانيم الثلاثة يتطلب الأمور التالية: القوى التي تقوم بعملية التقدم، هذه القوى تكون برعاية الدولة والنظام الديمقراطي التعددي والرأسمالي، هذا ما قلته لرفاقي الشيوعيين منذ زمن بعيد، فالشتيمة للرأسمالية كلام فارغ، وكذلك الكلام على العدو الطبقي. من دون رأسمال لا يحصل التغيير، حتى تكوّنه عليك أن تكون كتلة تاريخية، أمامها مهمات التغيير، وتفرض على الرأسمال القيام بواجبه في ظل الصراع الديمقراطي أن يقوم بواجبه فيحقق التقدم، من جهة، وأفرض عليه باسم المجتمع والدولة أن يوقف همجيته في البحث عن الربح بأي ثمن، من جهة أخرى. هكذا أفكر بحرية وواقعية، ومن دون أي مرجعيات.

● أنت هنا تنسف نظرية أساسية للماركسية وهي الحتمية التاريخية لانتصار الاشتراكية، وهذا ما قلته أيضًا في كتابك «عشية أفول الإمبراطورية»: إن مقولة انتقال البشرية من الرأسمالية إلى الاشتراكية لم تكن واقعية.

■ فكرة الحتمية التاريخية رفضتُها منذ وقت مبكر؛ لأن معناها أنني أذهب في اتجاه محدد إلى الهدف، من قال ذلك؟ ما الوقائع والمتغيرات؟ وهل العالم ثابت؟ العالم متغير دائمًا لذلك لا تصح الحتمية التاريخية. بعض المنظرين يحررون ماركس من هذه المقولة. هذا لا يهمني، فأنا بنيت موقفي ضدها، ورفضت أن أقول: أنا سلفًا ذاهب إلى الاشتراكية، أي تجربة تلك التي كانت ستؤدي إلى الاشتراكية؟ التجربة التي عددت 15 عنصرًا من الخلل البنيوي فيها. أي اشتراكية تلك التي حصلت في الاتحاد السوفييتي! أنا أقمت في كل البلدان الاشتراكية، ورأيت الوقائع مثلما هي تمامًا. كلها كانت كذبة كبيرة. لكن هذا في المناسبة لا يلغي أمرًا مهمًّا جدًّا، وهو أن الذين آمنوا بالاشتراكية كانوا من كبار العلماء وكبار الأدباء والفنانين والمثقفين، اشتغلوا استنادًا إلى هذا الارتباط الفكري، وإذا أردت، الطوباوي. هؤلاء شكلوا سمة عصر بكامله. والمشكلة الأساسية أيضًا أنهم طرحوا فكرة كيف نعمل لصالح الإنسان، وهؤلاء عملوا نظريات في الاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية لكن الدول الرأسمالية طبقتها ولم تطبقها بلادهم، مثل: النقابات، والرعاية الصحية والتعليم والسكن، نعم أخذت بعض الدول الرأسمالية أفكارًا اشتراكية وطبقتها في بلادها.

● تلك هي النظرية الثالثة.

■ أنا لا أسميها هكذا. أندريه جيد دُعي في الستينيات إلى الاتحاد السوفييتي ليرى الإنجازات، وعندما وصل أطلعوه على برنامج الزيارة، فقال لهم: أنا أحدد أين أذهب، وعندما جال حيث يريد اكتشف الفضائح، وكان حينها صديقًا للشيوعيين، وعندما عاد إلى فرنسا نشر الفضائح.

● تُشدِّد في أدبياتك على مبدأ أساسي يقوم على اعتبار أن الإنسان هو القيمة الأساسية في الوجود، وتركز على تعبير الإنسان الفرد الحرّ والإنسان الجماعة المُشَكَّلة من أفراد أحرار، كأنك تغمز هنا من قناة الاشتراكية أيضًا، التي تشدد على ذوبان الفرد في الجماعة؟

■ لا أبدًا. ذوبان الفرد في الجماعة نقيض لفكر ماركس، فهو يعتبر أن الإنسان هو القيمة الأساسية في الوجود، والإنسان الفرد يبقى فردًا، والجماعة تتشكل من أفراد أحرار من دون أن يذوبوا فيها، وما ساد في الدول الاشتراكية من مثل هذه الأفكار يناقض الفكر الماركسي، وأنا في هذا الموضوع مع ماركس.