العراق ساحة الحرب بين أمريكا وإيران


يعقوب بن افرات
2020 / 1 / 11 - 15:40     

قتلت أمريكا قاسم سليماني وردت ايران بقصف صاروخي على قواعد أمريكية على الأراضي العراقية الامر الذي يدل بان أيام التعاون بينهما قد ولت وبدأت مرحلة المنازلة العسكرية. وتعود العلاقات الامريكية الإيرانية الى احتلال العراق والاطاحة بصدام حسين الخصم اللدود لإيران وإسرائيل. فخلال الغزو الأمريكي للعراق وبهدف اسقاط نظام البعث استخدمت أمريكا الطائفة الشيعية كأداة لتفكيك البلد وباسم تطهير البلد من حزب البعث وكوادره تم تدمير المجتمع السني. قائد فيلق القدس الايراني قاسم سليماني كان موجودا في الساحة العراقية منذ البداية وباسم محاربة القاعدة ثم داعش شارك الامريكان بالقضاء على المقاومة العراقية – السنية بالأساس - للاحتلال الامريكي. ما شهده العراق خلال السنوات الستة عشر منذ الغزو الأمريكي عام 2003 كان استيلاء الأحزاب التابعة لإيران على الحكم بموجب دستور طائفي تم ايداعه من قبل المندوب السامي الأمريكي والذي فضل الشيعة على حساب العراقيين السنة. ان الشيطان الأمريكي هو من دمر العراق ومن ثمة نقل السلطة بالوكالة الى الإيرانيين.
غير ان إيران لم تكتف بهذه الهدية المجانية التي دفع ثمنها مئات الاف العراقيين بأرواحهم بل فتحت شهيتها للمزيد من الاطماع وذلك لضمان استمرارية نظامها من خلال تطوير البرنامج النووي حتى تتحول الى قوة إقليمية عظمى. وكانت سنة 2008 سنة مفصلية في تاريخ البشرية، اذ أدت الازمة الاقتصادية العالمية الى سقوط البورصة الامريكية والحاق الخسائر الجسيمة بالاحتلال الأمريكي في العراق الامر الذي تسبب بهزيمة الجمهوريين في البيت الأبيض ووصول الرئيس الأسود الأول في تاريخ البلاد الى سدة الحكم. و وعد أوباما في حملته الانتخابية بانه سيسحب القوات الامريكية من العراق وبانه سيحدث ثورة اجتماعية ضد رأس المال الكبير. وكان على أوباما الذي أراد الانسحاب من العراق ان يجد من سيعبئ الفراغ السلطوي والخيار الوحيد الذي كان في متناول اليد هو إيران وحزب الدعوة برئاسة نوري المالكي. وقد تكللت هذه العلاقة الودية بين النظام الإيراني وبين البيت الأبيض بإدارة أوباما بتوقيع الاتفاق النووي في صيف 2015 الذي اعتبر أكبر انجاز للديبلوماسية الامريكية. وقد احتفل النظام الإيراني بهذا الانجاز كونه تحرر من العقوبات الاقتصادية، كسر الحصار الدولي عليه واستطاع ان يعزل إسرائيل التي كانت من اشد المعارضين للاتفاق النووي ولسياسة أوباما.
