الطبقة العاملة والتحول السياسي


محمد الخباشي
2006 / 5 / 26 - 11:26     

لا يستطيع أحد أن يدعي أن الطبقة العاملة اليوم هي كمثيلتها في القرن التاسع عشر أو العشرين. ليس من المعقول مقارنة العامل الذي كان يشتغل بجهده العضلي والبدني بالعمل الذي يدير ألة كتطورة بأقل جهد.
تطور وسائل الإنتاج أحدث تطورا وتغييرا في بنية الطبقة العاملة ومكوناتها. وانتقال النشاط الرئيسي للبرجوازية من قطاعات الإنتاج المباشر للسلع، إلى هيمنة قطاع الخدمات والمصارف وطغيان الاوليغارشية المالية على النشاط الاقتصاد العالمي، تحولت معه بنية الطبقة العاملة التي أصبحت غالبيتها تتكون من يد عاملة مؤهلة، ومتركزة في قطاع الخدمات...
ولكن ليس بمقدور أحد أن يدعي أن استغلال الرأسمال للعمل قد انتفى، فالعامل الذي كان يتعرض لأبشع أنواع الاستغلال في القرن 19 استطاع عبر نضالات مريرة أن يحسن شروط عمله وحياته، واستطاع تحقيق مكاسب إضافية. صحيح أن ظروف العمل الآن لم تعد كما كانت في السابق، لكن هل انتفى الاستغلال تماما؟
هل انتفى الصراع الاجتماعي وانتهى الاستغلال فلم يعد هناك مجال لنضال الطبقة العاملة من أجل المجتمع البديل؟.
يمكن أن نسلم أن درجة الاستغلال قد انخفضت حدتها حيث تمكنت الطبقة العاملة أن تحسن شروط حياتها.
ولكن يظل الاستغلال قائما. اشتغال العامل بوسائل تقليدية أو يدويا يمكنه من إنتاج محدود ينال من غلة عمله كأجر نزرا قليلا. وتطور وسائل الإنتاج ضاعفت كثيرا مردودية العمل، وأصبح العامل ينتج أكثر بجهد اقل فهل ينال ما تستحقه قوة عمله؟.
وتظل بذلك كل مبررات النضال من أجل مجتمع بديل، تنتفي فيه كل أشكال الاستغلال، قائمة.
أخطاء التجارب السابقة، وقدرة الإمبريالية على بسط نفوذها على العالم، وقدرة البرجوازية أن تتجاوز أزمتها على الصعيد العالمي وعلى صعيد الدول المتقدمة بتنكرها لمبادئ وأسس الثورة البرجوازية، جعلت العديد من الحركات السياسية التي كانت تدعي أنها تحمل مشاريع انفكاك الطبقة العاملة من الاستغلال والظلم، يغيرون جلدهم إما كليا أو جزئيا. ولا يدخل في دائرة اهتمامي من انتقل من موقع المدعي لحمل هموم الطبقة العاملة إلى موقع العدو. ما يهمني هو كيف ينظر دعاة الاشتراكية إلى نضال الطبقة العاملة. انهيار المعسكر الاشتراكي وسقوط جدار برلين، ونهاية التاريخ والهيمنة الإمبريالية بزعامة البغل الجامح في أمريكا، أصبح الشماعة التي تعلق عليها كل ذرائع الاستسلام. لماذا يصر البعض على أن التطور التكنولوجي والمعلوماتي و....إلخ أصبح يفرض ضرورة إعادة النظر في النظرية الاشتراكية والماركسية عموما؟ متى كانت الماركسية عاجزة –كنظرية- عن فهم ما يجري الآن من تطور علمي وتقني و...؟ الجمود الفكري والعقائدي ليس كامنا في النظرية الماركسية ولا في الطبقة العاملة، بل في التعبيرات السياسية والفكرية الناطقة باسمها، أي أن العيب ليس في الاشتراكية، بل في الاشتراكيين، لم يكن بمقدوره استيعاب المتغيرات اليومية والديناميكية التاريخية لحركة الصراع في المجتمعات؟. إذا كانت الماركسية كنظرية قد استوعبت ذلك و تمكنت من فهم العالم وتفسيره ومن تم تغييره، فكيف تعجز عن ذلك في الوقت نفسه؟ أمر غير منطقي. لنكن صرحاء وأكثر جرأة كي نقول أن جمودا فكريا التصق بمسيرة بعض الحركات أو جلها وخرجت عن خط تطور التاريخ فتجاوزها. وهناك من لا زال بيننا، من يدعي الشيوعية والاشتراكية والماركسية وإيديولوجية الطبقة العاملة، لكنه يصر ألا يرى فيما يجري حوله إلا لونا واحدا. هناك من أصابه الحول السياسي أو الدالتونية السياسية، فعجز أن يرى ما تحققه الشعوب من انتصارات عظيمة، فلا يرى إلا جموح البغل الأمريكي والعربدة الإمبريالية. والعالم اليوم مليء بالأمثلة المضادة لشعوب واصلت نضالها وتقهر "القوة العظمى" للإمبريالية. لنعد إلى الوراء قليلا. ففي أوج الأزمة الخانقة وسقوط جدار برلين وسقوط صرح الاتحاد السوفياتي، اشتعلت انتفاضة الشعب الفلسطيني عام 1987، وفي بداية التسعينات تنامت الحركات الاحتجاجية في العالم، ونشطت حركات مناهضة الرأسمالية في العالم بعد توقيع اتفاقية المنظمة العالمية للتجارة. وتمكنت دول صغيرة من الصمود وحيدة كاليتامى، وكوبا أكبر نموذج. والآن بدأت شعوب أمريكا اللاتينية توجه اللطمات واحدة تلو الأخرى لمصاصي الدماء ولليانكي الأمريكي. شعوب تستيقظ في أوج العربدة الأمريكية وتنتفض. والمصابون بالحول السياسي عوض أن ينظروا إلى هذه الانتصارات، ينظرون إلى اليانكي الأمريكي وبيادقه في باقي أصقاع العالم.
وما حدث في فينزويلا من صراع بين أمريكا وبيادقها وبين قوى الشعب الفينزويلي، ألا يستحق أن ينظر إليه؟
ألا يشكل أي مؤشر بالنسبة لقادتنا الاشتراكيين والشيوعيين من الجيل المصاب بالخور والهون؟ وهاهو الشعب البوليفي لم ينس دماء غيفارا، فانتفض ببطولة وأريحية وصمد إلى أن انتخب ابنه موراليس، وتشكلت نواة لمناهضة الهيمنة الإمبريالية في أمريكا اللاتينية بين الدول الثلاث: كوبا، فنزويلا وبوليفيا، والبقية ستأتي.
وفي أصقاع مختلفة من العالم هناك شعوب لم تستسلم ولم تقهرها الإمبريالية، على الأقل لازالت لم تستسلم.
فما بالكم بمن استسلم وهو لم يواجه قط، لم يبدأ الجرب بعد‼. المشكلة الحقيقية أن الطبقة العاملة لا زالت بعيدة عن معمعات الصراع الاجتماعي في أبعاده السياسية. في بلداننا العربية لم تتخندق الطبقة العاملة بعد، حيث لا زال الصراع في حدوده الدنيا للعمل النقابي الضيق. ولذلك عوامل وأسباب أستطيع أن أوجزها فيما يلي:
1- ارتبط تشكل الطبقة العاملة بنشوء قطاعات صناعية هامشية وغير أساسية، فتحولت شرائح معينة من المجتمع التقليدي، الذي كانت تسود فيه أنشطة تجارية معينة وفلاحية ورعوية....الخ، إلى يد عاملة في المدن. ولم تستطع هذه الفئات أن تقطع مع أصولها الريفية والبدوية وما تتضمنه من أمية وروابط تقليدية وعقلية زراعية عسيرة القابلية للتنظيم.
2- ضعف بنية الاستقبال لدى الحركة التقدمية المدعية لحمل هموم الطبقة العاملة، سبب ذلك عدم تجدر الفكر الماركسي في المجتمع المغربي كمجتمع تقليدي تطغى عليه الروابط القبلية والدينية والعشائرية... وتشكلت أحزاب ومنظمات سياسية متخلفة تنظيميا رغم تبنيها للفكر الماركسي إيديولوجيا. أدى ذلك إلى انكفاء ونكوص هذه الحركات. فعوض أن تكون هذه المنظمات نموذجا مصغرا للمجتمع البديل، حافظت على نفسها كنسخة مصغرة للمجتمع القائم بكل تجلياته (الرواسب الثقافية والدينية، لا ديمقراطية التنظيم والتسيير...).
