في ذكرى ميلاد عبد الناصر


رضي السماك
2020 / 1 / 15 - 13:14     

في مثل هذا اليوم الخامس عشر من يناير / كانون الثاني عام 1918 وُلد الرئيس المصري والزعيم العربي جمال عبد الناصر ، ويحتفل بذكرى ميلاده الثانية بعد المئة تيار وقوى الناصرية وقوى قومية ووطنية ويسارية عديدة في عالمنا العربي الاحتلال الإنجليزي ، وقد برز إسمه بعد قيام ثورة يوليو / تموز عام 1952 التي أذنت بتدشين عصر جديد على الصعيدين المصري والعربي ، ألا هو عصر التحرر الوطني من الاستعمار الكولونيالي ، بدءاً من تطهير أرض مصر من وجوده ممثلاً في الاحتلال الإنجليزي ، وليس انتهاءً بإزالة نفوذه سياسياً وعسكرياً أيضاً في بقية أرجاء العالم العربي الواقعة تحت احتلاله ، ومثله كذلك الاحتلال الفرنسي لبعض بلدان المغرب العربي ، وعلى الأخص الجزائر . بيد أنه ما كان كل ذلك ليتحقق لولا ما يتمتع به عبد الناصر من قيادة سياسية كارزمية فذة ، كرئيس لمصر وكزعيم مؤثر في وجدان وعقول قطاع كبير من الشعوب العربية بلا منازع ، وما كان ذلك ليتحقق أيضاً لولا دعم الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية له ولنظامه سياسياً وعسكرياً واقتصادياً ، بدءاً من صفقة الاسلحة التشيكية عام 1955 لكسر احتكار الغرب للسلاح بشروطه ، ومروراً بالإنذار السوفييتي الشهير خلال العدوان الثلاثي عام 1956 الذي أفشل العدوان ، وليس انتهاءً بإقدام الاتحاد السوفييتي على تسليح الجيش المصري بالأسلحة الثقيلة المتطورة والتي مكّنت هذا الجيش لاحقاً من عبوره قناة السويس خلال حرب اكتوبر 1973 وتحقيقه الانتصار المحدود على إسرائيل . أضف إلى ذلك ما كان يتمتع عبد الناصر من ثقة شعبية وعربية مطلقتين .
وبالتالي ليس ثمة سبيل للإنكار حينما نقول : إن هذا الحضور لعبد الناصر من بقايا لشعبيته المصرية والعربية لما يتبدد بعد ، حيث مازالت أعداداً غير قليلة من المصريين والعرب تحن إلى عصر زعامته كلما عظِمت كوارث المصريين والعرب السياسية المتلاحقة ويهفون إلى عصر زعامته ومستذكرين إياها ، ذلك بأن عبد الناصر كان في عصره نسيج وحده في الزعامة الوطنية والقومية المتفردة طوال عقدين تقريباً من فترة حكمه وثورة يوليو بقيادته ( 1952 - 1970 ) وهي الثورة التي سرعان ما أفل نجمها تماماً بعد موته وظلت زعامته القومية شاغرة ، فكما عجز كل رؤساء الأنظمة القومية في عصره مضاهاتها فإنهم أو من خلفهم عجزوا عن شغلها بعدئذ حتى يومنا هذا .
ويمكننا في هذا الصدد أن نكتفي بموقفين تدليلاً على زعامته الكارزمية وهما موقفان جريا خلال ربع قرن انقضى من وقتنا الراهن :
الأول : وقد وقع في عام 1996 إبان عرض فيلم " ناصر 56 " في القاهرة ، من اخراج المخرج التقدمي الراحل محمد فاضل ، وسيناريو الكاتب المرحوم محفوظ عبد الرحمن وبطولة المرحوم أحمد زكي وفردوس عبد الحميد ، وبطبيعة الحال فإن الفيلم كما هو معروف يتناول الفيلم محطة من أهم المحطات السياسية في حكم عبد الناصر وتاريخ بلاده والعالم العربي ، وهي تحديداً خلال تحديه بريطانيا وفرنسا بتأميم قناة السويس ، وكذلك تحديه أيضاً أمريكا برفض شروطها وابتزازاتها لبناء السد العالي والذي قام لاحقاً الاتحاد السوفييتي ببنائه بشروط ميسرة . وقد نجح بفضل وقوف شعبه والشعوب العربية جمعاء من خلفه في كلا التحديين ، وخرج من معركة التحديين زعيماً عربياً متوجاً بلا منازع .
