قراءة شخصية لمسار الانتفاضة الشعبية التشرينية في العراق (الجزء الثالث)....


جاسم ألصفار
2019 / 12 / 21 - 19:02     

لابد من التوقف هنا عند بعض الشعارات التي اطلقها المتظاهرون، ونبدأ بما يخص العداء لايران الذي غرسته ماكنة الاعلام البعثية الصدامية طيلة فترة الحرب الطاحنة مع الجارة ايران وما خلفته من تبعات نفسية تجذرت في المجتمع العراقي، اضافة الى الخطة الممنهجة التي اعتمدتها الولايات المتحدة الامريكية واعلنت عنها غونزاليزا رايس في بداية القرن الحالي والتي تتجسد بتحويل العداء العربي الاسلامي لاسرائيل الى عداء لايران تمهيدا لتصفية القضية الفلسطينية والتطبيع مع الكيان العنصري الصهيوني في اسرائيل.
ايران تتحمل، من جهتها، قسطا كبيرا من المسؤولية عن ما الت اليه الامور في العراق بسبب تدخلاتها في الشأن العراقي ودعمها لقوى اسلامية شيعية مرتهنة الارادة للمرجعية الدينية في ايران وولاية الفقيه، متوهمة بأن هذه القوى بأذرعها المسلحة تشكل عنصرا هاما من عناصر الجبهة المقاومة للمشاريع الصهيوامريكية في المنطقة. وهذا الوهم خلقه عجز في تفكير القيادة الايرانية في ادراك ان السلاح لوحده لن يخلق مقاومة، خاصة اذا كانت اليد التي تمسك بالسلاح تأتمر بأمر سراق المال العام وسالبي ارادة الشعب وطموحه لبناء عراق يحفظ كرامة وعزة اهله.
وتجدر الاشارة هنا الى ان ايران في العراق لا تتعامل فقط مع قوى شيعية تابعة لها بل ومع قوى شيعية تتبع في ولائها لمرجعية النجف الاشرف، وهي قوى اما صديقة او حليفة لايران ولكنها مستقلة الارادة والقرار السياسي. كما ان لايران علاقات مع قوى سنية واخرى كردية، استثمرتها ايران للمساهمة بدور بناء في الواقع السياسي العراقي، ولكن الاعتراض يبقى على سلوك ايران في استغلال نفوذها السياسي في العراق من اجل تحقيق مطامح جيوسياسية دون الاهتمام لمعانات الشعب العراقي الذي يزداد بؤسا يوما بعد يوم بسبب احزاب تتغول على حساب ثروات البلد وخيراته مضافة اليها ما تجنيه تلك الاحزاب من استثمارها لعلاقاتها مع ايران التجارية، خاصة وان ايران اصبحت بعد الحصار الامريكي الظالم عليها في حاجة لتلك الطفيليات.
والغريب، هو ان ايران، التي التزمت، على امتداد كل منطقة الشرق الاوسط من لبنان الى غزة مرورا بسوريا ووصولا الى اليمن، بتوطيد علاقات تحالف تحترم استقلالية قرار الحليف، ومقدمة الدعم غير المحدود لحلفائها في المنطقة بغض النظر عن مرجعياتهم الدينية او المذهبية، وانها كانت المضحية الاولى من اجل قضايا تلك الشعوب، والتي هي ايضا قضيتها، الا في العراق حيث تحالفاتها تحتاج الى اعادة ترتيب يعيدها الى نفوس العراقيين دولة جارة صديقة تدافع عن مظلومية الشعب العراقي المغلوب على امره.
والشعب العراقي، مهما ردح الرادحون لا يجحد دور ايران وفصائل الحشد الشعبي في التصدي لاعتى احتلال تعرض له العراق من قبل داعش ومن وراء داعش وضمان امن بغداد ومدن اخرى اصبحت بعد احتلال الموصل والرمادي مفتوحة للغزاة. علما بان ايرن مدت يد العون للعراق قبل ان تتهيأ فصائل الحشد الشعبي لتقود بسواعد ابناء العراق حملة التحرير من دنس الاغتصاب الداعشي.
وما دمنا في ذكر داعش ودور ايران ابان احتلال مدننا وانكسار جيشنا بتركيبته وقيادته المعروفتين، فهل يستوي ان يكون موقفنا على نفس المسافة ممن وقف الى جانبنا في محنتنا وقتها، وممن دعم ومول وحرض على احتلال اراضينا وتفجير مدننا. ونحن هنا لسنا فقط امام موقف اخلاقي لا يجحد فضل الاصدقاء بل وموقف سياسي يميز بين خيارين للمستقبل، فاما ان نساهم، مع كل قوى التحرر في المنطقة، في بناء وضع سياسي اقليمي يمنحنا حرية تشييد اقتصادنا ومنظومتنا السياسية دون ضغوط واملاءات خارجية، أو نضحي بحريتنا ونرهن ارادتنا لقوة عالمية لا ترحم.
اما بشأن الحشد الشعبي ودوره المزعوم في قتل المتظاهرين، فهنا لابد من الاشارة الى ان الحشد الشعبي يتألف من 67 فصيلا تختلف في مواقفها من الانتفاضة الشعبية التشرينية. وما من شك بان عدد محدود جدا من هذه الفصائل يعتبر اذرعة مسلحة لأحزاب ساهمت في نهب العراق وتدمير اقتصاده واستغلت نظام المحاصصة الاثنية والطائفية للتربع على سدة الحكم واختطاف مؤسسات الدولة، الا ان ذلك لا يصلح ذريعة لاتهام جميع فصائل الحشد الشعبي بالعداء للانتفاضة وقتل المتظاهرين.
في لجة التراشق الاعلامي بين المنتفضين والاحزاب المتمسكة بالسلطة ومنافعها، كان هناك من الطرفين من يصعد في اتهاماته وشعاراته ويثقف لنهج من شأنه دفع الاحداث الى نتائج مفجعة قد يكون بينها حرب اهلية مدمرة. فاتهام الانتفاضة بأن من ورائها بعثيون وادوات لمشروع صهيوامريكي هو اتهام تعميمي ظالم، حتى وان كان يعكس جزء من الحقيقة، يسد الطريق على اية تفاهمات يمكن ان تخرج العراق من محنته، كما انه يحرض بعض المتهورين المنتمين لتلك الاحزاب على استخدام السلاح في مواجهة المتظاهرين السلميين العزل.
وأخيرا، فإن كان نظام المحاصصة الاثنية والطائفية والاحزاب التي تشكل اركانه وطفيلياته هو المشكلة، فلابد من خلق اغلبية شعبية قادرة على تغيير هذا النظام وفقا لقواعد ديمقراطية. فليس هنالك اكثر خطرا على الانتفاضة من فكرة قتل ”الناطور"، كما في المثل الشعبي، للوصول الى "العنب". لذا يتعين على جماهير الانتفاضة أن تضع على رأس أهدافها تغيير قواعد وادارة الانتخابات وتجريم تزييف ارادة الشعب مهيئة بذلك لانتخابات نزيهة تفتح الطريق امام ممثلي الشعب الحقيقيين بمن فيهم مرشحي الاحزاب الصغيرة ومنظمات المجتمع المدني والنقابات للوصول الى البرلمان الذي نأمل ان يتحول الى اداة ديمقراطية للتغيير المنشود.