من هو الطرف الثالث في المعادلة السياسيّة العراقيّة؟


سلام عبود
2020 / 1 / 1 - 21:16     

هل يُعقل أنّ مرتزقاً واحداً يخربط حسابات شعب كامل؟
السعودية تبارك قتل العراقيين، البحرين والإمارات تفعلان المثل، وإسرائيل تبني آمالاً على ذلك.
ماذا حدث؟
يجيبنا ترامب في الحادي والثلاثين من ك1 قائلاً: "هجومنا ردّ على مقتل متعاقد أميركي".
تصوّروا: متعاقد! أي أحد أبشع أنواع المرتزقة الدوليين، أحد أفراد العصابات التي أوغلت، بحرّيّة مطلقة، في دماء وثروات وأمن ومصائر الشعب العراقي منذ حكومة بريمر، والتي أفاد من خدماتها الجميع، السلطة والقبائل والمليشيات والأحزاب، والتي جعلتها أميركا سلطة أمنيّة فوق السلطات كافّة، تختص بالتجسس، والاستطلاع، وإدارة السجون، والقتل، والتعذيب، وتهريب السلاح، والاتجار ببيع الأعضاء البشريّة، وتحريك الجبهات، ونقل الرؤوس الكبيرة من مكان إلى آخر، وحماية المسؤولين.
كلنا نتذكّر مرتزقة الفلوجة الدوليين، بلاك ووتر، وبيانات تأبينهم وتمجيدهم من شعراء وكتاب عراقيين. ما أشبه اليوم بالبارحة! كأنّ هذا الشعب بلا ذاكرة، لكثرة ما حلّ به من مآس!
ترامب يسمي المرتزق باسمه، ونحن ننكر وجوده إنكاراً تامًّا.
أيّة سورياليّة هذه!
حكومتنا، ومعها شعبنا كلّه، بخيره وشره، لم يسأل: من جاء بهذا المرتزق إلى العراق، ولماذا؟ من تعاقد معه، ولأيّ غرض؟ وهل جاء إلى العراق وحيداً لفرادته الاستثنائيّة، أم هو جزء من منظومة قتاليّة وأمنيّة تنتشر على امتداد خارطة العراق وتدار مؤسساتها القياديّة في أربيل وتل أبيب؟
هل تمّ هذا بعلم الحكومة العراقيّة؟ من أمر بذلك؟ هل مجلس النواب العراقيّ على علم بعودة المرتزقة الدوليين؟ ولماذا سكت طوال هذا الوقت إن كان عارفاً؟ وكيف مرّ عليه الأمر إن كان جاهلاً؟ هل يحقّ لأيّة دولة أجنبيّة التعاقد مع قتلة دوليين للعمل في العراق بحرّيّة مطلقة من دون مساءلة؟ هل نحن دولة أم اصطبل بلا بوابات!
العراقيّون انقسموا إلى مؤيّد ومعارض فيما يتعلّق بالاحتجاج على مقتل أفراد الحشد الشعبيّ أمام السفارة الأميركيّة ، بصرف النظر عن شكل الاحتجاج وأسلوبه. لكنّهم لم يتساءلوا عن سبب إقدام دولة عظمى على استئجار مرتزقة دوليين وإرسالهم إلى بلدان ذات سيادة!! لم يتساءلوا هل حقًّا أنّ دم مرتزق دوليّ يعادل كلّ الدماء العراقيّة التي أريقت، والتي لم يتمّ الحديث سوى عن ضربة القائم، متناسين أربع عمليّات جويّة وصاروخيّة تمّ تنفيذها في الوقت نفسه في أماكن عدة من العراق، سبقتها عشرات الهجمات، التي نحرت مئات العراقيين.
