هل نَقد الأَحْكَام القَضائية جريمة؟


عبد الرحمان النوضة
2019 / 12 / 31 - 15:57     

النـقيب عبد الرحيم الجامعي: القضاة ليسوا ملائكة، وانتـقاد الأحكام واجب، ولا يمكن ابتلاعها كما تَبْتَلِعُ الأَبْقَارُ العُشْبَ
تـقديم ضروري لهذا المقال القَيِّم (حَرَّره رحمان النوضة) : كتب هذا المقال القَيِّم النـقيبُ عبد الرحيم الجامعي. ويُوَضّح فيه أن التعليق على أحكام القضاء، وحتى نـقدها، ليس جريمة، بل هو حقّ للمواطنين. ولِكي يَفْهَمَ القارئ هذا المقال، يجب أن يعرف أنه حدث حِرَاك، ومظاهرات جماهيرية حَاشِدَة، وسلميّة، ومُتَوَالية، في منطقة "الرِّيف"، الموجودة في شمال المغرب، خلال سنوات 2017، و 2018، وفي بداية سنة 2019. وكانت هذه المظاهرات الشعبية تُطالب بِـ «التعليم، والشّغل، والعلاج الطِبِّي، والمُساواة، والحُرية، والكرامة». وخَافت الدولة المغربية من انتشار عَدْوَى هذه المظاهرات، فَرَدّت عليها بِقَمع عنيف، ومُبالغ فيه. واعتـقلت الدولة المئات من المتظاهرين، وحَكَمَت المَحَاكم على العَشَرَات من المتظاهرين بِعقوبات سِجْنِيَّة نافذة تتراوح بين 5 و 20 سنة. وقد نَدَّدت مجمل القوى الديموقراطية والتـقدّمية في المغرب بهذا القمع، وبهذه الأحكام، وطالبت بإطلاق سراح كلّ هؤلاء المعتـقلين السياسيين. والخطير هو أن الدولة بالمغرب أقدمت فيما بعد على تَصْعِيد قمعي أخر، حيث اعتـقلت وسجنت حتّى بعض الصحافيين والمُدَوِّنِين المغاربة، مثل عمر الرَّاضِى، الذين انتـقدوا قَسَاوَة الأحكام العِقَابِيَة الصّادرة في حقّ معتـقلي "حِرَاك منطقة الرِّيف". وخلقت هذه الخُروقات الجَسيمة لحقوق الانسان جَدَلًا وَاسعًا داخل الشعب المغربي، وداخل قواه الحَيَّة. وبعد ذلك، أقدم السيد الوردي على نشر مقال (على موقع إلكتروني)، وتحدّث فيه عن «أزمة تَلَـقِّي الأحكام القضائية». والسيد الوردي هو نائب الوكيل العام للملك بمحكمة الاستيناف بمدينة الدار البيضاء بالمغرب، وممثّل للنَّائِبَة العامّة بهيئة المحكمة التي أشرفت على مُحاكمة مُعتـقلي «حِرَاك منطقة الرِّيف». ودافع السيد الوردي في مقاله عن فكرة تزعم أن المواطنين يعجزون عن فهم الأحكام القضائية، وأنه لَا يحقّ لهم أن يناقشوها، وإذا مَا انتـقد أيّ مواطن أحكام القُضاة، فإن نـقده هذا يُجَسِّد إِهَانَة لِلْقُضَاة، ويجب أن يُعَاقب القانونُ كلّ مَن سَوَّلَت له نفسه نـقدَ أحكم القُضاة. ومَغْزَى مقال السيد الوردي هو تبرير الأحكام العِقَابِيَّة والسِّجْنِيَّة الصّادرة في حقّ بعض الصحافيين أو المُدَوِّنِين المغاربة، مثل عمر الرَّاضِى، الذين انتـقدوا الأحكام الصّادرة في حقّ معتـقلي "حِرَاك منطقة الرِّيف"، أو اعتبروها قَمْعِيَّة، أو قَاسِيَّة، أو عِقَابِيَة، أو ظَالِمَة. فَرَدَّ النـقيب عبد الرحيم الجامعي على السيد الوردي بهذا المقال القَيِّم الذي يُذَكِّرنَا بِمَا هو جَوْهَري في العَدَالَة، وفي فلسفة القانون] (اِنتهى تـقديم رحمان النوضة).
