فكرة عن المادية التاريخية !!


رمضان عيسى
2020 / 1 / 9 - 00:11     

الصيرورة التي سار بها التطور الاجتماعي :
إن الواقعية في التفكير لا تنظر الى المظاهر في الطبيعة أو المجتمعات البشرية ، أو الأفكار والعلوم – لا تنظر لها – بطريقة انتقائية، عشوائية، انعزالية عن غيرها من المظاهر وارتباطاتها ، بل تنظر لها بطريقة منهجية في جمع المعلومة وتنطلق من اعتبار أن لكل شيء تاريخ، وتسلسل من ما قبل ، الى ما بعد ، من القديم الى الجديد الذي يتميز بسمات جديدة جعلته يظهر بهذا الشكل ...
فهناك تاريخ للغات - كيف نشأت اللغة وتطورت من التمايز في الأصوات، حيث أن تطور الحنجرة جعل في مقدورها النطق الواضح للكلمات المعبره عن الواقع ومظاهره وارتباطاته .. وهناك تاريخ للأديان ، كيف نشأت ، وأثر الجهل والخوف من المجهول في تبلورها بهذا الشكل العباداتي ، وتاريخ للكائنات الحية ، كيف ظهرت وتطورت ، وأثر الصراع من أجل البقاء في تشكل الجسم الحي واكتساب القدرة على التكيف مع ظروف البيئة. وتاريخ للانسان ، كيف كان - شبيه بالانسان، وكيف كانت حياته، وكيف دخل مرحلة الأنسنة، ومن ثم كيف تكونت المجتمعات البشرية وتطورت وارتقت الى بناء العمران البشري ، وتطوير الآلات لانتاج الغذاء ؟ -- وهكذا ، فلكل شيء تاريخ ، يبدأ من القديم الى الحاضر بطريقة منهجية تسلسلية تنطلق من ان لكل شيء سبب معقول --- وهكذا !!
= وفي نظرة الي تطور المجتمعات وارتقائها لا بد من التعرف على المقومات المادية والاجتماعية التي أدت الى التطور الاجتماعي وتسلسله بهذا الشكل وهو يبدأ ب : المشاع، ثم العبودية، فالاقطاع، فالرأسمالية الى أن يصل الى مرحلة الاشتراكية التي هي الطور الأول من الشيوعية ..الذي تقول به المادية التاريخية ؟
= نحن ننطلق من تطور الأداة ، الآلة التي يستخدمها الناس في انتاج الخيرات المادية اللازمة للحياة ، وأثر تطور أدوات الانتاج على مكونات المجتمع ..
فكل درجة من تطور الأدوات رافقه شكل جديد من التملك ، وهذا رافقه شكل اجتماعي جديد من التمايز الطبقي المترابط مع التركيز في التملك ، وهذا أفرز طبقة مالكة ، وطبقة غير مالكة ، وهذا التمايز الطبقي يعني وجود استحواذ وسيطرة من قبل الطبقات المالكة على خيرات البلاد ..
ان التمايز الطبقي يولد مشاعر متضادة بين المالكين والغير مالكين ، وهو ما يسمى بالصراع الطبقي ... وهذا الصراع يتخذ أشكالا عدة ...
ففي مرحلة المشاع لم يكن هناك صراعاً طبقياً ، لأنه لا توجد ملكية خاصة تؤدي الى خلق مقدمات للصراع الاجتماعي ..فكانت الغابة للجميع ، والفريسة من الصيد جماعية ، ولا يستحوذ عليها شخص بمفرده ، وحتى الزواج كان جماعيا ، فلا تخصيص لزوجة ..
= وبعد اكتشاف الحديد والنار ، تطورت الأدوات فامتلك الناس أدوات جديدة ، جعلت هناك تمايز بين الناس في التملك ، فاشتعلت الغزوات والحروب، وكثر الأسرى والغنائم ، وتم تحويل الأسرى الى عبيد ، فأصبحت ملكية الأسرى والماشية هي التي تميز الناس عن بعضهم البعض ..مما أدى الى فرز المجتمع الى طبقتين متمايزتين متضادتين وهما : الأسياد والعبيد ، وهذه التقسيمة الاجتماعية كانت سائدة في التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية " العبودية " ، وهذه المرحلة تعتبر لها صفات خاصة في الأدوات ونوعية التملك ونوعية الانتاج - الرعي - ، والغزوات للحصول على المراعي والماشية والعبيد ..
ان التمايز الطبقي أدى الى تبلور عدة أشكال للصراع بين طبقتي العبيد والأسياد ، فظهرت ثورة سبارتاكوس ، وثورة الزنج ، والقرامطة ...وفي مظاهره الدنيا : هروب العبيد من مناطق أسيادهم . - قصة : كوخ العم توم - .
