البحث عن المستقبل المفقود


حازم كويي
2019 / 12 / 12 - 08:16     

منذ اوائل التسعينات من القرن الماضي ،لم يشهد العالم شئ يماثل هذا الغضب الواسع النطاق في الشوارع كما حدث عام 2019 ، وأشار اليه أحد المعلقين في مجلة الايكونومست في بداية شهر تشرين الثاني (نوفمبر) ،في أحتجاجات جماهيرية ارهبت حكوماتها وطالت منها أيران ،واجبرت سياسيين على الاستقالة ،أخرها رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي ،سبقه سعد الحريري رئيس الوزراء اللبناني في نهاية اكتوبر ،الرئيس الجزائري بوتفليقة ونظيره عمر البشير (كلاهما في ابريل).
في شيلي لايزال رئيسها سيباستيان بينيرا في منصبه ،لكنه اضطر بعد وقت قصير من الاحتجاجات في اكتوبر بالاعلان عن أعادة تنظيم حكومته ،وفي اغسطس استقال حاكم بورتوريكو بعد الاحتجاجات الجماهيرية.
والقوة الهائلة لحركة الاحتجاجات الحالية انعكست في تدابير حكومية أتُخذت ،اشعلت التمرد ومنها الاكوادور عندما رفعت اسعار البنزين وقلصت حقوق العمال في مقابل الحصول على قرض من صندوق النقد الدولي،والذي سيعفي الاثرياء من دفع الضرائب،مما أزاد غضب الناس في الشارع وبعد فشل نشر الجيش في وقف الاحتجاجات ،اضطرت الحكومة الى تأجيل هذه الخطط في منتصف اكتوبرالماضي.
وحدث ذلك في تشيلي ولبنان بفرض الضرائب المقررة على اجور النقل و مكالمات الواتساب ،وفي فرنسا قام أيمانوئيل ماكرون بتأجيل زيادة ضريبة الوقود المخطط لها في ديسمبر 2018، بعد فترة وجيزة من بدء حركة السترات الصفراء (ظهرت في آيار 2018)،والاحداث المباشرة كهذه لم تكن سوى الزناد الذي عبر عن الاستياء الاكثر جوهرية ،فالزيادة عند التشيليون كما وصفها أحدهم لايتعلق ب30 بيزو(عملة محلية) بل حوالي 30 عاما من السياسة المضللة ومنذ زمن طويل في نموذج بلد الليبرالية الجديدة.
في عام 2019 كانت الاحتجاجات تسود مختلف دول العالم ،فرنسا ، الجزائر، كاتلونيا ،السودان ،هايتي ،غينيا ،هونك كونك، لبنان ،العراق ،ايران.وسيكون من المشكوك فرض نفس التحليل عليها جميعاً دون مراعاة الخصوصيات وعدم التجانس ويبقى السؤال الذي يطرح نفسه هو أذا ماكانت كل هذه الاحتجاجات تشترك في شئ ،واذا كان الامر كذلك ،كيف يمكن وصف هذا الشئ؟