وفي مَا يلي مقال النـقيب عبد الرحيم الجامعي :
بـفرنسا، لمّا انتفض قلم الكاتب والمُفَكِّر "إميل زولا" (Emil Zola)، قبل أكثر من قرن، سنة 1898، وهو يوجّه رسالته المفتوحة تحت عنوان "أَتَّهِمُ" (”J’accuse”) إلى رئيس الجمهورية الفرنسية "فُور" (F. FAUR)، والتي نُشرت بجريد «L’AURORE»، دِفاعًا عن الضَّحية القُبْطَان "دْرَايْفُوزْ" (DREIFUS A.)، وانتـقادًا قويّا لمؤامرة عنصرية وقضائية، لم يكن أحد يتوقّع آنذاك أن الرسالة التي تُوبع صاحبها هو كذلك، ستخلق حدثا تاريخيا، وأزمة سياسية في حياة الجمهورية الفرنسية الثالثة، وداخل مؤسّـساتها العسكرية، والقضائية، وسَتُعَرِّي ما تستّرت عليه المناورات، وعلى مَا أخفاه التزوير، وإتلاف وثائق وحُجج تُبْرِئ المَعْنِي بالرسالة، قبل أن تظهر الحقيقة. وفضّل صاحب الرسالة كشفها، أي قبل أن يحسم رئيس الجمهورية الفرنسية بالتوقيع على صَكِّ العَفو، وقبل أن يُقْبَلَ طلبُ "دْرَايْفُوزْ" لمراجعة الحكم، لِتُحْسِم في النهاية "محكمة النـقض" الفرنسية للمرة الثانية بإعادة الاعتبار للضّحية القُبطان "دْرَايْـفُوزْ"، ويمنح له وِسَام الشّرف، وفي النهاية يفتح لِلكاتب والمفكّر "إِمِيلْ زُولَا"، ولرسالته، بابَ الاعتراف التاريخي الكبير، و لِتُسَجَّل محاكمة "دْرَايْفُوزْ" بِسِجِلِّ أكبر الأخطاء القضائية بالقرن العشرين، ألا تظن زميلي الأستاذ الوردي أنه ما أحوجنا اليوم لرسائل مثل رسالة "إِمِيل زُولَا" لِتُنَبِّهَنَا، ولِتُنَبِّهَ قُضاتَنا إلى أزمة إنتاج العدالة، قبل أن تُنَبِّهَ «مُتَلَقِّي العدالة» ؟
وعندنا بالمغرب، لمّا نشر الأستاذ الوردي مقاله تحت عنوان «أزمة تَلَقِّي العدالة»، على جريدة الكترونية قبل أيام ، ووقّعه بصفته عضوًا بِـ «نادي قُضاة المغرب»، وهو في نفس الوقت، وكما يعلم المهنيون والمتـقاضون، نائب الوكيل العام للملك بمحكمة الاستيناف بمدينة الدار البيضاء، وممثلا للنائبة العامة بهيئة المحكمة التي أشرفت على محاكمة معتـقلي «حِرَاك الرِّيفْ»، انتَــبهتُ للمقالة ربّما لوحْدي، لا أدري..، وتساءلتُ مع نفسي وأنا أقرأها عن وَقــعِـهَا المُحتمل، وعن الصّدى المنتظر الذي يمكن أن تخلّفه رسالة قاضي شاب يتمتّـع، فضلا عن خصال إنسانية كما هو مفترض في كلّ قاضي، بجرأة في الكلام من مِنَصَّة النِّيَابَة العَامَّة، ويَتَمَتَّع باهتمام وَوَلَع بِمَسَاطِر البَحث البُوليسي، وبِمَحَاضِر الضَّابِطَة، ويُعارض من يعارضها، ويَغْضِبُ حِينَ القَدْح في صحّتها، أو في مِصْدَاقِيَّتِها، يَعْشِقُ الاعتـقال، ويُحبّ أحكام السِّجن، وهو في ذلك يُــمثلُ الدّورَ الذي هو للنِّيَابَة العامّة في دول عديدة مثل المغرب، أيْ دور الدّفاع عن صناعة عدالة قضائية على المَذَاق، والدّفاع عن إِجْرَاءَات مُحاكمات تُوصِل بسرعة لِلْإدَانَـة. ومن هذا التّدريب اليومي، استطاعت النيابة العامة أن تُفْرِغَ ما يقرب من أربعين ألف معتـقل احتياطي بالسجون المغربية، دون أن يُحاسبها أحد عن أزمة العدالة الجِنائية، التي يتلقّاها المُرْتَـفِـقُون، ويُــنتجها القضاء الجِنائي. فهل خَطَرَ على بال الأستاذ الوردي أن يتحدّث عن أزمة يُشارك هو نفسه فيها، وتُشارك في إنتاجها مؤسـسة النيابة العامة، قبل أن يتحدث عن «أزمة تَلَـقِّـي العدالة» ؟
وقد اعتبرتُ أنه من واجبي قراءة مقال السيد الوردي، وفهم عقلية كاتبه، والمدرسة التي تعلّم فيها، والتَمَعُّن فيما أثاره من إشكاليات، ومنها بالأساس، الحُدود الفاصلة في ما بين «التعليق» (commenter)، و«النـقد» (critiquer)، و«التحقير» (mépriser)، حول الأحكام القضائية، خصوصًا عندما استشهد السيد الوردي بأحكام مَحَاكم فرنسية أدانت النـقد الذي وصل حَدَّ القَذْف، أو احْتـقار القَضاء والقُضاة. وأضاف السيد الوردي بأن «الأحكام عنوان الحقيقية»، و«لا رقابة على القاضي سوى ضميره»، مُؤَكِّدًا أن الخَوْضَ في مناقشتها «مهمة صعبة»، و«ينحصر فهمها على النّخبة»، وليست في متناول العامّة. ونادى السيد الوردي بضرورة إعادة الاعتبار للقرارات القضائية، واحترام القُضاة، وبـفتح حوار بعيدًا عن الشّعبوية، لرفع الوعي بمفهوم احترام العدالة.