= ومع تمركز التجمعات البشرية تحت مسميات : القبيلة ، مراعي القبيلة ، ظهرت الزراعة الأولية و الحاجة الى تطوير أدوات للعناية بالأرض والاستفادة من منتوجها المتزايد بقدر تطور الأدوات المستخدمة - كالمحاريث ، وآلالات طحن الغلال ، وعربات النقل ..وأصبح الميل الأكثر للانتاج هو توجيه العبيد للعمل في الزراعة ... من هنا أصبحت ملكية الأرض وما عليها من أقنان - مزارعين مرتبطون بالأرض - ، هي الملكية السائدة ، وأنعكست نوعية هذه الملكية على كامل التشكيلة الاقتصادية الاقطاعية ، التي تميزت بتملك الاقطاعيات الواسعة ، والاستحواذ على المنتوج الزراعي بالكامل ، ولا يزيد نصيب الفلاحون منه إلا ما يبقيهم أحياء للعمل في اليوم التالي .
وهذا أدى الى تعزيز التمايز الطبقي بكل وضوح ، وهما طبقة الاقطاع ، وطبقة الفلاحين ، وهذا عُرف باسم التشكيلة الاقتصادية الاقطاعية .وزادت المشكلة والصراعات الطبقية من وجود الوسطاء بين الاقطاعيين والمزارعين لتحصيل ريع الأرض السنوي وطلب المزيد دوماً .
ان النظام الاقطاعي كان مغطى بتحالف الكنيسة مع الملك، حيث ظهر نظام الحكم الملكي ، الذي يكون على قمته من يملك أوسع الاقطاعيات.... والتاريخ يحكي الكثير عن دور الكنيسة ، ومشايخ الأديان في تبرير وجود أنظمة الحكم الملكية تحت مسميات متعددة ، مثل : ملك ، والي ، سلطان ، خليفة ، الإمام ...
وهذه التشكيلة الاقطاعية سادت في كل المجتمعات البشرية تقريباً ، في أوروبا وفي آسيا ، وأفريقيا ، وملامحها درسنا عنها في المنهج المصري بوضوح قبل ثورة سنة 1952 التي قام بها الضباط الأحرار التي ألغت الحكم الملكي في مصر ..
= ولكن لم تقف حاجة المجتمعات الى هذا الحد ، فمع تركز المجتمعات وتكاثرها برزت الحاجة الى تطوير وسائل الانتاج - الأدوات والآلات المستخدمة في الانتاج - ففي رحم التشكيلة الاقتصادية الاقطاعية نمت ملامح لطبقة اجتماعية جديدة ، وهي طبقة الحرفيين المالكين لمصانع تقوم على الانتاج الحرفي الضروري للانتاج الزراعي ، بالاضافة الى مصانع الأقمشة والأسلحة والجرارات والسفن، ومع نمو الانتاج تعززت قوة هذه الطبقة مقابل طبقة الاقطاع ، فظهرت ملامح لطبقات جديدة ترتكز في ملكيتها على المانيفاكتورة - مجموعة مصانع - ومع اشتداد ملامح للصراع الطبقي ، وهروب الفلاحين من القرى الى المدن للعمل في المصانع مما أدى الى تعزيز قوة طبقة البرجوازية النامية في المدن ، وتمرد هذه الطبقة النامية على قيود الاقطاعيين وقوانينهم الضريبية ، أصبح واضحا وجود طبقات جديدة هي : البرجوازية المالكة للمصانع في المدن ، والعمال الأُجراء الذين لا يملكون شيئا ومضطرون للعمل عند البرجوازية ، وهما الطبقتان الأساسيتان التي قام عليهما النظام الرأسمالي .
وأصبح من الضروري تغيير النظام الاقطاعي ، وظهور نظام جديد يكون فيه جهاز الدولة تحت سلطة الطبقات القوية النامية اقتصادياً، فهنا اشتد الصراع الطبقي فقامت ثورات في معظم الدول الأوربية للتخلص من النظام الاقطاعي - الملكي - وسلطة الكنيسة - أبرزها الثورة الفرنسية ، وبسمارك الذي وحد ألمانيا . وتمرد لوثر كينج على صكوك الغفران .
كان من أبرز الشعارات التي رفعتها الثورات شعار " لسيه باسيه "، - دعه يعمل ، دعه يمر _ وهو دعوة للحرية في العمل للأفراد والرساميل. كما لعب فلاسفة التنوير أمثال " روسو" و" فولتير " ، دوراً مهما في اشتعال الثورات التي طالبت بالحرية وإحلال النظام البرلماني الانتخابي بدل النظام الملكي، ومنها من عمل على تحجيم النظام الملكي وجعله مقيداً بدستور جديد يخدم الطبقة النامية، وطموحات الجماهير نحو الحرية ..
