حدثنا عن العدالة يا أردَشير


عبدالرزاق دحنون
2020 / 1 / 7 - 13:17     

"إذا بخلت السماء بقطرها جادت سحابتنا بدرها"
أردَشير

1
نقل المبرد المتوفى سنة 286 من الهجرة في كتابه الكامل عبارة تقول "عدل السلطان خير من خصب الزمان" وقد كنتُ أحسب هذا القول عربي النِجار لحين مطالعته في كتاب "عهد أردَشير" بتحقيق العلامة النابه والباحث الجليل الدكتور إحسان عباس -رحمه الله- والمنشور بطبعة أنيقة سنة 1967.يقول أردَشير: يجب على السلطان أن يكون فائض العدل, فإن العدل جماع الخير, وهو الحصن الحصين من زوال السلطة وتخرمها, وإن أول مخايل الإدبار في السلطة ذهاب الصالحين وأهل العدل. وكان يقول: ما شيء أضر على نفس الحاكم من بطانة فاسدة, لأن النفس تصلح على مخالطة الشريف الأريب الحسيب كذلك تفسد بمعاشرة الخسيس حتى يقدح ذلك فيها ويزيلها عن فضلها ويثنيها عن محمود شريف أخلاقها, وكما أن الريح إذا مرت بالطيب حملت طيباً تحيا به النفوس وتقوى به جوارحها كذلك إذا مرت بالنتن فحملته ألمت به النفس وأضرت بأخلاقها إضراراً تاماً والفساد أسرع إليها من الصلاح إذ الهدم أسرع من البناء. فمن يكون هذا الأردَشير وما حكاية عهده؟
2
يمكننا القول أن عهد أردَشير هو أول عقد اجتماعي مُبرم بين الحاكم والمحكوم. وبما أن أردَشير يحتل في التاريخ مقاماً عليّاً رفيعاً, وهو الذي قضى على حكم ملوك الطوائف, وأعاد للأمبراطورية الفارسية -بعد توحيد أجزائها وتوسيع رقعتها- مجدها القديم الذي كان لها أيام كورش ودارا الكبير, ورد لعقيدتها مكانتها القديمة وعمد إلى إحياء رسومها, وبذلك هيأ لأهلها الوحدة السياسية وقوة الرابطة الدينية, وكان مؤسس الدولة الساسانية التي ظل ملوكها يتولون الحكم حتى ظهور الإسلام.
3
كان الدين ,بعد أمر الدولة, أكبر شيء استأثر باهتمامه, ذلك أنه وجد أن الدين قد اضمحل شأنه في أيام ملوك الطوائف فعمد إلى إحيائه بكل وسيلة, فأمر بتحطيم الأصنام وإزالة الصور وبنى بيوت العبادة في كثير من البلاد .ومن أجل أن يؤمن أردَشير هذه الحركة الإصلاحية منح رجال الدين سلطة واسعة وأشركهم في إدارة الدولة ونصبهم في كل مكان لإقامة الأحكام حسب المبادئ الدينية وأعلن أن الدين والدولة توأمان أو كما قال في عهده: اعلموا أن السلطان والدين أخوان توأمان لا قوام لأحدهما إلا بصاحبه لأن الدين أسّ السلطان وعماده ثم صار السلطان حارس الدين فلا بد للسلطان من أسه ولابد للدين من حارسه لأن ما لا حارس له ضائع وما لا أسّ له فمهدوم.
4
وإلى أردَشير يعزى الفضل في كثير من القواعد والنظم الإدارية وضبطاً لنواحي الدولة وتحقيقاً للعدالة التي جعلها أسمى هدف له كان يتحرى عن أحوال الرعية تحرياً دقيقاً ويدقق في أحوال حكام الولايات ورجال إدارتها.وليس لنا أن نظن أن أفعاله كانت نائية عن أقواله في هذا المجال فقد ضُرب به المثل في حسن السيرة وكانت سيرته مثالاً يحتذيه من جاء بعده من الحكام. فقد رفع أهل إصطخر رقعة إلى أردَشير يشكون فيها إمساك السماء مطرها وبخلها به وسوء أثر القحط الذي أصاب زرعهم وضرعهم فكتب إليهم: إذا بخلت السماء بقطرها جادت سحابتنا بدرها وقد أمرنا لكم بما يجبر كسركم ويغني فقركم والسلام.
5
ويشير الدكتور إحسان عباس محقق كتاب عهد أردَشير أن العهد قد تُرجم إلى العربية في دور مبكر وأنه ربما تمت ترجمته في أواخر العصر الأموي أي إبان ذلك الدور الأول الذي التفت فيه التَّراجمة إلى الثقافة السياسية في الحكم وقواعده.والعهد في صورته العربية الإسلامية تألف من ست وثلاثين فقرة و مجموعة متفرقة من أقوال أردَشير التي تناقلتها كتب التاريخ والسير.وفي ظني أن العرب في جزيرتهم كانت على علاقة وثيقة بأهل فارس قبل ظهور الإسلام. وقد قرأت خبراً خطيراً -إن صحَّ- أورده المسعودي في مروج الذهب يقول: كانت أسلاف الفرس تقصد البيت الحرام وتطوف به تعظيماً له ولجدهم إبراهيم عليه السلام وتمسكاً بهديه وحفظاً لأنسابه وكان آخر من حج منهم ساسان بن بابك جد أردَشير . كانت الفرس إذا أتت البيت طافت به و"زمزمت" على بئر إسماعيل فقيل إنما سميت "زمزم" لزمزمتها عليه بأصوات أعجمية. وكانت الفرس تهدي إلى الكعبة أموالاً وجواهر وقد كان ساسان بن بابك أهدى غزالين من ذهب وجوهراً وسيوفاً. وقد ذهب قوم من مصنفي الكتب في التواريخ وغيرها من السير أن ذلك كان لجرهم حين كانت بمكة.ويعلق المسعودي: وجرهم لم تكن ذات مال فيضاف إليها, ويحتمل أن يكون لغيرها, والله أعلم.