مأزق ذهنية المحاصصة


مالوم ابو رغيف
2019 / 12 / 22 - 18:41     

كما يبدو من مجريات الوضع السياسي في العراق، اكان في بغداد او في بقية المحافظات، ان العملية السياسية وكذلك عملية الاحتجاج الجماهيرية ، كلاهما في مأزق يصعب الخروج منه.
وعندما نتحدث عن العملية السياسية، فنحن لا نقصد بها فقط العملية المتمثلة في سيطرة الاحزاب على السلطة وفق نسب المحاصصة طائفية وقومية او وفق التوافقات الحزبيية-الطائفية-القومية في توزيع مناصب الدولة العليا، بل نعني بها ايضا ذهنية الناس العامة، على اختلاف انتماءاتهم، فهي على ما يبدو لا تستطيع تخطي هذا التقسيم.
فخلال 16 سنة من الحكم وفق اسلوب المحاصصة نمت وقوت ثقافة طائفية شعبية اجتماعية عامة، ثقافة تعتمد على الانتماءات الدينية والطائفية والقومية كمعايير لمقاييس الرفض والقبول ومنح او حجب الثقة.
وفق هذه الذهنية اشترك الناس بالانتخابات ووفقها اعطوا اصواتهم ووفقها ايضا يعربون عن ارآئهم في مختلف وسائل السويشل ميديا.
حتى في هذه التي في اولها كانت انتفاضة ثم تحولت الى مظاهرات احتجاجية، كان ثقافة المحاصصة ماثلة في اذهان المتظاهرين رغم رفضهم لها، ذلك ان الناس غالبا ما تستمد ارائها من الواقع المعاش وتستند عليه في تصوراتها المستقبلية واعطاء احكامها، فالترشيح لمنصب رئيس الوزراء لم يخرج عن اطار ثقافة المحاصصة، وبقي الامر محصورا في حدود الانتماء الطائفي الشيعي حتى عند المتظاهرين بينما في لبنان لم يتجاوز حدود الطائفة السنية.
ان المشكلة الاساسية التي خلقتها العملية السياسية هي ذهنية المحاصصة والتي لا يمكن القضاء عليها دون تبني علمانية الدولة، ليس فقط بعزل الدين عن السياسة انما بعلمنة الحياة، اي علمنة العلاقات الاجتماعية بين الناس وتهديم الحواجز الطائفية التي بنتها المؤسسات الدينية والسياسية خلال سنين طويلة من الحكم الطائفي الفاسد وكذلك علمنة المؤسسات التربوية والثقافية والاجتماعية. اذ لا يمكن ان تكون الدولة ناجحة او مستقرة اذا كان الناس تسير حياتها وارتباطاتها وفق مقتضيات ومتطلبات الدين، ان ذلك يخلق تناقضا يجد تعبيرا عنه في اعتقاد الناس بان الدين هو الحل لمشكلة العدالة الاجتماعية عندما تفشل الاحزاب السياسية لفسادها او لاي لسبب او اخر في تنفيذ برامجها الانتخابية المعلنة كما حدث في مصر، حيث روج الاخوان المسلمون الا ان الفشل في ادارة الدولة كان لابتعاد الدولة عن الدين وان الاسلام هو الحل.
في لبنان مثلا، الدولة علمانية ولا دين رسمي لها، لكن النظام طائفي، اي انه مثل النظام في العراق قائم على تقسيم الشعب الى مكونات طائفية تختار نوابها وفق ذهنية المحاصصة المتجذرة في ميول الانتماء الطائفي. ان هذا التقسيم يحمل في بواطنه خطر الحرب الاهلية عند حدوث ازمات سياسية او نزاعات طائفية-سياسية كما حدث في لبنان او في العراق، واذا ما حدثت الحرب الاهلية فان المستفيد الوحيد منها هم السياسيون الطائفيون اللذين سينظر اليهم بانهم الممثلون الحقيقيون لمصلحة طوائفهم كما سيعلو دور رجال الدين ويصبحون نجوما مشهورين تفوق نجوميتهم نجومية مشاهير السينما. ان ذلك يعني ان علمانية الدولة لا تعني شيئا اذا ما كانت القاعدة الشعبية تنقسم وفق ما يسمى بالمكونات، اذ ان تقسيم الشعب الى مكونات لا يعني سوى تأسيسا للطائفية.
ان تعبير دولة المواطنة التي يرفع شعارها المتظاهرون يفقد معناه اذا بقيت الدولة تسير شؤونها وفق متطلبات الدين وترفض ما يتناقض معه كما ينص الدستور العراقي الذي يجب تغيير كثير من بندوه بما يسنجم ومتطلبات علمانية الدولة حيث الانتماء الوحيد يكون للدولة بصفتها الممثل الوحيد لكافة الناس وعندها فقط ستذوي الانتماءات الاخرى وتغدو مجرد ميول شخصية ليس لها ما يسندها قانونيا الا بما يضمن الحقوق في حرية الاعتقاد بما لا يمس حرية الاخرين.
ان المأزق الكبير الذي يجد العراقيون انفسهم فيهم، هي انهم، ولحد هذه اللحظة لم يتحرروا من ارهاصات الدين ولا من انتماءاتهم المذهبية، فليست الاحزاب السياسية وحدها التي تسمع بانتباه الى خطاب يوم الجمعة الديني وتترجى من مرجعية النجف الدينية الدعم والمساندة، انما ايضا يتابع المتظاهرن ما تقوله وما تصرح به ، وغالبا ما يُذكرون اسم المرجعية الدينية في الاحاديث التلفزيونية والصحفية او عند استطلاع اراء الناس.
هذا يعني ان الطائفية السياسية موجودة في الذهنية الشعبية، فالانتماء الديني هو بحد ذاته انتماء طائفي ايضا، وعندما نشارك الاراء والفتاوى الدينية في السياسة فاننا عندها نشرك الدين بالسياسة.
وكما يبدو، بعد استقالة عبد المهدي من رئاسة الوزراء، ان المتظاهرين ليس لهم تصورا واضحا عن شكل الدولة التي يريدونها، فهم لا يريدون اكثر من انتخابات مبكرة سيضع برلمان المحاصصة نظامها الانتخابي ويعين المفوضية الانتخابية لها. لكن ذلك لن يغير شيئا، اذ ان فكرة دولة المكونات ستبقى كما هي، قاعدة الطائفية والانتماءات المذهبية، كما ان ليس من السهل التغلب على احزاب الاسلامي السياسي المدعومة دينيا وماليا واقليميا والمتمرسة في الخداع والتزوير.