ورغم أن مخرج الفيلم والنقّاد لم يتوقعوا ذلك النجاح الساحق الذي حققه ، إلا أن المخرج والطاقم الفني العامل معه في انتاجه تفاجأوا جميعاً بما حققه من نجاح جماهيري ساحق ، وبأنه ليس واحداً من أكثر الأفلام حصاداً في تذاكر الشباك لفترة طويلة مقارنة بأفلام سنوات التسعينيات التي سبقته فحسب ؛ بل والأهم من كل ذلك كان لافتاً لديهم ومعظم المراقبين الفنيين أن الفئة الأكثر إقبالاً عليه هي فئة الشباب ، وهو ما يدلل على أن هذه الفئة قد قرأت سلفاً قبل مشاهدة الفيلم عما كان يحظى به عبد الناصر من مكانتين شعبية وعربية في عصره علاوة على تأثيره على الساحتين الإقليمية والدولية ، فلا غرو إذا ما أشتدت بها اللهفة حينها بالإقبال المنقطع النظير على مشاهدته .
الثاني : وقد جرى إبان ثورة يناير / كانون الثاني 2011 في ميدان التحرير بالقاهرة وعدد من ميادين العواصم العربية التي جرت خلالها ثورات الربيع العربي آنذاك ، حيث لوحظ رفع بعض مجاميع المحتجين صور عبد الناصر وشعاراته رغم أن ثورة يناير كانت تنادي كما نعلم بالإصلاح الجذري والديمقراطية .
وإذ تحتفل اليوم القوى الناصرية والوطنية ، وحتى اليسارية التي تصادمت مع عبد الناصر ، بالذكرى الثانية بعد المئة لميلاده ، فإنها مطالبة بوضع تجربته ؟بما لها وبما عليها ، فوق ميزان التقييم الموضوعي المجرّد بعيداً عن العواطف السياسية وتقديس التجربة أو الرجل أو جعلهما في مرتبة فوق الأخطاء . فلن تتطور مسيرة الاحزاب الوطنية جمعاء وهي ما فتئت تمر بظروف انحسارها بدون الاعتراف الشجاع بأخطائها وتصحيح مساراتها النضالية . وإذا كانت إنجازاته الوطنية وعلى صعيد التحرر الوطني العربي فضلاً عن التحولات الاجتماعية داخل بلاده أحسبها جميعها معروفة وليس هنا مجال تعدادها ، بل ولا ينكرها سوى جاحد ، فإن عدداً من أبرز أخطائه القاتلة لطالما جرى التغاضي عنها أو تبريرها حتى يومنا هذا من قِبل القوى القومية وعلى الأخص الناصرية منها .
ولنتذكر من أبرز تلك الأخطاء القاتلة -على سبيل المثال لا الحصر - مايلي :
1- اتباعه نظام حكم الفرد وتغييب التعددية والديمقراطية عنه ، ومن ذلك ضرب أكبر حليف له ألا هو اليسار ، ليس بحق رفاقه الضباط اليساريين في مجلس قيادة الثورة فحسب ، بل خارج هذا المجلس على الساحة السياسية المصرية ، لاسيما إثر موقف اليسار في مصر وسوريا والعراق المناويء للوحدة مع سوريا عام 1958 نظراً للإسلوب اللاديمقراطي المرتجل والمتسرع جداً الذي تمت به عملية الدمج بين القطرين . وسرعان ماثبت صحة مآخذ اليسار على الوحدة وفشلت بعد أقل من أربع سنوات ، وكان في سياق أخطاء العملية الإندماجية فرضه حل الاحزاب في سوريا كشرط لإتمام الوحدة اسوة بما فعله داخل بلاده ، ونعلم جيداً أن الرشاشات التي قتل بها الحرس القومي آلاف الشيوعيين وسائر القوى الديمقراطية في انقلاب فبراير / شباط الأسود داخل العراق على قيادة 14تموز الفتية الوطنية كان يطلق عليها " رشاشات بور سعيد " !