لقد اصبحت وسائل الاتصال الاجتماعي من العوامل التي لايمكن الاستغناء عنها للاحتجاجات في القرن الحادي والعشرين ،وبعد تسع سنوات من "الربيع العربي " .
لكن المثير للاهتمام ان تبدأ وسائل التواصل الاجتماعي في استبدال الاشكال التقليدية للتنظيم السياسي مثل الاحزاب والنقابات ،حيث تفضل المناقشات عن طريق الفيسبوك على الاجتماعات ،واخذت ابعادا مع هذه الحركة التي فتحت دورات الاحتجاج الحالية الى حد ما.
في فرنسا كانت البداية مع الفيسبوك كوسيلة اتصال مفضلة ورغم فائدتها لكنها وصلت الى حدود ،بأن تجري تنسيق المناقشات وجها لوجه في شوارع المرور المزدحمة وفي الاجتماعات العامة للمندوبين.
ووفقا لصحيفة الغارديان فقد حضر في تشيلي اكثر من 15000 شخص في التجمعات المحلية منذ منتصف شهر نوفمبر(تشرين الثاني) ،يكون فيها الثقل غير العادي واضحاً لما يسمى بالقضية الاجتماعية لحركات الاحتجاج العالمية فضلا عن المطالبة بالديمقراطية رغم الاختلافات من بلد الى أخر ،الا انهما يبدوان مترابطان على الاقل في كل مكان تقريباً وهو مزيج من الغضب ازاء الاجراءات الملموسة ،واستجواب النظام السياسي برمته وعلى فرضية ترابطهما والذي يثبت انه المصدر الدائم للحركات الاحتجاجية.
وكما ذكر، فقد أثار مرسوم صندوق النقد الدولي احتجاجات واسعة النطاق في الاكوادور ،لبنان وتشيلي في زيادة الاسعار ،في ايران ،ارتفعت اسعار الغاز بين عشية وضحاها بحدة،في كولومبيا ورزمة خصخصة الحكومة لممتلكات الدولة ونظام التقاعد وألغاء الحد الادنى للاجور وتخفيضها ،وفي المقابل تخفيض ضرائب الشركات فينفس الوقت.ومع ذلك فأن التركيز على القضايا الاجتماعية لايعني أن رغبات ومطالب الناشطات النسويات او السكان الاصليين تفقد أهميتها وهو بلا شك سؤال طبقي لاينفصل عن المطالب الاخرى .
ففي لبنان يخضع النظام السياسي الى اسس طائفية ،وفي العراق تعرضت مكاتب أحزاب للهجوم كرموز للنظام السياسي المكروه، واقتحمت المباني الحكومية، وأظهر المتظاهرون مثابرة مذهلة وقدرة على التحمل في العديد من الاماكن ،رغم القمع الشديد منذ اوائل أكتوبر.
وعبر الناشطون التشيليون في العاصمة سانتياغو انهم لن يعودوا الى الحياة الطبيعية (لن نعود الى الحياة الطبيعية ،لان الحياة الطبيعية كانت مشكلة)وفي هذه النقطة يؤكدون على الثورة وكجزء من الثورة في جميع أنحاء العالم.
ويرى الكثير من اليساريين ان موجات الاحتجاج العالمية هي أثبات ان تنظيمات الحركات العمالية الكلاسيكية والنقابات وباشكالها التقليدية قد قيدت بهذا الشكل او ذاك على الاحتجاجات،حيث توصف هذه الحركات في بعض الاحيان وفي هذا السياق بأنها دون قادة منظمين والذين يسيطرون على الشارع والتي بنيت في وقت قصير، ولكن حالة تشيلي على سبيل المثال تجهل، انه رغم مايقال عن مفاجئات الاحتجاجات الاانها كانت تقاد من النساء والطلبة والسكان الاصليين منذ السنوات الاخيرة ،ومع ذلك كما حصل في بعض الانتفاضات، يبدو فيها وكأنها ليس لديها مراكز تنظيم مع تصرفات تلقائية .
ومن الواضح ان الجيل الجديد يبحث عن أستراتيجيات وادوات لسياسات يسارية واجتماعية ناجحة وكما يحصل الان في اميركا من ضغوطات العمال على الاحزاب القائمة مثل حزب العمال في بريطانيا والحزب الديمقراطي في اميركا.
ففي بلدان الشمال حيث حاربت الليبرالية الجديدة النقابات واليسار في عهد تاتشر وريغان في الثمانينات واعلن عنها في تسعينات القرن الماضي ،تشهد عودة رائعة كالولايات المتحدة ،وعلى عكس الترامبية ،باستعادة تدريجية للخصوصيات العمالية ،وهذا يدل على ان اشكال التنظيم لاتزال لديها ماتقدمه ،فهي تجعل من الممكن تحويل التجارب المشتركة الى استراتيجيات واعدة .
ويبقى السؤال بكيفية النجاح امام الحركات الاحتجاجية التلقائية الجديدة ،كون الباب لايزال مفتوحا ومن حيث التزامن لكلا التطورين ، من حيث رفض الاشكال التقليدية للتمثيل السياسي في العديد من الاماكن ،وعودة النقابات وتنظيم الحزب الجديد في بعض الاماكن ،مع الاخذ بنظر الاعتبار تجنب التوقعات المبكرة حول التعبير التدريجي والتنظيم اليساري للمستقبل.
الانتفاضات في عام 2019 سقط فيها الكثير من الضحايا ، وحسب وكالة فرانس برس فقد قتل في العراق وحده اكثر 400 شخص وجرح الالاف في هذه الاحتجاجات اضافة الى المعوقين منهم.
وعلى الرغم من القمع الذي تمارسه السلطات ،الاانه لايمكن ابعاد الناس عن الشوارع ،فالاحتجاجات كبيرة وفي مختلف القارات وبشكل واسع ،متفائل ودائم ومثير للاعجاب ،فالمرأة السودانية التي صعدت على السيارة وهي تهتف امام الحشود وتلقي القصائد من اجل الفرح ،او الزوجان المقنعان في تشيلي وهم يرقصان التانغو امام الشوارع المحترقة والالاف من النساء اللواتي يقمن بادائهن الخاص ضد العنف الجنسي ،او المحتجين السلميين في العراق الذين يقدمون عرضا مسرحيا كما حدث في البصرة مرتديا جهاز تنفس وخوذة وهو يشغل كرسياً فاخراً ،حيث توزعت هذه الصور كالفيروس وشُوهدت ملايين المرات في مختلف انحاء العالم ،لماذا ؟ لان هذه الصور تمسنا وتثير اعجابنا ،وتوضح ان غطرسة عالم دونالد ترامب ،وجايربولسونارو(رئيس البرازيل) قوبلت بشجاعة وتضامن .
وفي العراق ولبنان والسودان تغلبت حركات الاحتجاج على الانقسامات الطائفية والعرقية ،والتي اعتمد عليها الحكام في العقود الاخيرة ،وكانت النساء ومازلن على رأس هذه الاحتجاجات ويظهر ان عصر هيمنة النيو ليبرالية ينحدر الى نهايته ، ومن ناحية اخرى يحاول اليمين المتطرف ايجاد بدائل له تحميه استبداده للفراغ السياسي الناشئ وهي بدائل غير مصاغة بشكل شامل وتبقى فقط حدساً.
مع ذلك فأن البحث عن المستقبل الضائع قد بدأ منذ فترة طويلة.
نيللي توغال
ترجمة وأعداد : حازم كويي