قراءة في الحتميات


مازن كم الماز
2020 / 1 / 4 - 23:28     

أحد أكبر أخطاء الماركسية هو إيمانها بحتمية ما , أن العالم خلق أو وجد لغرض ما , وفق وصفة أو قانون ما , لكن هذا غير صحيح للأسف الشديد .. ليس فقط أنه وجد أو خلق بالصدفة و يستمر وفق "قانون" الصدفة , دون مخطط أو هدف مسبق , لقد خلق العالم نفسه بنفسه و هو يستمر بذلك دون توقف , و عند كل خطوة , مع كل "تطور" , كان العالم يخترع , يبدع "قوانينه" و يغيرها باستمرار .. لكن الاختراع الحقيقي لما أسميناه قوانينا جاء مع المادة الواعية , مع ظهورنا نحن البشر .. ما أن ظهرت الحياة أو المادة العضوية من المادة غير العضوية , حتى أصبح الصراع على الموارد المتاحة هو "قانونها الأول" , الرئيسي , هذا الذي رآه ماركس صراعا طبقيا , و سماه داروين "صراعا من أجل البقاء" , و أطلق عليه مالتوس و سميث و هوبز و غيرهم أوصافا مختلفة , الصراع الذي أصبح الدافع الفعلي للحياة للحصول على طعام أفضل أكثر و بلوغ "مستويات أرقى" من التكيف و القدرة على السيطرة و أخيرا التفكير .. كم كان سيكون رائعا و مريحا لو أن العالم خلق وفق خطة محددة للوصول إلى نهاية أو غاية ما , مخطط لها سلفا بل و حتمية , إجبارية , كان ذلك العالم سيكون سعيدا بالفعل , حتى للأغبياء , خاصة للأغبياء , لكن فقط الغبي ذلك الذي يتصرف بطريقة "حط رأسك بين الرؤوس و قول يا قطاع الرؤوس" هو الذي يمكنه اليوم أن ينعم بتلك الراحة .. لقد ساهمنا بإيماننا بقوة تفكيرنا و بإطلاق العنان له لفهم عالمنا و أنفسنا بتحطيم كل الأوهام التي ساعدت البشر الأوائل على أن يعيشوا هنا و يتكاثروا , يبنوا و يحطموا , يقتلوا و ينهبوا دون أن تعذبهم أية أسئلة وجودية كبرى .. مع الاعتذار من كل إسلاميينا و علمانيينا الذين يرددون كلامهم , ليست الشورى هي ذاتها الديمقراطية , و مع الاعتذار من رفاقي التروتسكيين و الماويين , ليست الرأسمالية مجرد إنتاج سلعي أو بضاعي .. كل هذه هي ظواهر جديدة , متغيرة , متجددة باستمرار .. إن محاولة تصويرها و تصوير العالم على أنه حالة أو مجموعة حالات ثابتة نهائية ليس إلا خدعة ضرورية أو قصور كامن في الوعي الإنساني ذاته .. إن الوجود بكل تجلياته , التفكير , الجسد , و تفسيراتنا المختلفة لهذا الوجود , كالجمال و القبح , الحب , الحزن , الضحك و البكاء , الكآبة , الأمل , التمرد , الثورة , الشعر , الموسيقا , السخرية , الخ هذا الوجود هو ظاهرة عظيمة بكل الأبعاد , لكن في نفس الوقت تافهة حسب تصنيفنا للأمور أو ظواهر الحياة اليوم , لقد وجدنا جميعا لأن رجلا و امرأة دفعتهما الغريزة ليمارسا الجنس , هذا سبب وجود كل البشر , كل شيء .. أعرف صعوبة هذا الكلام بالنسبة للإسلاميين و غيرهم من الدوغمائيين الذين يفضلون الغباء المريح على التفكير الحر و التحليق عاليا فوق التابوهات و خارجها .. أشعر تماما بشعوركم , فأنا لست وحشا يريد أن ينغص عليكم راحتكم و وجودكم , وحشا يريد أن يقلب أحلامكم إلى كوابيس , بل صدقوني , كم يسعدني أن تموتوا , تقتلوا , تذبحوا , تسحلوا , تصرخوا , تكفروا , تخونوا , تحاكموا , تقمعوا , كجماعات منفلتة و أفراد منضبطين , أن تنتحروا مع ما يمكنكم من "الكفار" أو "الأعداء" و أنتم تنتظرون حورياتكم و أنهار اللبن و العسل .. لا أريد أن أسلبكم حورياتكم و لا جحيمكم و جحيم آباءكم الذين تزجون فيه كل منافسيكم على الذهب و الفضة و الصولجانات و الإمساك بسياط السجانين , لن آخذ منكم إحساس الجندي الذي ينتظر بفارغ الصبر الأمر بمهاجمة الأعداء , قتلهم , و بالموت , بالاستشهاد .. و لا يزعجني أن مثل هذا الشعور و ذلك الهوس بوظيفة الجندي الذي ينتظر فقط أمر الهجوم يستحوذ على كل من يؤمن بحتمية ما , دينية أو غير دينية .. ليس غريبا أن لينين تحدث عن المهمة التاريخية للطبقة العاملة .. لسنا ( لستم ) أكثر من منفذين , تختلفون فقط حول من يصدر الأوامر و ما هي هذه الأوامر .. لكن العالم من حولنا يسخر من كل حتمياتكم و قوانينكم و مقدساتكم بطريقته الخاصة .. أنتم لا تنتبهون مثلا إلى تفاهة "حج" الأحياء إلى قبور الموتى و ترديدهم لكلمات تافهة أو غبية بكل تقديس لمجرد أنها قيلت قبل عقود أو قرون , هذا من بين أشياء لا عد لها لا يمكن أن يرتكبها من تصفوهم بالمجانين .. أعرف أنكم تحتاجون التفاهة و الغباء كي تعيشوا , حتى لو كان ثمن ذلك ألا تفهموا , أن تعيشوا و تموتوا أغبياء .. فقط أريد أن أقول لرفاقي الماركسيين و إخوتي الإسلاميين و أترابهم أنه لا حتمية هنا , و لا فيما تقولونه و تفعلونه , إنكم تختارون بالفعل , أن الغباء أو ما تسمونه حتميات التي تؤمنون بها هي من اختياركم الحر , نصف الواعي , إن الغباء ليس حتميا كما تزعمون .. كم كنت أتمنى لو كان ادوار سعيد حيا اليوم ليرى الاستشراق على حقيقته مع ترامب و لوبين و جونسون و القادم أدهى و أعظم , كم كنت أتمنى لو رأيت استشراقك يا سعيد و قد تحول طائرات تقتحم الأبراج , كم أتمنى لو أن محمد , ذلك الذي رددت الأجيال واحدا تلو الآخر كلماته "حيث ثقفتموهم" بكل حماسة , لو أنه يستطيع أن يشاهد كعبته و السحالي وحدها تحج إليها كي تتبول هناك بعد أن يذبح آخر مؤمن به آخر كافر به , ستهزمتك حمص و دمشق أخيرا يا خالد بن الوليد , وحدها السحالي ستستمتع بالتبول و الاسترخاء على قبرك , في مساجدكم و كنائسكم و فوق آلهتكم و مقدساتكم , فقط استمروا , اذبحوا بعضكم حتى الموت , إن الكراهية هي أعظم إنجازاتكم على الإطلاق , و تستحقون عليها مثل هذا الأبوكاليبوس الرائع .. كانت فرصتكم الأخيرة أن تتبولوا أنتم على كل هذه المقدسات التي تقتلون بعضكم البعض من أجلها و ها أنتم تفوتون هذه الفرصة , مفضلين حورياتكم و السجون و الغباء .. يؤسفني أنكم لم تخترعوا حتى غباءكم , أن الغباء الذي تختبؤون خلفه ليس إلا تقليد و محاكاة لغباء العالم الذي أبدعنا ثم يتركنا لرحمة غبائنا و رحمة الصدفة التي خلقتنا , صدفة تافهة كالتقاء الأرض بجرم فضائي ما , ثانية فقط تكفي كي تلغي كل ما احتاج مليارات السنين كي يتطور و يكتمل .. إن معاركم المقدسة الجوفاء , الدموية , المجنونة , الاستئصالية , ليست إلا أكبر برهان على غباء الوجود و العالم الذي نعيش فيه , أن تهربوا من الانتحار ذكاءا إلى الانتحار غباءا ..