2- وثوقه المطلق الأعمى بصديق عمره المشير عبد الحكيم عامر ، وهو أكبر رمز للفساد بالمعنيين الاخلاقي والعسكري والمالي داخل الجيش ، بل والسبب الاول لفشل الجيش المصري عام 1956 لمواجهة دول العدوان الثلاثي ، وهذا باعتراف أكبر المقربين والمستشارين له بل ومستودع أسراره ألا هو الكاتب الصحفي الراحل محمد حسنين هيكل ، والذي اعترف أيضاً بأنه - المشير - كما كان وراء الاخفاق العسكري في حرب 1956 ، فقد كان هو نفسه وراء فشل الوحدة عام 1961 ، وهو نفسه أيضاً وراء الطامة الكبرى لمصر وكل الدول العربية والمتمثلة في هزيمة يونيو/ حزيران 1967 التي قصمت ظهره وأدت إلى رحيله المبكر المفاجيء عام 1970 ، وإن كانت الأمانة تقتضي القول أن عبد الناصر يتحمل المسؤولية الاولى لوقوعها كما أقر بذلك في خطاب تنحيه غداة الهزيمة وبعض الخطابات اللاحقة بعد عدوله عن التنحي .
3- وثوقه في أحد أبرز المتزلفين له من ضباط مجلس قيادة الثورة والمعروف بميوله اليمينية وتعيينه قبل وفاته نائباً له ألا هو أنور السادات الأمر الذي أدى لاحقاً حسب آليات النظام الناصري في تداول الرئاسة لخلافته وانقلابه السريع على مبادئه وأفكاره ، ومعاداة أيضاً اليسار الناصري في تنظيم الاتحاد الاشتراكي الحاكم ، لا بل كان يكنُ عداءاً لكل اليسار الماركسي المصري والسوفييت وحلفائهم دول المنظومة الاشتراكية ، فضلاً عن أجهازه على كل المنجزات التي حققتها ثورة يوليو من تحولات اجتماعية ذات منحى اشتراكي تلبية لمصالح قوى الاقطاع والرأسمالية الطفيلية ، وكان ذلك تحت مسمى شعاره العتيد " الإنفتاح الاقتصادي " . في حين كان الرجل المناسب لخلافة عبد الناصر نائبه الثاني علي صبري الرجل القوي في الاتحاد الاشتراكي والمعروف بميوله اليسارية .
4- استدراجه لحرب 1967 غير المتكافئة مع العدو الاسرائيلي تساوقاً مع موقف الجناح اليساري لنظام البعث السوري ( والذي ترتبطه مع مصر معاهدة دفاع مشترك ) وهو النظام المعروف حينئذ بتطرف شعاراته السياسية ومن ثم تصديق عبد الناصر أكذوبة الحشود على الحدود مع إسرائيل ، ومن ثم طلبه سحب قوات الطواريء على حدود بلاده مع فلسطين المحتلة فضلاً عن اجرائه المتهور بإغلاق خليج العقبة في وجه الملاحة الاسرائيلية والتي اعتبرتها إسرائيل والمجتمع الدولي اجراءات حرب على إسرائيل وأعطاها ذلك مبرر العدوان على ثلاث دول عربية ، مصر وسوريا والاردن ، بعدئذ في صبيحةالخامس من يونيو / حزيران 1967 بذريعة الدفاع عن النفس والحاق الهزيمة بجيوشها الثلاثة في بحر ستة أيام ولتحتل مساحات واسعة من أراضي كل منها .