لم يفكّر أحد بأنّ جمود الوضع في جبهتي سورية الشماليّة والشرقيّة، وتصاعد القلق في إدلب، كان جزءاً من الحدث، وجزءاً من عمليّات مناقلة علنيّة لقوات "داعش" وقوات كرديّة وتركيّة بين سورية والعراق. لم يتساءل أحد عن الوضع الإقليميّ: اشتداد الحصار على طرابلس، وجمود الوضع الحربيّ في اليمن، وخروج الأميركيّ من اللعبة العسكريّة خاسراً، مكتفياً بالابتزاز الماليّ. لم يتساءل أحد عن التحرّك الروسيّ الصينيّ الإيرانيّ المباغت في المياه المجاورة، كردّ مباشر على التجحفل البحريّ لأميركا وحلفائها في الخليج. ولم يسأل أحد عن تجدد الشروط حول الخلاف الأميركي الإيراني برعاية صينيّة، التي تمّ الإعداد لها قريباً جدًّا بين ترامب والقيادة الصينيّة. وهي الحدث الأكبر المرتقب.
وداخليًّا لم يتساءل أحد عن بيان المعتوه عبد الكريم خلف، الذي نصّ على أنّ دخول المنطقة الخضراء كان مباغتاً، وأنّ العدد كان عشرين ألف مقتحم. تصوروا: أيّ أمن وأيّة سلطة يغبى عليها رؤية عشرين ألف مقتحم، وقيل ثلاثين، قاموا قبل يوم من الاختراق "المفاجئ" بإعلان التحرك باتجاه المنطقة الخضراء، ونشروه في وسائل الإعلام كافّة!
نحن بلد العجائب. لذلك فإن ثورة الشعب شرعيّة حتّى إذا لم تكن لديها أهداف سوى إزالة الجانب العجائبيّ من نمط السلطة الفاسدة، ومن وشروط الحياة المرعبة، الشاذة، التي يعيشها الشعب العراقيّ منذ عقود.
عجائب كثيرة اختلط فيها الحابل بالنابل: تأييد تام لحرق المؤسسات الدبلوماسيّة الإيرانيّة لمرات عدّة، وسط تهليل الإعلام العراقيّ والعربيّ، واعتبار حرق إطارات أمام بوابة أميركيّة جريمة تاريخيّة لا تغتفر! الذين أدانوا، باسم الشرعيّة الدوليّة، التظاهر أمام السفارة الأميركيّة هم أنفسهم الذين هللوا للحرق المتكرّر لمؤسسات دبلوماسيّة إيرانيّة، فأسسوا لسياسة الحرق المتبادل، ولجعل العراق ساحة للفعل وردّ الفعل الإقليميّ والدوليّ. هؤلاء منتقمون طائفيون بامتياز، هم بقيّة السيف في جيش النظام البائد، الذين يريدون، بكلّ السبل، وضع العراق بين خصمين متصارعين، لهما مصالحهما الخاصة، التي لا تقيم وزناً لمصالح الشعب العراقيّ. متظاهرون مدنيّون يطالبون بالحرّيّة والكرامة الوطنيّة يرفعون كلمات ترامب العدوانيّة التحقيريّة على مواقعهم الإعلاميّة بزهو وتشفّ مثير للعجب. مثقفون ارتزاقيّون، محسوبون وحلفاء للشيوعيين، يوجّهون عبر البريد الالكترونيّ رسائل للمثقفين العراقيين تطلب منهم الاتصال بعناصر عسكريّة إسرائيليّة، علنا ومن دون خجل، ومن دون مراعاة أنّ الحزب الشيوعيّ وقوى اليسار المستقلّ شريك شرعيّ في الانتفاضة الوطنيّة، قدموا لها الدماء الزكيّة، لا يجوز لأحد تدنيس قدسيّة نضالهم وحرفه. وهذا عين ما حدث قبيل الغزو الأميركيّ للعراق.
