رأي محمود أمين العالم بعبد الرحمن بدوي وحسرته على ضياع الدكتوراه.


شكيب كاظم
2019 / 12 / 28 - 02:40     

وأنا أقرأ المقابلة الفكرية المعرفية الممتعة، التي أجراها الأستاذ عبد الإله بلقزيز؛ أستاذ الفلسفة في جامعة الحسن الثاني بالمغرب، مع الأديب المفكر الناقد والأستاذ بجامعة باريس الثامنة وجامعة أكسفورد محمود أمين العالم (1922-2009)، يردفي المقابلة ذكر المفكر المصري الكبير؛ القامة الثقافية الشاهقة دارس الفلسفة الدكتور عبد الرحمن بدوي، المولود سنة 1917 والمتوفى بباريس سنة 2002،الذي كنت قد اطلعت على كتابه المهم ( قصة حياتي) الصادر سنة 2000 بجزأين نافت صفحاتهما على السبع مئة صفحة، صب فيها عبد الرحمن بدوي جام غضبه على معاصريه ومجايليه كلهم، لم يسلم من شواظ قلمه أحد، حتى من كان اختصاصه المعرفي بعيدا عن شواغل بدوي واهتماماته، فما بالك بمن كان قريبا من هذه الشواغل ومنافسا له في أمر من الأمور؟
لم يسلم من تجريح قلمه حتى الطبيب الخاص للملك فاروق، أو صوت وزير خارجية مصر ومن ثم الجمهورية العربية المتحدة؛ الدكتور محمود فوزي، إذ شبه صوته بمواء القطط وهو يلقي كلمة مصر من على منبر الجمعية العمومية للأمم المتحدة وهي تناقش قضية حرب السويس أواخر سنة 1956!
وصف كتاب (حديث الأربعاء) للدكتور طه حسين، بانه لا يؤلف وحدة موضوعية! مع أن طه حسين أسدى له معروفا لا ينسى، إذ كان من منهج كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول ( القاهرة فيما بعد) في تلك السنوات، أرسال عدد من الأساتذة إلى البلدان الأوربية؛ فرنسة، إيطالية، ألمانية مثلا خلال العطلة الصيفية لزيادة مهاراتهم اللغوية، فاستخدم طه حسين كل ثقله المادي والمعنوي من أجل إرسال طالبه النبيه عبد الرحمن بدوي مع الأساتذة إستثناء ،كي يتعلم اللغات الأوربية ويحذقها، لكنه لم يسلم من نقده وتجريحه، وإذا كان هذا حال طه حسين على الرغم من معروفه، فما بالك بالأستاذ عباس محمود العقاد، والدكتور زكي نجيب محمود، والدكتور احمد فؤاد الاهواني، وعبد الرحمن عزام أول أمين عام لجامعة الدول العربية؟!
كان انطباعي وأنا أقرأ قصة حياة بدوي، إنه شخصية جافة صعبة المراس وصح حدسي وأنا أقرأ رأي الأستاذ محمود أمين العالم المنشور في عدد مجلة (المستقبل العربي) التي يصدرها مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت (323/ كانون الثاني 2006) رأيه بالدكتور عبد الرحمن بدوي الذي عايشه وكان قريبا منه، وإذ يتحدث العالم عن دماثة خلق طه حسين واستاذيته وشخصيته الجذابة، الأمر الذي كان يدفعه إلى ترك دروسه في قسم الفلسفة لحضور دروس طه حسين في قسم اللغة العربية، وإذ يسأله الأستاذ عبد الإله بلقزيز عمن كانت علاقته سيئة معه؟ يذكر عبد الرحمن بدوي، لكن العالم يستدرك قائلا: ولكن ليست علاقتي أنا بل علاقته هو بي بل بكل البشر! لا يكلم أحدا، ويضيف تعليقا على رأي الأستاذ عبد الإله من أن بدوي كان وجوديا معتكفا بعيدا عن العلاقات العامة، يوضح محمود أمين العالم معلقا..لا لا.. ليس اعتكافا بل تعاليا، كان متعاليا جدا وإلى حد لا يطاق.
الأستاذ محمود أمين العالم يفصل بين السلوك الشخصي للأفراد، وبين الإنجاز المعرفي الذي قدموه، أمانته وموضوعيته لا تبيحان له إنكار علم بدوي وفضله وإسهامه الباهر في الفكر العربي المعاصر، مؤكداً أنه يتحدث عن الشخصية الجافة والحادة التي كأنها عبد الرحمن بدوي، وارى أن حدته وجفافه وتعاليه كانت وراء عدم إمكانه العيش بين أترابه ولداته وأبناء بلده، فغادر مصر في سنوات السبعين من القرن العشرين، متغربا نحو باريس ليموت في أحد فنادقها عازبا متوحدا متغربا مغتربا مهاجرا يوم الأحد الثامن والعشرين من شهر تموز سنة 2002.