الا ان سياسة أوباما "الحكيمة" التي سعت الى سحب القوات الأميركية من الشرق الأوسط بكل ثمن قد خلقت واقعا جيوسياسيا جديدا، ففي السياسة الخارجية لم تكن إسرائيل بمفردها من تضررت من السياسة الامريكية الجديدة بل كل دول الخليج وعلى رأسهم السعودية. اما بالنسبة لسياسة أوباما الداخلية، فقد ارتأى الاستمرار بالتحالف مع الشركات العملاقة وعدم معالجة مشاكل الطبقة العاملة الامريكية البيضاء، هذه السياسة التي مهدت الطريق لفوز دونالد ترامب بالرئاسة. ان أوباما لم يترك فقط المواطن الأمريكي في حالة من الفقر والبطالة بسبب سياسة تفضيل وول ستريت انما أيضا وبالإضافة الى ذلك ومن خلال سياسته تجاه إيران ترك الشعوب العربية فريسة لمطامع إيران التوسعية. فاذا كان الاتفاق النووي انجازًا دبلوماسيًا لأمريكا وللغرب فقد كانت نتائجه على الأرض كارثية على الشعب السوري الذي تركه الامريكان ليكون فريسة سهلة ليفتك به النظام السوري، إيران والروس. فالاتفاق النووي لم يأت من فراغ بل تم توقيعه في الوقت الذي احتدمت الحرب الاهلية في سورية بعد ان فقد بشار الأسد السيطرة على معظم أقاليم البلاد. ان الاتفاق مع إيران لم يكن مجانا بل ودفع الشعب السوري واليمني وحتى العراقي ثمن غال جدا بسبب البند الغير مكتوب فيه والذي سمح بموجبه للنظام الإيراني ان يتصرف بشعوب المنطقة بالشكل الذي يخدم اطماعه.
ولكن ومع ان أوروبا دعمت سياسة أوباما تجاه إيران والتزمت بالاتفاق النووي وبكل حماس الا ان ما قامت بالمقابل إيران بسوريا وفي العراق بحق المجتمع السني قد خلق أكبر ازمة للاجئين منذ الحرب العالمية الثانية والتي هجر خلالها الملايين نحو أوروبا مما أثر على صعود نزاعات العنصرية والتخوف من تأثير اللاجئين على المجتمعات الأوروبية الامر الذي أدى الى تقلبات سياسية كبيرة مع صعود اليمين الفاشي. فما قامت به إيران بقيادة الجنرال سليماني من مجازر وتهجير سهل الطريق لصعود اليمين في بريطانيا على أساس البريكسيت، اليمين الإيطالي، والمجري، النمساوي، البولندي وغيره والمشترك لجميعهم انهم يريدون تفكيك الاتحاد الأوروبي ويعتبرون أنفسهم حلفاء لكل من ترامب ونتانياهو. نعم كل من وقع على الاتفاق النووي مع إيران ودون ان يدري كان قد حفر قبره حيث أدت المجازر في الشرق الأوسط الى هجرة الملايين مما أدى الى تراجع تأثير القوى الليبرالية الأوروبية والحزب الديمقراطي الأمريكي. ان الاستهتار بطموحات الشعوب العربية الثائرة على الأنظمة المستبدة، والصمت تجاه اقتراف أفظع الجرائم ضد الإنسانية بحق هذه الشعوب، من مصر، الى سورية، اليمن والعراق قد كلف هؤلاء الليبراليين الحكم وعزز الميول نحو تفكيك الاتحاد الأوروبي.
فترامب الذي اعتلى سدة الحكم نتيجة محدودية أفق أوباما، وعد بتمزيق الاتفاق النووي مع إيران وأول زيارة قام بها للخارج كانت الى السعودية في الوقت الذي وفى بالتزاماته تجاه نتانياهو، فنقل السفارة الامريكية الى القدس، وأخيرا اعترف بشرعية الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية. ومن هذه اللحظة فالطريق نحو المواجهة مع النظام الإيراني كان مفتوحا، فقد استخدم ترامب سلاحه المفضل وهو العقوبات الاقتصادية بدل المواجهة العسكرية وفرض على النظام الإيراني اقصى العقوبات الاقتصادية التي قد تهدد بوجوده. وكان الرد الإيراني افتعال اعتداءات عسكرية على الملاحة في الخليج العربي، اسقاط طيارة مسيّرة أمريكية في الخليج وإطلاق الصواريخ الدقيقة نحو المنشآت النفطية السعودية في شهر أيلول الماضي. خلال الشهور الأخيرة وعلى ضوء الصمت الامريكي اعتقدت إيران بانها من الممكن ان تركن على عدم رغبة ترامب في توريط الجيش الأمريكي في الحرب. وكان الانسحاب الأمريكي من المناطق الكردية في الشمال السوري والاتفاق مع اردوغان على بسط سيطرته على الشريط الحدودي بين تركيا وسوريا مثابة اعلان نوايا الذي شجع بدوره النظام الإيراني على تكثيف الجهود العسكري وأدى به الى رفض دعوة ترامب للقاء بين الرئيسين الإيراني والامريكي.