3- طبيعة الأنظمة السياسية القائمة التي ليس بمقدورها أن تعيش وتستمر إلا في أجواء القمع واللاديمقراطية والاستبداد. وضيقت مجال ممارسة الحريات وضمنها السياسية. ونظرا للهوة الشاسعة بين هذه الأنظمة وبين طموحات الشعوب، لا يمكن أن تسمح هذه الأنظمة بنزر قليل من الديمقراطية لأن اللاديمقراطية طبيعتها وشرط استمرارها. هذه مسلمة يعرفها الجميع واقتنع بها من أمضى سنوات طوال في غياهب السجون ومعسكرات التعذيب والقتل والمنافي... الخ. يعني ذلك أن حركة تسعى أن تبني الاشتراكية لا يمكن أن تنتظر من نظام مستبد أن يفتح لها ذراعيه. والحقيقة أن القمع لا يمكن أن يشل حركة إلا إذا كانت قابلة للشلل من دون قمع. الدليل القاطع هو أن الحركات صلب عودها وازداد نفوذها في فترات القمع الأسود، ولما انفرجت الأجواء السياسية نوعا ما، بدأت بالتراجع عكسيا إلى أن أصبحت شبه منعدمة، أمثلة كثير من التاريخ، تدل على أن الحرية السياسية لم تكن شرطا للقدرة على تعبئة الجماهير الشعبية ومنها الطبقة العاملة. ونسأل إن كانت القوى الاستعمارية ديمقراطية وسمحت لحركات التحرر الوطني بتعبئة الشعوب ضدها. ونسأل أيضا إن كانت الأنظمة القائمة في بلدان عرفت تجارب معينة، إن كانت ديمقراطية وسمحت بالديمقراطية حتى تمكنت قيادات الثورة من الظفر بالسلطة السياسية‼.
ووفقا لما سبق، هل يجوز أن نقول أن الطبقة العاملة في وضعها وظروفها الحالية، لا يمكن أن تقود الثورة؟ للأسف هذا ما ادعته بعض الحركات من خلال شعار "الطليعة التكتيكية" الذي انتهى إلى "تجربة الحلم والغبار". وفي الوقت ذاته لا يمكن أن تسلم بشعار لا تعلن عنه البرجوازية الصغيرة بل تمارسه سرا وهو "أن الطبقة العاملة لا يكن أن تقود النضال" (شخصان وحدهما يمكن أن يتذكرا هذه العبارة وهما من كان يقولها وشخص ذكره بذلك في رسالة من فرنسا).
الطبقة العاملة هي الوحيدة القادرة تاريخيا وواقعيا، على قيادة نضال الشعوب من أجل التحرر والانعتاق. ولا ينتقص ذلك من قدرة الشرائح الأخرى، ودورها في معركة التحرر. إلا أن نضالا لا تقوده الطبقة العاملة، بفكرها المتقد وموقعها في الإنتاج وبالتالي في الصراع الاجتماعي، لا يحسم المعركة، وإذا حسمت لا تضمن شروط الاستمرار. وشرط قيادة الطبقة العاملة أن تستقل بفكرها وتنظيمها، أي بقيام حزب ثوري طليعي وأكدت التجارب أن الأحزاب الشيوعية القائمة في الوطن العربي بشكلها الحالي تتجه نحو إنهاء سبب وجودها بنفسها. وكلها تحمل الأسباب الكافية لتسميتها بأحزاب البرجوازية صغيرة كانت أو متوسطة. ومعظمها قفز على أسس التنظيم الثوري. وتحول إلى ضيعات سياسية وإقطاعيات سياسية، وتحولت إلى كيانات تواجه عوالي الزمن، لا تحمل من الشيوعية إلا الاسم.
ولذلك لا بد من ولادة جديدة لفكر شيوعي ثوري عمالي ينفض الغبار ويكنس ما خلفته السنين، وإحياء تضحيات الرعيل الأول من الشيوعيين العرب بأخطائهم وانتصاراتهم. وتفتح آفاق نضال جديدة وسط الشباب والشبيبة العاملة... وفعلا بدأت لبنات أولى تبرز في نواحي مختلفة من العالم ومنه العالم العربي. لا بد من جيل جديد من الشيوعيين يقطع من الرواسب السلبية للماضي المرتبط بالنموذج المنهار أو المرتبط بنموذج فكري يستنسخ في أدمغة المتشيعين الذين استنسخوا ظاهرة الفرق الكلامية وطبقوها على الفكر الماركسي. وهي ظاهرة غير صحيحة تمس جوهر الفكر الماركسي والمنطق المادي الجدلي. جيل قادر على تجاوز الدوغمائية والتجمد الفكري والشيوعية المستندة على التبعية وعبادة الشخصية. جيل قادر على جعل الأحزاب والمنظمات نموذجا مصغرا وحقيقيا لمجتمع الغد من خلال العلاقات التي يجب أن تسود فيه.