ومن باب رفع اللُّبْسِ والخَلْط الذي خَيَّم على أُطْرُوحَات مقال السيد الوردي، أُبْدِِي ملاحظات أجملها في سِتَّة، وهي :
الملاحظة الاولى:
إن الطرح الذي أتى به الاستاذ الوردي، جَـرَّه نحو الخَلط و الاعتـقاد أن العدالة هي القضاء، وأن مفهومهما واحد. في حين أن العدالة بُنْيَان فِكري، وفَلسفي، وسياسي، وإبداع إنساني، ومجموعة من قِيَم، ومبادئ، ومُثُل، و قواعد أساسية لحياة المُجتمع، و لعلاقات السُّلطة بحقوق المواطن، في كل المجالات المدنية، والحقوقية، و السياسية، والاقتصادية، وغيرها، تتضمّنها وطنيًّا محتويات الدستور كميثاق، وكَـعِقْد اجتماعي، يُحدد مراكز كل الأطراف بالمُجتمع، وتتضمّنها المواثيق الدولية كذلك. أما القضاء، فهو آلِيَة مُؤسـساتية، مِثل عدد من المؤسسات، وسُلطة مُمَثَّلة في قُضاة، دورهم هو إنــتاج نِسْبَة من العَدالة، من خلال تطبيق حقيقي وسليم للقانون، وضَمان فعلي للحقوق، وإنتاج جِدِّي لقرارات ولأحكام تَحْمِي مراكز المُتـقاضين في الخُصومات. ومن هنا يبدو أن السؤال الحقيقي، الذي كان على الاستاذ الوردي طرحه، هو المتعلّق بأزمة إنتاج العدالة، وأزمة ضمان توزيعها بإنصاف بين المتـقاضين، من قِبَلِ القُضاة، في العملية المعروفة بالمُحاكمة. و كذا سؤال أزمة جَوْدَة القرارات والأحكام. وسؤال أزمة تنفيذ الأحكام القضائية. وأن ما تحدّث عنه الاستاذ الوردي، ووصفه بِـ «تلقي العدالة»، ما هي سوى نتيجة طبيعية للأزمة الأم التي أخفاها، وهو يعلم أن «المُستهلك» لمنــتُوج القُضاة، هو المواطن المُتـقاضي، أي في النهاية المُجتمع. وبالتالي، لا يجوز أن يفرض أحد على هذا الأخير، أيْ المُواطن والمُجتمع، اِبْتِـلَاع وَهَضْم أيّ منتوج كما تَـبْـتَـلِـعُ الأبقارُ عُشْبَ المَرَاعِي. مِمَّا يبقى معه انتـقاد القرارات والأحكام، والتعليق عليها، حتى لو كان الانتـقاد لَاذِعًا، بعد صدورها، أمرًا طبيعيًّا وعاديًّا. بل هذا النـقد هو وَاجب في مُجتمع ديمقراطي، وفي نظام قضائي يعرف القُضاة فيه أنهم ليسوا ملائكة تحت عَرْشِ الرّحمان، مُطَهَّرِين، ولا يُخطئون. فالنـقد ليس هَدِيَّة من أحد، بل النـقد هو مُكَوِّن ثقافي، و واجب مُجتمعي، تُجَاه كل السُّلطات، بِمَا فيها التنفيذية والتشريعية والقضائية، التي تحترم المواطن، وتحترم حرّية التعبير، وَتَـعِـي أهمية النـقد والرّقابة.
