أيوب..الرهان الجائر وجدلية الايمان والتجديف(11).


ماجد الشمري
2019 / 12 / 30 - 17:57     

برهة:التجديف،الكفر،الانكار،المروق،الخ،من مظاهر الخروج على الطاعة الدينية وعصيان الرب.تلك الوهلة القصيرة العابرة،والتي رغم ذلك اثارت حفيظة الاله،واجبرته على النزوال الى الارض لمجابهة ايوب بحضوره العياني!.لم تكن تلك البرهة خطيرة او مزعزعة للايمان الايوبي،فتجديفه كان آنيا لحظي ومضي خاطف خرج من تلافيف المشاعر الملتاعة،والمضغوطة بالاحباط والاندحار المعنوي،والصدمة بغموض ولامنطقية العدل الالهي المطلقية الكمال وجوبا،وتبين انه لايرتفع حتى لمستوى الفهم البشري المتوسط لمعيارالعدالة.تجديفا تغذى من قنوط الذات المؤمنة-المشككة،وجفاف الضمير وتبلده وهو يرى القسوة الشنيعة في تعامل الرب مع عبده البار!.كفرا سايكولوجيا قح بمظاهر انفعالية،رد منفعل على انتهاك روحي شامل،اتسم بتوحش همجي دموي وبارد بلا مسوغ.انكارا تمرديا عفويا منفلتا لم يدرك انتقاله الفجائي الى الوجه الآخر للايمان،وهو التجديف السلبي المضطر المحاصر،لاذاك الكفر العقلي-الفلسفي-المبدئي،الذي يصل لقراره بتأني وتبصر، ومحاكمة منطقية او تجريبية مختبرة،استندت على قناعة وادراك ذهني مجرد عن العاطفة والهوى،دليله الموضوعية النزيهة والمعرفة العلمية.تجديفا لانوعيا من الكم الشعبي المألوف الذي يتعرض له الانسان البسيط وهو يصطدم بمظاهر تهزه وتحرفه مؤقتا عن جادة الايمان الصافي.الى تلك الخطيئة العارضة الهشة الغبية الرعناء،والقابلة ايضا للغفران والتسامح والتجاوز لانها لاتلوث العقل او الروح وتنسى ببساطة وتطوى.ولكن جذور تلك الخطيئة مغروسة وراسخة في تربة الايمان العميق،وجزءه المكمل،فهي ليست ذنبا بقدر ماهي ضرب من قول او اشارة او سلوك يخرج قليلا وينحرف عن استقامة الايمان،ولكنه لايلغيه او يدمره،بل يضببه ويجعله ملتبسا ومزعجا لطمأنينة الوجدان وسكينة الروح.ولكن مع ذلك يبقى التجديف عرضا من اعراض الايمان القلق المرتاب،ايمانا في محنة، او نتاجا لابد منه لطبيعة وبنية الاعتقاد الديني،والذي لايقابل بالمثل لاهوتيا.وهو في نفس الوقت اعترافا وتأكيدا على وجود الله في كل مكان،وتدخله في ادق واتفه التفاصيل.فلامعنى للايمان بلاكفر،ولامعنى للكفر بلا ايمان.فأن تشكك وترتاب بعدالة الرب وحكمته وحتى في وجوده،،يعني انك تتوقع عدلا وحكمة مفترضة لاتحتاج لبرهان،وعندما لاتجد مطابقا لماتنتظره من نتائج،فمن الطبيعي ان تنقلب لتعبر عن تجديفك البرزخي المجسر بين ايمانين،ايمان ماقبل الكفر ،وايمان مابعده،والقابل للتكرار والانزلاق،والتأرجح البندولي لمرات، وحسب ظروف ومواقف الانسان الديني.فالتجديف سحر وتسلط وجذب آثم،ومنزلق وعثرة حاضرة امام كل تجربة بشرية- دينية،واحتمال وارد ومتوقع في الوضع البشري الروحي-الايماني،عندما يتعرض الفرد لكم هائل من الشر والاذى،بلا ميرر او خطيئة.وقوام التجديف وهيكليته تقوم بلاشك على فكرة مجابهة الله وتحديه بنكرانه والكفر به،وهو الوجه الاكثر غلظة وفظاظة والاكثر سلبية للوجه الاخر من الايمان الديني،رغم منطقيته امام الحيف الجائر الذي يكابده الانسان من قبل القوى القدرية الغشوم-وهو فكرة الله قطعا-بين الكفر البواح،والتصديق والتسليم الايماني الابله اللاعقلاني.تلك الجدلية المتوترة المحتدمة والدائرة في حلقة الايمان-الكفر الصراعية.