النقطة الثانية التي أود الوقوف عندها في هذا اللقاء المعرفي الجميل، أسف الأستاذ محمود أمين العالم واساه لأنه لم يستطع إكمال متطلبات الحصول على شهادة الدكتوراه، فالعالم حيا حياة طويلة ممتدة مفعمة ومؤثرة على مستوى العمل السياسي أو التحصيل الدراسي أو المناصب الإدارية والثقافية التي شغلها، والتقى بالعديد من القادة وكبار السياسيين: جمال عبد الناصر وأنور السادات والفريق سعد الدين الشاذلي مثلا، وعقد صداقات مع كبار الباحثين والكتاب على مستوى العالم العربي والعالم، يوم ذهب للتدريس في جامعة باريس الثامنة واكسفورد: جاك بيرك ورجاء ( روجية) غارودي ومكسيم رودنسون، وكان قريبا من المفكر الماركسي لوي التوسير، وأصدر أكثر من عشرة كتب بدءا بكتابه ( ألوان في القصة المصرية)1955 ، وآخرها وليس الأخير كتابه ( مواقف نقدية من التراث) وحصل على درجة الماجستير عن( فلسفة المصادفة) التي نال عنها جائزة الشيخ مصطفى عبد الرازق، بوصفها أفضل رسالة جامعية في حينها، لكن كل هذا الذي حصل عليه الأستاذ العالم ماديا ومعنويا، لم ينتشله من وهدة الحزن ومعاتبة الذات والأيام لأنهما لم تسعفاه بنيل منية النفس والقلب؛ الدكتوراه لقد ظلت( phd) تنقصه وتنغص عليه عيشه، وإذا كان النحوي العربي الكبير أبو يحيى زكريا الفراء قال منذ أزيد من ألف عام: أموت وفي نفسي شيىء من حتى) لأنه لم يستطع فك رموز ( حتى) واستعمالاتها لغويا ونحويا بشكل واف شاف، فإني لمست أسى الأستاذ محمود أمين العالم لأنه لم يطرز اسمه ب( الدال) أو يجعل اسمه مسبوقا بها.
لقد درس ( فلسفة المصادفة) في الماجستير، وكان يمني النفس بدرس (( الضرورة في العلوم الاجتماعية) في الدكتوراه، لكن ها هي الحياة تأخذه من ما خطط له والسجن السياسي يبعده عن ما كان يصبو إليه يقول: فقد كتبت في الضرورة في النقد والضرورة في السياسة، والضرورة في التنظيم الاجتماعي، لكن المشكلة إنني لم أؤصلها ولم اجعلها رؤية منسقة علميا (..) لكني لا أزال حتى اللحظة حزينا لانقطاعي عن مشروعي الفكري، وصدقني إن ذهابي إلى فرنسة، كذلك تعييني في أكسفورد لم يغيرا من ذلك الشعور بالحسرة على مشروع لم استكمله بالمعنى الأكاديمي).
منذ زمان وجدت الحسرة ذاتها من عدم الحصول على اللقب الأكاديمي لدى أستاذي الفاضل إبراهيم الوائلي (1914-1988) الذي منعته موانع، هو أعطاها حجما أكبر من حجمها، لا بل هي هواجس وتهيؤات، عن أن يكمل أطروحته للدكتوراه في القاهرة سنة 1959، التي أنجز شطرا منها بإشراف أستاذه عبد العزيز الدسوقي، الذي لم ينلها هو الآخر، لأنه كان يرى في نفسه ما يعلو به على أساتذته علما وتمكنا، ويكفي الدسوقي فخرا أنه قدم لنا كتابه عن إخوان الصفا.
وظل أستاذي الوائلي الذي ترأس الكثير من لجان مناقشة اطاريح الدكتوراه مفتقرا الى (الدال) فما بالك بمن أمضى العمر موظفا في النفط، وكل نوازعه ورغباته واهتماماته منصبة نحو الأدب والدرس والقراءة، وظلت الوظيفة عائقا أمام ما يبغي لعدم تطابق الدرس والعمل، ولا هو بمستطيع التخلص من ربقة النفط وكأنه خبير النفط الشهير عبد الله الطريقي!
حتى إذا اكتهل وتقاعد درس الماجستير ولكن في التاريخ! وذوى واستكان لكن ما ذوت الجذوة؛ جذوة خلو اسمه من الدال وظلت تسعر في حنايا الروح والجسد.