الملاحظة الثانية:
لم يكن للأستاذ الوردي أن يتحمّل عناء التنبيه، بين سطور مقاله، إلى احتـقار الأحكام، و وازدراء قضاة الأحكام. لأن الموضوع لا يحتاج لا لتنبيه، ولا لمقال، ولا لبيان. فلا أحد يقبل احتـقار القَضاء، أو احتـقار القُضاة. لأن الواجب يقـتـضي احترام الأشخاص، وعدم إهانتهم، أو المسّ باعتبارهم. سواء كان الشخص حَمّالًا، أو وزيرا، أو مُسْتَخْدَمًا، أو قاضيا، أو رئيس دولة…الخ.
لكن الخلط بين عملية النـقد، (كوسيلة للتّـعاطي المَنطقي والعَقلي والفِكري مع الإنتاج القضائي، أي مع قراراته، بمستوياتها المختلفة)، و ما بين عملية أخرى عاطفية، أو انْدِفَاعِيَة، أو مِزاجية، وهي عملية القَدْح، أو السَّب، أو الاحتـقار، قد ولّد لدى الأستاذ الوردي مُيولاً خاصّا، جرّه إلى رَبْطِ أمرين مختلفين، واستنتج فِي مَـقَاله أن كل نـقد موجّه لإنتاج قانوني، مثل إنتاج حُكم قضائي، يساوي ويوازي ازدراء صاحبه، أي احتـقار القَاضي المُصْدِر له. وهذا الزَّعْم هو أمر غير صحيح بالمُطلق. لأن هذا المَنطق يَنْتُـجُ عن عملية تدريب ذهنية راسخة، تَحْدُثُ في غالب الحالات عند من ينحصر دوره في فتح المُتابعات، و إقرار الاعتـقال المُسبق، حتى في أبسط القَضايا. الشيء الذي يمكن أن يكوّن مُبَرِّرًا لِمَا سقط فيه صاحب المقال. فليس مَنْطِـقِيًّا أن نعتبر أن كل نـقد مُوجّه لحكم قضائي هو انتـقاص من القاضي الذي أنتجه. ويجب أن نتذكّر أن القُضاة هم مخلوقات تَـعِيشُ معنا على نفس الكوكب، كباقي البشر، ولهم مزايا، ولهم عيوب. وبالتالي، ليست كل إنتاجاتهم (أي قراراتهم وأحكامهم) سليمة، وأنه يَلْزَمُ المُتَلَـقِّين لَهَا الصّمتَ أمامها، وعدم انتـقادها. فالسّوق القضائي وأحكامه كسوق العُمُلَات، لا يمكن أن يقبل عليها الناس وهي غير صالحة، ولا تفرض نفسها إلا إذا كانت جيّدة، ومن مستوى عالي. ومن هنا، كان من المفروض على الأستاذ الوردي أن يتجنّب لغة الخَشب، وأن يدافع عن تفاعل القضاء مع المُرْتَـفِـقِـين، وأن يقبل مِنهم ملاحظاتهم، وانتـقاداتهم، لأن ذلك في مصلحتهم، ولأن القُضاة ليسوا قُضاة النُّـخْبَة، ولا يتوجهون بأحكامهم للنُّخْبَة، لكي يستمعوا للنخبة وحدها، ويتجاهلون غيرها، بل هم قُضاة في خدمة العَدالة لِلْعَامَّة من المُتَلَقِّين، دون تمييز، بما في ذلك التمييز في الاستماع للبعض دون البعض الآخر.