الا انه وتزامنا مع اعلان ترامب انسحابه من الشرق الأوسط لرفضه بان تكون أمريكا شرطي المنطقة وتتدخل في صراعات قبلية قديمة مثل الصراع الكردي التركي، الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، الصراع السني الشيعي، وعندما احتفل النظام الإيراني وحلفائه بالنصر، اندلعت الموجة الثانية من الربيع العربي في الدول التي تقع تحت نفوذ إيران المباشر، العراق ولبنان، حيث اتسم الحراك الثوري في كلا البلدين بمشاعر عدائية قوية لإيران وطالبت بإنهاء النفوذ الإيراني وسيطرة الحرس الثوري وقاسم سليماني على مصير الشعبين. ولم يتوانى النظام الإيراني عن قمع المظاهرات الشعبية في المناطق الشيعية في النجف، كربلاء، البصرة، الناصرية وصولا الى ميدان التحرير في بغداد وقتل المئات وجرح الالاف. وعندما انتقلت المظاهرات الى قلب إيران ومعاقل النظام نفسه قمعها نظام الملالي الإيراني بشراسة وقتل نحو 1500 مواطن إيراني تظاهروا بالطرق السلمية بعد ان سئموا النظام الفاسد والديكتاتوري والقمعي واستيلاء الحرس الثوري على الاقتصاد وطلبوا بتغيير النظام الذي يسمح لشريحة ضيقة من القيادات الدينية والعسكرية ان تستفيد على حساب دمار الاقتصاد وحياة الاغلبية الساحقة من أبناء الشعب الايراني.
فكان على النظام الإيراني ان يقمع الشعب العراقي من خلال الميليشيات التابعة له والتي تعمل تحت قيادة قاسم سليماني وان يحاول تغيير الاجندة من خلال التصعيد ضد الامريكان على الأرض العراقية. النتيجة واضحة، ترامب قام بعملية غير محسوبة وهو يعتمد على عقلانية النظام الإيراني وخشيته من المواجهة المفتوحة. لكن العقلانية ليس من صفات كل من ترامب وخامنئي، ومن هنا كل الاحتمالات مفتوحة. تحلم إيران بان تنسحب أمريكا نهائيا من العراق وما تريده أمريكا هو ان تتراجع إيران من مطامعها الإقليمية لضمان امن حلفائها في الخليج وإسرائيل. غير ان الصراع بين الطرفين المتنازعين لا يمكن ان يأتي بنتيجة إيجابية للشعوب بغض النظر عمن الغالب او المغلوب.
ان المفتاح لمستقبل العراق ليس بيد ترامب او خامنئي بل في يد الشعب العراقي وفي يد الشعب الإيراني الذي كشف طبيعة النظام القمعي والفاسد وينادي بصوت واضح: لا لترامب وجنونه القومي ولا للمرشد الأعلى وجنونه الطائفي الديني. الشعوب تريد نظام ديمقراطي، عصري، حر، منصف مع الشعب وخال من الفساد والتعصب الديني. ان المظاهرات المستمرة في كل من العراق ولبنان رغم محاولات النظام الإيراني إعادة احياء "الثورة الإسلامية" استغلالا لقتل قاسم سليماني لحشد الجماهير لجانبها، تدل على ان مرحلة جديدة قد بدأت وان حفلة الدم الإيرانية وشركائها في المنطقة على وشك الانتهاء.