قادة في الحشد الشعبيّ ينقلون بنادقهم من مواجهة الإرهاب التكفيريّ إلى مواجهة الشعب، وينشرون المكاتب العسكريّة الاستعراضيّة في المدن كافّة وليس في جبهات القتال، ولا يتنبّهون إلى أنّ مهمّة الحشد هي حماية حدود الوطن والجبهات ضد العصابات الإرهابيّة، كما تنصّ تصريحاتهم وفتوى تكوينهم. وحكومة لا تعرف حدود تعاملها مع فصائل الحشد: هل هم فصائل مارقة، مسلّحة بقوّة فتاوى المرجعيّة الدينسياسيّة الطائفيّة، أم هم جزء حقيقيّ وشرعيّ من المنظومة العسكريّة الحكوميّة، يتوجب تأطيرهم وتوجيه أدوارهم، والذود عنهم أيضاً باعتبارهم جزءاً من جيش الوطن؟
هل يريد الأميركان خلط الحابل بالنابل، لكي تبقى حكومة عادل عبد المهدي قائمة، بما فيها لعبة برهم صالح التكتيكيّة، في حال توافق الطرفين الإيرانيّ الأميركيّ في مباحثات بكين المرتقبة، وما بعدها؟
باختصار مطلق ووضوح تام: حكومة القتلة بقيادة عبد المهدي تسمح للحشد بالتواجد العسكريّ من جهة إرضاءً للقوى الطائفيّة، ومن جهة ثانية تسمح للأميركان بضربهم إرضاءً لسياسة الاحتلال الأميركيّ. وهذا يعني أنّ حكومة عبد المهدي هي ما يعرف بـ "الطرف الثالث". وإذا طبقّنا المعادلة عراقيًّا نجد أنّ حكومة عادل عبد المهدي هي من يدّعي حماية المتظاهرين من جهة، لكنّها من جهة ثانية تمنح حقّ قتلهم لقوى القمع الحكوميّ والميليشياوي. هناك تطابق تام على لعب دور "الطرف الثالث" داخليًّا وخارجيًّا، عراقيًّا وإقليميًّا، محليًّا ودوليًّا. إنّ حكومة "الطرف الثالث" لا تعني سوى أمر واحد: سلطة مجرمي حرب، لا أكثر ولا أقلّ.
شرّ البليّة يدفعنا إلى استعارة المثل العبريّ القائل: "بين حانه ومانه نتّفنا لحانا".
إذا كان سقوط مرتزق أميركيّ واحد يهزّ المجتمع العراقي بأكمله: معارضته وموالاته، متظاهريه وقامعيه، حشده وحكومته وأحزابه وطوائفه، مثقفه وجاهله، ويخلط حساباتهم إلى هذه الدرجة المثيرة، فأيّة قوّة جبّارة تمتلك السلطة الأميركيّة في العراق، وهل يوجد استعمار أعتى وأشمل وأبشع من هذا في التاريخ كلّه، استعمار يهين ويذلّ ويمتهن كرامة شعب وحكومة ومعارضة ومولاة على حدّ سواء؟
وأخيراً، أيّ هوان وضعف وخراب وانحطاط نعيش فيه ونحن تحت حماية جيش مليونيّ، فاشل، لا يعرف سوى قتل أبنائه العزّل! جيش يجيد فقط حماية دولة القنّاصة، ويرعى - باقتدار واحتراف مثيرين للدهشة- أجهزة اصطياد الناشطين السلميين!
# ## #
سياسيون أميركيون انتقدوا أوامر ترامب بقتل عناصر الحشد الشعبيّ مقابل "متعاقد"، واعتبروها تهوّراً غير مدروس.
هؤلاء مخطئون. هؤلاء إنّما ينتقصون من ذكاء ترامب، ومن صواب اتجاهه السياسيّ الستراتيجيّ النفعيّ. المتعاقدون، المرتزقة الدوليّون، هم حكّام العراق الحقيقيّون القادمون، الذين سيسجد لهم قادة الطوائف والمناطق والكتل والمليشيات كافّة، إذا وفّق ترامب في تنفيذ ستراتيجيته، بعيدة المدى. هؤلاء هم حكّام المنطقة الفعليين، الذين يديرون الآن مجمل دول الخليج، والذين سيديرون ما تبقى من بلدان فاشلة كالعراق.
بقتل العراقيين لا يفعل ترامب سوى واجب تمجيد هذه الطليعة المباركة، ولا يفعل سوى بث إشارات تؤكّد وتشرّع سيادة "المتعاقدين" القادمة.
من لا يعي شروط المواطنة الحرّة الحقيقيّة سيظلّ عبداً، حتّى لو ملأ الأرض والسماء بأغانيه الوطنيّة!
لذلك أقول: لا يجوز لمرتزق أميركيّ واحد أن يبلبل شعباً بأكمله، لمصلحة بقاء "الطرف الثالث".