الملاحظة الثالثة:
لا يمكن أبدا أن نُصلح، أو أن نرفع من شان العَدالة، ومن مستوى احترامها، بـِفَرْضِ الصّمت على المُتلقِّين لها، أو بمنعهم من تحليلها، وانتـقادها، بشكل صريح، وواقعي، بعيدا بالطّبع عمّا يمكن اعتباره قدحًا، أو إهانة. فالعدالة لا تصلح للرُّفُوف، ولا تُخَصَّصُ للمَتاحف، ليتفرّج عليها السُيَّاح. ولا يتـفاعل القضاء مع الصّامتين، ومع الخائفين، ومع المهزومين، ومع المصفّقين، والمهرّجين من الناس. ومن يُفكّر بهذا المنطق، فهو في حاجة ماسّة لعلاج أفكاره. والأستاذ الوردي، انطلق من مرجعيات لم تعد مقبولة لَا سياسيا، ولَا ثقافيا، ولَا مُجتمعيا. ولمّا أكد الأستاذ الوردي منذ بداية حديثه على الاختيار التـقليدي لمواجهة نـقد الأحكام، وانتـقاد القضاء، وهو الحل الجنائي بالتجريم والعقاب. ولم ينتبه الأستاذ الوردي لدروس التاريخ، التي علّمتنا أن علاقات الإنسان، أو المُواطن، بالدولة، وبسلطات الدولة، كانت عبر التاريخ علاقات صراع، يحتدم ويتصاعد فيه النـقـد لكل ما تـقترحه الدولة. وعندما يَعُـم الظّلم والفساد والاستبداد، وتنعدم الحرية، وتتفوّق لدى الحكّام قوّة السّلطة على قوّة القانون. وقد كان على الأستاذ الوردي قراءة ما حدث مؤخرا، في بداية سنوات التسعينيات من القرن الماضي، من خلال سقوط قيود الاستبداد، وما تلى ذلك من الثورات، والانتفاضات، التي عُرفت بِـ «الربيع العربي»، وعُرفت عندنا بالمغرب بِـ «حركة عشرين فبراير»، و عُرفت بِـ «حِرَاك مَنْطَقة الرِّيفْ»، وبِـ «حراك جْرَادَة»، وغيرهما، وكل هذه التحركات، هي عبارة عن سخط على أوضاع فاسدة. وهي أيضًا عبارة عن نـقــد قوي، ورفض علني، لما أنتجته الدولة وسلطاتها، بما في ذلك السلطة القضائية نفسها. لأنها سلطة من بين سلطات الدولة. وقُضاتها من موظّفي الدولة. وإنتاج القُضاة (أي أحكامهم) لابد له أن يكون جيّدا، وعادلًا، لكي يتـقبّله المُتلقي (أي المواطن)، ولكي ينحني له. فالحكم القضائي الفاسد أو الضّعيف، لا يمكن أن يحترمه المُتلقي، لأنه حُكم لا يخلق الاطمئنان، ولا يقوّي رابطة المواطن بالسلطة، وبالدولة، بل يرفع فُرص الغَضب، و يُـقَوِّي مناسبات السُّخط والاحتجاج. فضعف صناعة العدالة، وفساد إنتاج الأحكام، لا يشعر به القضاة، بل يشعر به مُتَلَقُّو العدالة. ومثل ذلك مثل ضُعف بقية السُّلط الأخرى، وضعف مستوى منتوجها، الذي يحتج ضدّه المُتلقون والمُستهلكون. وهذا عند علماء السياسة والاجتماع أمر عادي جدا. وكان على الأستاذ الوردي الانتباه اليه، وتـقدير مخاض مجتمعنا في هذا القرن الذي هو قرن الرَّفض، والاحتجاج، ضدّ كل ما لا يُلَبِّي طُموحات المُواطن المَشروعة، أو ضدّ كل ما هو غير صَالح من بين إنتاج قطاعات الدّول و سُلطاتها، سواء التنفيذية، أو التشريعية، أو القضائية. ومن هنا، لا يمكن أن تَسلم العدالة، ولا يُقبل أن تُستثنى وحدها من الانتـقاد. ولا يجوز أن نمنع المُتلقي من تـقييمها، ومن الحُكم عليها، والحُكم على من صَنعها، بالتَّـعليق، والنـقد الحُر، بالمقاييس المشروعة.
الملاحظة الرابعة:
تناسى الأستاذ الوردي التجربة المغربية المريرة التي عرفها المواطنون، وعرفها من يُسميهم بِـ «مستهلكي العدالة». وقد درستْ هَاته التجربة وحلّلتها "هيئةُ الانصاف والمصالحة" أمام الرأي العام، وأمام الملك نفسه، بعد أن كَشَفَتْ كتابات ضحايا "سنوات الرَّصَاص" أنفسهم الخُرُوقَات الجَسِيمَة لحقوق الإنسان. وقد اعتبرت "هيئة الإنصاف والمصالحة"، (من خلال العديد من الأحكام والقرارات التي أصدرها القضاء ما بين سنوات 1956 و 1999)، اعتبرت أن القَضاء يتحمّل مسؤولية عن جانب كبير من الانتهاكات