بين اللاهوت المتخيل،والناسوت المتجسد،تلك الاشكالية التي لن تحسم ابدا بنتيجة او طباق منبثق ينهي ذلك التناقض.ولان ايوب رجل من رجال الايمان او انبيائه،رجل اعتقاد،وليس مفكرا او فيلسوفا ليمضي بعيدا في تجديفه الى العاطفي،وتحوله الى الحاد عقلي نوعي مختار بلا عودة او ارتداد،،متحرر من الظن او التعلق.لذلك لم يطرح ايوب اسئلة لاهوتية عويصة على ربه،مثل:هل الجور هو جزء من بنية وجوهر الالوهية؟.او ماهي مصادر الشر التي تحيق بالانسان؟.وهل هي مخلوقة،او ماهية قديمة مثل الله نفسه؟.وهل الشر من الرب،او الشيطان،او الانسان؟!.وهل عدل الانسان ومعياره القانوني اكثر رحمة وانصاف من عدل الله وسننه؟.وو وغيرها الكثير من اشكالات تؤرق الانسان المرتاب والمتعطش للمعرفة والحقيقة،فضوله وضالته.لقد كان عذاب ايوب،وبتجريد،هو تمرين سايكولوجي وبأمتياز للمقاومة والصبر،مقاومة العذاب والالم،عذاب الله المسلط بعبث مجاني مزاجي،او مقصود وبرغبة سادية ملتذه بقهر الانسان.تمرين معاناة ينتهي عندما تصبح الحياة عبء ثقيل،لتشكل كما هائلا من التفاهة والعقم،وغير قابلة للتحمل او الاستمرار في العيش.حيث يكون الموت هو خشبة الخلاص،والبديل المنجي من حياة شقية منفرة.اذا كان الله مطلقا لامتناهيا،فمن المفترض والبديهي ان تكون قيمه مطلقة ولامتناهية ايضا،وبضمنها عدله وحكمته وعنايته الشاملة والمحيطة بكل مخلوقاته،ويطوي بيسر تحت جناحه العدل البشري المحدود ويحتويه بمطلقيته الالهية وتجاوزه لنسبية وقصور القيم الانسانية،واولها عدل ايوب الفردي البشري المتناهي؟!.ولكننا لانلمس ذلك حتى ولافي الحدود الدنيا،ومن هنا يقف ايوب عاجزا حائرا جاهلا،طاويا سؤاله بيأس وقنوط اسود من سلبية الاله المطلقة.
في نهاية السفر الايوبي والذي يبدو وكأنه خارج من واحدة من حكايات الف ليلة وليلة،تلك الليالي ونهاياتها السارة في اعقاب بدايات البلاء والهول،والتي تتأقلم منسجمة مع المسار النفسي المتجانس والجمعي والذي يقف بثبات عاطفيا واجتماعيا ضد انتصار الشر والخبث والظلم،وتقديس قيم الحق والخير والجمال،وانتصارها النهائي المؤكد كانتصار اخلاقي لقيم الانسان السامية ومندرجها الديني.فأيوب بعد ان كافئه ربه على صبره وخسارته الفادحة بعوض او مقابل مضاعف-هل يمكن تعويض الابناء بغيرهم كبدلاء حتى لو كانوا مشابهين لهم؟!-يمضي ايوب بعيدا ليعيش حياته الجديدة الممنوحة بكرم الله وفضله،مع عائلة جديدة مختلفة او مستنسخة اومشابهة،في ظل نظام جديد،قد يكون اقل تنظيما بكثير من النظام السابق،ولكنه اكثر اختلافا طبعا،فقد كانت جياة اخرى،وعائلة اخرى،وايوب اخر ايضا،ايوب شخصا جديدا مبرأ من المرض والمعاناة والتجديف والماضي المحزن الذي ولى وانطوى بكل حمله من اوجاع وجور قاسي. ايوب قياسي وانموذجا يحتذى ويعمم بتلك الرمزية الدينية السامقة.ربما يكون ايوب قد فقد جل اهتمامه ورغبته بالعدالة بعد التسوية الالهية التوفيقية التي انصفته-بعد دهر من الظلم!-وهذا لايعد انصافا بالمعنى الدقيق بل رشوة سافرة وثمن بخس للضر والمكابدة الطويلة التي مس بها الله ايوب؟!.ولكن هل نسى ايوب سنواته العصيبة بتلك السهولة،وبهذا الاستخفاف اللاانساني المحير؟!...
.................................................................................................................................................................................................................
يتبع.
وعلى الاخاء نلتقي...