في تطور الملحمة النضالية لعرب 48


رضي السماك
2019 / 12 / 17 - 18:40     

لطالما وُصف الكفاح المسلح في أدبيات الفقه السياسي اليساري العالمي بأنه أرقى أشكال النضال ضد العدو الطبقي والوطني ، سواءً أكان هذا العدو ممثلاً في أنظمة دكتاتورية أم في مُستعمِر لأرض الوطن ، وهو وصف يتبناه حتى أشد المدافعين عن انتهاج النضال السلمي ، إن جنباً إلى جنب مع الكفاح المسلح ؛ وإن باعتماد كلا هذين الشكلين معاً أو الإقتصار على الوسائل السلمية وتحذير القوى السياسية الصديقة التي تسفهه من مغبة انتهاج الكفاح المسلح في ظروف غير مواتية لإستعماله لما في ذلك من عواقب وانعكاسات بالغة الخطورة كارثية مُدمرة على القوى النضالية بمجملها وشعبها ، وهو ما أثبتته بالملموس التجارب العديدة لأحزاب وحركات التحرر العالمية من تاريخ العالم المعاصر لا العربية وحدها ، وبخاصة خلال النصف الثاني من القرن العشرين وحيث شهد خلاله تضارباً في المواقف والتشخيص تبعاً لظروف كل حالة . وفي كلتا الحالتين النضاليتين - إن ضد الأنظمة الاستبدادية وإن ضد المستعمِر الكولونيالي - خاضت القوى المعارضة فيما بينها معارك وسجالات فكرية وصراعات سياسية محتدمة ، وعلى الأخص داخل قوى اليسار العربي ، ولا سيما على الساحتين الفلسطينية والخليجية ، بل لعلي لا أبالغ إن قلت أن التجربة النضالية الفلسطينية تعد بامتياز من أهم التجارب العربية والعالمية الغنية الخصبة والثمينة الملأى بالدروس والعِبر في هذه المسألة تحديداً .
فلئن كان انتهاج اسلوب الكفاح المسلح الفلسطيني من خارج الوطن المحتل يُشن من قِبل فصائل المقاومة بمعزل كامل عن أدنى تنسيق وتوافق مع النظام أو الدولة في البلد العربي المستقل ذي السيادة على أرضه والمحتضن لتلك الفصائل ، بل ويُشن بمعزل كامل عن القوى السياسية الصديقة وعامة شعبها في البلد ذاته ، وحيث كان يدفع أكلاف هذا الانعزال دماً وأنفساً وعمراناً في ضربات التأديب الوحشية الاسرائيلية والتي لا تقتصر على معسكرات الفصائل ولا على مخيمات اللاجئين ومناطق إقاماتهم في البلد المضيف للفصائلالمسلحة تسليحاً ثقيلا وخفيفاً بل على كامل الشعب الذي ينطلق منه هذا الشكل النضالي ضد العدو الأسرائيلي ، وكان حصاد التجربة مريراًعاد بالوبال الكارثي الذي مازالت هذه الفصائل وشعبها عامة يدفعون فواتيره الباهظة ( وأي فواتير ؟ ) منذ أكثر من نصف قرن على انتهاجه ، نقول إذا كان الأمر كذلك فإنه قلّما جرى الإلتفات عربياً ودولياً إلى شكل آخر من النضال الاستثنائي اجترح ملحمته جزء من هذا الشعب الفلسطيني ، ألا هو عرب 48 وراء الخط الأخضر داخل إسرائيل ، وحيث فرضت عليه الظروف الموضوعية والذاتية غداة نكبة 1948 أن يخوض نضالاً سلمياً صامداً صبوراً بالغ التعقيد وفريداً من نوعه في إبداع مختلف صيغ وأشكال الوسائل النضالية السلمية الممكنة ، وفي مقدمتها النضال البرلماني من داخل المؤسسة البرلمانية الأسرائيلية الصهيونية ( الكنيست ) . وقد أثبتت تجربتهم النضالية التاريخية على مدى سبعة عقود ونيف صواب اختطاطهم هذا الشكل الوحيد الممكن من النضال بما لا يدع أي مجال للشك . وكما دفع أشقاؤهم في الفصائل المسلحة وشعبهم برمته أثماناً رهيبة مرتفعة لانتهاجهم خيار الكفاح المسلح ، فقد دفع عرب 48 بدورهم أثماناً عالية وبالغة الضراوة أيضاً لجهتين : لجهة العدو الاسرائيلي بوحشيته القمعية لنضالهم اليومي من أجل تمسكهم بحقوقهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية كافة من جهة ، وأشقاؤهم الفلسطينيين والعرب بتخوينهم وحيث أطلقوا مختلف الحملات الشعواء ضدهم لتمسكهم لنجاحهم في حمل الجنسية الأسرائلية اضطراراً قسرياً بخيارهم ولخيارهم النضال السلمي وثباتهم عليه من جهة اخرى ، ومن ثم صبرهم في صمت غالباً وبرباطة جأش مدهشة على ظلم وأذى ذوي القربى منذ عام 1948 ( وأي ظلم ؟ ) .