القضائية لحقوق الانسان. وتبيّن للمغاربة أن القضاء كان مُواليًّا للسلطة، وللدولة، ولمراكز القوّة والنفوذ، خلال ما يقرب من نصف قرن. وقد كان على الأستاذ الوردي، قبل أن يُعَاتِبَ المُتلقي ويحذِّره بالقانون الجِنَائِي على نـقد القرارات والأحكام، كان عليه أن يتأمّل في دموع المُتلقين للعدالة، وهم يَحْكُون أَثْـنَاءَ "جلسات الاستماع العمومي" كيف جرى لضحايا أحكام الإعدام، والسّجن، والتعذيب، والقتل، في أكبر المحاكمات السياسية التي أصدرها قُضاة، أيْ من قِبَلِ القائمين مبدئيًّا على ضَمَان الأمن القضائي، وعلى توزيع العَدل، والحُقوق، وخلق العَدالة بالمُساواة، وللجَميع. والذين اختاروا حينها أن يضعوا أقلامهم، وأحكامهم، وضمائرهم، في خدمة الدولة، بدل خدمة العَدل، والحَقّ، وتطبيق القانون، باستـقلالية، وحِيَّاد. وربما كان آنَذَاكَ الأستاذ الوردي صغير السِّن، ولا يتذكر كيف مُتـِّـعَ المُذنبون، والمُتَسَبِّبُون في أزمات العَدالة، من الإفلات من العقاب، تحت مسمع ومرأى صُنَّاع الأحكام، و ضُمَّان العدالة. وهنا، أقترح عليك يا عزيزي بالمناسبة، أن تتريّث قبل جَلد المُواطن، مُتلقي العدالة، وأن تضع قلمك وسط أقلام أخرى، لِتُساهم في النـقاش الحقيقي الذي لا زال المغاربة، بمن فيهم مُتَلَقُّـوا العدالة، يثيرونه بِعُمق، وموضوعية، ومسؤولية، وهو موضوع عدالة المغرب اليوم، وعدالة المستـقبل، وموضوع أزمة استـقلال القضاء، وأزمة نَجَاعَتِهِ، وفعاليته، في ضمان الأمن القانوني والقضائي، وأزمة نوعية الأحكام والقرارات القضائية وجودتها، وأزمة نجاعة العدالة، أي عدم احترامها، بل واحتـقارها، ورفض تنفيذها من طرف الدولة، وإداراتها، ومرافقها، و"جماعاتها"، ومُنْتَخَـبِيهَا، ووزرائها، وكذلك أزمة استرجاع ثقة المُتلقي في القضاء، وفي أحكامه، وبحث أسباب التَذَمُّر، بل والاحتجاج الذي يصل أحيانا إلى حدّ الإضراب عن الكلام، وعن الطعام، خوفًا على مصير المُحاكمات، ومصير الحريات…. وهذه مواضيع، حسب علمي، لم يسبق للأستاذ الوردي أن طرحها أو عالجها. وأخيرًا، عليكم التَمَعُّن في سؤال واضح، وهو : هل أزمة العدالة في مفهومكم هي أزمة التعليق على الأحكام، أم هي أزمة صِنَاعة وتنفيذ الأحكام ؟ وهل الأزمة أزمة مُتلقي العدالة، أم أزمة المَسؤولين عن تحقيق العَدالة ؟
الملاحظة الخامسة:
ربما لن يَـقْـتـَنِــعَ الأستاذ الوردي نفسه، قبل أن يُقنِعَ الآخـرين، بضرورة قَمع ومعاقبة «متلقي العدالـة» كما هو معمول به في دول أخرى، فقد استشهد وتحجّج ببعض القرارات القضائية التي سبق أن صَدَرت في فَرَنْسَا، في قضايا سياسية حسّاسة، واختارَ منها الأستاذ الوردي ما كان ولا زال مثار خلافات سياسية أكثر من قضائية. ولم يستحضر الأستاذ الوردي سياقاتها. وأراد أن تطبّق فوق تربة مغربية مليئة بالأشواك، وبالمنعرجات، التي تُكَسِّرُ كلّ المُسَلَّمَات التي تصلح لمُناخ منتعش بالمُساواة أمام القانون، وَبِمِصْدَاقِيَة أقوى للمؤسسات، ومنها المؤسسة القضائية. فقد قدّم الأستاذ الوردي قضايا كنماذج في مقاله، لكنه نَسِيَ بأنها انتهت ببراءة المُتابعين. فقضية السيد "جَيْنُو" (H. Guaino ) الذي تُوبع أمام الغُرفة رقم 17 بمحكمة بَارِيسْ، وهو برلماني، وأحد المُقرّبين السياسيين من الرئيس الفرنسي "نِكُولَا سَارْكُوزِي" (Nicolas Sarkozi)، والذي غَضِب في تصريحاته الصحفية في سنة 2013، وانتـقد قرار قاضي التحقيق "مِيشيل جُنْتِي" (Michel Gentil)، عندما تَـابَعَ الرئيسَ الفرنسيَّ بمناسبة قضية "بيتانكور" (Betancourt). وبناء على وشاية من قبل "الاتحاد النـقابي للقضاة" (---union--- Syndical des