= وعند فهم كيفية العمل الانتاجي في المجتمع الرأسمالي نجد أن البرجوازية التي لا تتعدى نسبتها %5 من المجتمع هي المالكة لوسائل الانتاج المصانع ، العقارات ، وهي التي تستولي على الأرباح، بينما هي طبقة طفيلية تستولي على ما يُنتجه الآخرون ..
في حين نرى أن العمال والطبقات الأخرى العاملين في الانتاج الذين نسبتهم تعادل 95 % من المجتمع لا يأخذون غير ما يسد الرمق من الأجرة التي لا تكفي لسداد حاجات الانسان الاساسية من مأكل ومشرب ومسكن وتعليم وصحة .
من هنا نكتشف الخلل في الاستيلاء على الخيرات المنتَجة في البلاد ، فالبرجوازية القليلة تستولي على الكثير ، والعمال الكثيرون يكون نصيبهم قليل ..
ان النظام الرأسمالي هوالأب الشرعي للاستعمار الذي كان يستعمل العمال وقودا لحروبه من أجل اضافة مستعمرات وأسواق جديدة لمنتجاته .
ان التوسع في الأبحاث العلمية قد زاد من التطور المتسارع لأدوات ووسائل الانتاج والتكنولوجيا، مما أدى الى ظهور المنافسة الانتاجية ، وانهيار مؤسسات انتاجية، والقاء آلاف العمال في الشارع ، وتفشي البطالة الفقر والعوز ..
ان تزايد كثافة المجتمع، وقيام طبقة العمال والفلاحين بالدور الرئيس في انتاج الخيرات المادية ، بينما البراجوزية وبقايا الاقطاع يستحوذون على " فائض القيمة " من منتوج القوى العامل الذي يشكل الدخل القومي للبلاد، باعتباره حق لهم تمنحها لهم القوانين الواردة في الدستور البرجوازي الذي ينص على تعزيز الملكية الخاصة ، وتعزيز سلطة رأس المال والشركات الرأسمالية .
وفي هذه المرحلة الاقتصادية ظهر بوضوح حجم الاستغلال والغبن الواقع على الطبقات الاجتماعية الشعبية من عمال وفلاحين ، التي يقع على كاهلها القيام بالدور الرئيس في انتاج الخيرات المادية اللازمة لحياة المجتمع البشري ..
ان تطور وسائل انتاج الخيرات المادية هو الذي يساعد على بروز الحاجة الى انتقال النظام الاقتصادي الرأسمالي الى مرحلة جديدة مختلفة اقصاديا عن سابقاتها.
من هنا يجب تصحيح المعادلة ، بتغيير نوع الملكية ، من الملكية الخاصة للبرجوازية الرأسمالية ، الى ملكية عامة ... بحيث يصبح انتاج البلاد لصالح كامل المجتمع من عمال وفلاحين واداريين مساعدين في الانتاج ... من هنا ظهرت فكرة اشتراكية التي هدفها تسيير الانتاج الاجتماعي لصالح الطبقات المشتركة في الانتاج ....
وهنا يتضح هدفنا من القول نريد اشتراكية ، أي نريد ازالة الاستغلال أثناء العملية الانتاجية الجارية ، الذي تقوم به البرجوازية الطفيلية بدعوى ملكيتها الخاصة لوسائل الانتاج .
ان ازالة استغلال الانسان لأخيه الانسان لا يمكن إلا ببناء مجتمع تعاوني ، تكافلي تسود فيه الملكية الشخصية بجانب الملكية العامة والتعاونيات ، مجتمع لا تُوجد به أرضية لامكانية وجود طبقات استغلالية تطفو على سطح المجتمع وتستحوذ على خيراته ..
هذا المجتمع ، هو المجتمع الاشتراكي الذي لا توجد به طبقات متناحرة ، بل طبقتان متعاونتان هما طبقة العمال العاملين في الصناعة ، وطبقة الفلاحين العاملين في الانتاج الزراعي، وهاتان الطبقتان لا يوجد بينهما صراعات تناحرية ، وبقدر ما يجري ادخال التكنولوجيا والآلات المتطورة في الزراعة ، بقدر ما تزول الفوارق بين العمل في الزراعة ، والعمل في الصناعة .
-------------------------------
هذا باختصار شديد كيف انتقلت المراحل الاقتصادية من مرحلة الى أخرى ، وكان تطور الأدوات ووسائل انتاج الخيرات المادية المصاحَب بالصراع الطبقي هو الدافع الأقوى للتغيير من تشكيلة اقتصادية اجتماعية الى أُخرى .