وهكذا فقد كان اليسار العربي ممثلاً في حزب ( راكاح ) الفلسطيني داخل أراضي 48 ، وهو الجزء الذي أقامت عليه " إسرائيل " دويلتها الصهيونية العنصرية وعجزت عن طرد ما يقرب من 200 ألف فلسطيني عام النكبة ، نقول : كان هذا اليسار الفلسطيني قد أدرك في الحال وفي وقت مبكر أهمية حمل الجنسية الاسرائيلية إذا ما أرادوا حقاً التمسك بالأرض ، وليبقوا من خلالها ومن خلال وجودهم على أرضهم شوكةً في بلعوم الكيان الصهيوني ، وكشاهد قوي من شواهد عروبة هذه الارض وأهلها أمام العالم . كما ادرك اليسار في الحال إثر صدمة الواقع الجديد الذي وجد نفسه وشعبه ( عرب 48 ) غداة النكبة أهمية العمل البرلماني باعتباره من أنجع الوسائل النضالية السلمية الممكنة والمشروعة بموجب قوانين الدولة الصهيونية من اجل انتزاع ما يمكن انتزاعه من حقوقهم السياسية والمعيشية والاجتماعية والقومية ، ومن أجل الحفاظ على هويتهم العربية والدينية في ظل ظروف بالغة التعقيد ووسط محيط كبير من بحر الأغلبية الساحقة من الغزاة اليهود المستوطنين الجُدد الذين أقاموا كيانهم على أرضه وبعد ما شردوا وأبادوا جزءاً كبيراً من أشقائهم الذين كانوا بالأمس باقين متجذرين في أرض وطنهم .
لكن بسبب هذا الخيار البعيد النظر انطلقت منذ عام 1948 حملة عربية شعواء بالغة القسوة والضراوة ومن مختلف القوى القومية واليسارية الفلسطينية لتخوينهم واستمرت على ماهي عليه طوال سبعة عقود ونيف على زرع الكيان الصهيوني في أرض فلسطين العربية الحبيبة ، وإن خفت حدتها في العقود القليلة الماضية ، لا بل اقتنعت تلك القوى بأهمية وجدوى العمل البرلماني مهما كان نسبياً من داخل المؤسسه البرلمانية الصهيونية قوى سياسية عديدة فلسطينية وعربية ومن ضمنها قوى غير ذات وزن داخل جزء 48 ( إسرائيل ) ..
اليوم وقد نضجت معظم أو كل القوى السياسية الفلسطينية والعربية بلا استثناء ، بما فيها الاسلامية واليسارية التي كانت تخونهم ، وباتت هذه القوى مجتمعةً تدرك بعد نظر وعقلانية وأهمية المشاركة في البرلمان الاسرائيلي حتى على محدودية انجازاتها ، وشاركت تباعاً في الكنيست ( البرلمان ) حتى القوى الفلسطينية غير ذات الوزن في دورات عديدة متتالية منذ أواخر الثمانينبات ، فلنتخيل حال عرب 48 - قوى سياسية وجماهير عربية - بدون قرار اليسار الفلسطيني ( راكاح ) المبكر بالمشاركة في الكنيست فور تأسيس إسرائيل ، أما كان الوضع والمآل الذين هم عليه اسوأ بكثير من حالهم اليوم ، ولنتخيل مدى تغوّل وشراسة وهمجية الكيان الصهيوني بحق الشعب الفلسطيني ، أما كان أشرس همجية ووحشية وبربرية عنصرية بما يصعب تخيل مداه فوق وحشيته وهمجيته الراهنة لو تمكن هذا الكيان من طرد الشعب الفلسطيني برمته وبضمنه ال 200 ألف فلسطيني الذين تمكنوا من التمسك بأعجوبة اسطورية بالتشبث بأرض الوطن ولو داخل الكيان الصهيوني الذي وجدوا أنفسهم فيه بانتهاء الحرب بانتصار إسرائيل على الجيوش العربية ، أي بالبقاء على ارضهم التي اُنشئت عليها ( إسرائيل ) بل وتحوّل هذا الرقم إلى رقم مُخيف لكل الاسرائيليين وقادتهم بعد أن غدا عددسكانهم ينوف على المليوني نسمة ويشكلون ما يقرب 20 % من سكان " إسرائيل .