Magistrats, USM)، أنهت هذه القضية بِحُكْم يُـبَـرِّءُ السيد "جَيْنُو" (H. Guaino ) ابْتِدَائِيًّا، وأُدِينَ استينافيًّا، لكن محكمة النَّـقْضِ أَلْغَتْ قرارَ الإِدَانَة سنة 2016. وقالت محكمة النّـقض: «اعتبارًا لِكَوْنِ ازْدِرَاء القَاضي لَا يمكن تطبيقه، لأن الكلام المُتَنَازَع حوله لم يُوَجَّه مباشرةً إلى القاضي» («considérant que l’outrage à magistrat ne peut s’appliquer dès lors que les propos litigieux n’ont pas été adressés ---dir---ectement au juge »). وقد ذهب القَرار في اتِجَاه العديد من الأحكام التي صدرت عن المَحكمة الأوروبية لحقوق الانسان، والتي أعطت للنـقد مَكَانَتَه الحقيقية، اعتبارًا لأهمية كلّ قَضية، ومكانة الجهة التي يُوَجَّهُ إليها. ومن أبرز تلك الاجتهادات القرار الصّادر عن المَحكمة الأوروبية في سنة 2007، ولصالح حُرِّيَة النـقد، في قضية "رُولَانْ دُومَا" (Rolland Dumas) وزير الخارجية السّابق، عمّا جاء في كتاب له حول قضية الشركة "إِلْفْ" (ELF). وقد قَبِلَت المَحكمة ما فيه من نـقد قَوِيّ لِوَكِيل الجُمهورية. وَقد صَوَّرَ الكاتبُ وَكِيلَ الجمهورية الفرنسية بالعبارة التالية : «كان بالإمكان لِلْمُدَّعِي العَامّ في قضية شَرِكَة "إِلْفْ" أن يجلس في الأقسام الخاصّة من مَحاكم احتلال النَّازِيِّين الألمان لِفَرنسا» (Un procureur de l’affaire Elf aurait pu siéger dans les sections spéciales de ces tribunaux spéciaux de l’Occupation). وهذا القرار عَمَّقَ المَفَاهيم، ووسّع دَلَالَات حُرّية التعبير، وحرية انتـقاد القَضاء وأَحْكَامِه. وقالت المَحكمة الأوروبية: «تَـتَـعَلّق تصريحات السيد "رُولَانْدْ دُومَاسْ" بـقضية دولة، تَسَـبَّـبَت في سَيْلٍ هائل من التعليقات على وسائل الإعلام، وأعطت معلومات تهمّ الرأي العام حول أَدَاءِ القَضاء» (Les propos de M. Roland Dumas étaient relatifs à une affaire d’Etat qui suscita un déferlement médiatique, et donnaient des informations intéressant l’opinion publique sur le fonctionnement du pouvoir judiciaire ). وهذا الحُكم يكفي للرّد على تَوَجُّه الأستاذ حكيم الذي رافع ضدّ توسيع مساحة نـقد القرارات القضائية بشكل شبه مُطلق، ومن دون إِيلَاء أيّ اعتبار لأهمية مواضيع النـقاش، وعلاقاتها بالمصلحة العامة .
أما النموذج الثاني الذي أورده، وقد أخطأ في نهايته الأستاذ حكيم، فَلَهُ أهميته. ويتعلّق الامر بِحُكْم إدانة "الرّابطة الفرنسية لحقوق الانسان" (LDH)، و "نـقابة القَضاء" (Syndicat de la Magistrature)، وجمعية (GIST)، بمناسبة البلاغ المشترك، الصّادر سنة 2015، والذي انتـقدوا فيه قرار "محكمة الاستيناف بباريس" التي رفضت لِـ "جمعية رعاية الأحداث" تَكَفُّلَهَا بِحَدَثٍ مُهاجر من بِلَاد مَالِي (Mali)، والتي انتهت بِبَرَاءَة الجميع، وذلك بتاريخ 16 نونبر 2016، بِعِلَّة أن مساحة الانتـقاد الموجه لأحكام القُضاة هو غير النـقد الموجه للقضاة. وهو الإشكال الذي تحاشى الأستاذ حكيم التطرّق له. ومن هنا يبدو أن الهَمَّ الذي كان وراء طروحات الأستاذ الوردي، ليس تَمْحِيص جِدِّي، ومشاركة مُحايدة، في نـقاش مجتمعي، لقضية التعامل مع قرارات القضاء. بل كان وراءها في نظري التَوَجُّسُ من مرحلة تاريخية يمر منها المُجتمع المغربي، وتتّسم بالتَشَبُّع والتَشَبُّث بالحُريات الفَردية والعَامّة، والتشبّث بالمُساءَلة العامّة لكلّ مسؤول، والتشبّث بالشَّفَافِيَة والاحترام في المُعاملة مع المواطن، والتشبّث بِكَوْنِيَة حقوق الانسان، وبرفض عقليات ”الديمقراطية والحريات جُرْعَة جُرعة”.
وأتمنى من الأستاذ الوردي، صاحب «أزمة تلقي العدالة»، أن يتأمّل في الأخير في ثلاثة قضايا، تتعلق الأولى بالمرحوم الملك الحسن الثاني ضد جريدة "لُومُونْدْ" (Le Monde) الفرنسية، ومديرها آنذاك السيد "كُولُومْبَانِي" (Colombani)، والتي تفوق مسألة تعليق أو نـقد لحكم قضائي، بل تتعلّق بإهانة رئيس دولة أجنبية، والذي دام حولها النـقاش من سنة 1995 إلى سنة 2002. وانتهت بصدور قرار "المحكمة الأوروبية لحقوق الانسان"، التي أدانت فرنسا بسبب انتهاكها لمادة 10 من "الاتفاقية الأوروبية"، بسبب مُؤَاخَذَتِهَا لجريدة "لُومُونْدْ" عن جريمة القَذْف في حق رؤساء الدول. وهو ما اعتبرته "المحكمة الأوروبية" انتهاكا لحرية التعبير. وعَقْبَ صدور قرار من هذا الحجم، انتهى مَصير المادة 36 من قانون 29 يوليوز 1881، المتعلق بِـ "قانون الصحافة". أي أنه انتهت «جريمة الإساءة إلى رَئِيس دولة أجنبية» (offense à chef d Etat étranger). حيثُ حُذِفَتْ نهائيا من قانون 1881. وهو الأمر الذي سَجَلَّ فيه القضاء الفرنسي، وكذلك "محكمة النَّـقض"، قـفـزةً من قفزات مجدها، لِتُعَزِّزَ مكانةَ حُرية التَّعبير ضمن الحُريات الأخرى، حتى وإن كان الأمر مرتبطا برئيس دولة. وتتعلّق القضية الثانية بالملك محمد السادس، وما اِنْتَهَت إليه عبقرية قُضاة "محكمة النّـقض بـفرنسا"، جوابا على الدّفع بعدم دستورية قانون، حيث جاء في قرارها الصادر بتاريخ 6 فبراير 2018، (وقد أعلنت ذلك أمام قُضاة العالم كلّه) أنه : «يُمْنَـع على الدول الأجنبية رفعَ دَعْوَى بالقَذْفِ أمام المحاكم الفرنسية».
الملاحظة السادسة والأخيرة:
مُنطلق الأستاذ الوردي، في حديثه عن «أزمة تَلَقِّي العدالة»، هو مُحاكمة معتـقلي مظاهرات "حِرَاك منطقة الرِّيفْ"، وشعوره بنصيبه من المسؤولية عن أدواره فيها، وَعَمَّا شَهِدَتْهُ من اخْتِنَاق، ومن احْتِكَاك، ومسؤوليته عن نتائجها، وتداعيّاتها، وردود الرّأي العام حولها. وقد كان من المفيد أن يتناول الأستاذ الوردي جانبا من نتائجها، وأن يُبدي رأيه في الملفّ، وفي المحاكمة، بعد أن انتهت مرحلة المُحاكمة الأولى، وذلك كما يفعل قُضاة في دول أخرى. حيث يثيرون نـقاشًا مُنظّما ومُؤَطَّرًا مع الجمهور من متلقي العدالة. وهذا أمر سيتم عندنا بالمغرب في القادم من القُرون! ولمّا اكتفى الأستاذ الوردي بطرح جانب غير ذِي صِلَة بِجَوْهَر المحاكمة، فذاك عَيْبٌ غير مقبول.
وأخيرا، متى نَكُفُّ يا عزيزي حكيم، عن تعليم المواطن وإعطائه الدروس، ومتى سنـقول بأننا في حاجة للمواطن، لكي نتعلّم، ونتلقّى الدروس.
ومتى يشعر المواطن أنه في غير حاجة لإثبات مُواطنته كلّ مرّة لِيَعْتَرِفَ به الآخرون. كما عبر عن ذلك الفيلسوف: "بِيِّير بُورْدْيُو" (Pièrre Bourdieu) الذي قال: «ما هو المواطن الذي يجب أن يُثبت، في كل لحظة، مُواطنته؟» (Qu est-ce qu un citoyen qui doit faire la preuve, à chaque instant, de sa citoyenneté?).

النـقيب عبد الرحيم الجامعي
الجمعة 03 أغسطس 2018