مشروع قيس سعيد: تغيير النظام أم ترميمه


محمد المثلوثي
2019 / 11 / 28 - 01:07     

في ظل السيطرة المطلقة للرأسمال (كعلاقة اجتماعية) على مجمل الحياة الاجتماعية وبسط نفوذ أسلوبه المباشر في الإنتاج على كل أساليب الإنتاج التقليدية واستيعابها ضمن آليات تراكمه، أصبح الفرد منعزلا عن الوسائل الواقعية لتحققه الفردي، وذلك بعزله اليومي عن وسائل انتاج حياته الخاصة. ولعل أهم مظهر لهذه العملية التاريخية هو عزل البشر عن الأرض ومن ثمة دفعهم للنزوح القسري نحو المدن حيث يشكلون ذرات فردية لا تملك غير بضاعة قوة عملها لتدخل به حرب المنافسة التجارية الشاملة. في مقابل ذلك أصبح التحكم في إنتاج الحياة الاجتماعية للأفراد محتكر من طرف طبقة خاصة في المجتمع، بل إن الرأسمال قد أصبح هو من يملي احتياجاته على هذه الطبقة نفسها، لتتحول المصلحة العامة هي ذاتها مصلحة الرأسمال، ولتتحول كل الحياة الاجتماعية الى تحقيق للتراكم الرأسمالي. وهكذا تلخصت الإدارة الاجتماعية (إدارة الشأن العام) في إدارة شؤون الرأسمال. فأصبح الاقتصاد هو الدائرة المركزية التي يدور حولها كل النشاط الاجتماعي الفرد الى كائن اقتصادي محض وحولا شؤون الإدارة الإدارة الاجتماعية الى هوس ملاحقة نسب النمو، نسب التضخم، نسب الضرائب، نسب الديون، نسب الاستثمار...الخ. وبذلك تحولت هذه الإدارة الاجتماعية الى مجموع طلاسم وألغاز اقتصادية لا يفهمها غير الخبراء وما يسمى بالتكنوقراطيين، وصار الشأن العام اختصاصا حصريا لمحترفي السياسة ليجد غالبية الأفراد أنفسهم غرباء عن هذا "الشأن العام" الذي يظهر بالنسبة لهم كشيء متعال، بل ومتعارض مع الشأن الخاص بكل فرد.
وهذا التعارض بالذات بين "الشأن العام" و"الشأن الخاص"، أو بتعبير آخر، هذا التعارض بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة هو ما جعل المصلحة العامة لا تبدو تحقيقا طبيعيا للمصلحة الخاصة بكل فرد، بل كدائرة مستقلة بذاتها، كقوة إكراه مسقطة وغريبة. وهكذا تظهر الإدارة العامة لا بصفتها التقاء طوعيا بين الأفراد، بل كسلطة فوقية موجهة ضدهم ولتحقيق مصلحة متناقضة مع مصالحهم الحيوية كأفراد. ذلك أن هذه السلطة إنما تخفي تحت قناع المصلحة العامة مصلحة طبقية خاصة هي مصلحة الطبقة السائدة.
لكن تلك المصلحة الطبقيىة، والتي تجعل من الإدارة العامة إدارة لشؤون تواصل سيطرتها على المجتمع، لا يمكن أن تتحقق إلا بوسيلتين متعاضدتين، وسيلة القوة المباشرة من خلال أجهزة القمع (بوليس، جيش، سجون...)، ووسيلة التدجين، أي بإدماج الأفراد ضمن تلك المصلحة الطبقية الخاصة بإظهارها كمصلحة عامة.
ولعل أهم وسيلة إدماج اجتماعي هي ايهام الأفراد بأنهم يشاركون في الإدارة العامة من خلال انتخاب ممثلين عنهم، يحيلون إليهم مهمة تسيير هذه الإدارة العمومية. وبذلك إيهامهم بأن وجود ممثل عنهم في هذا المجلس أو تلك الإدارة سيجعل من الإدارة العامة تمثيلا لمصالحهم الخاصة، ومن ثمة إخفاء الطبيعة الطبقية لتلك الإدارة العامة، وإخفاء كونها في الواقع إنما تمثل إدارة للسيطرة عليهم وإخضاعهم.
وهكذا فإن تحديد طبيعة الإدارة الاجتماعية لا يكون من خلال النظر في شكلها (نظامها السياسي والإداري، طريقة الانتخاب....)، بل من خلال الكشف عن مضمونها الطبقي الذي تعبر عنه. فإذا كانت الإدارة العامة تمثل في الواقع تجسيدا للمصلحة العامة للرأسمال، ومنه للمصلحة العامة للطبقة السائدة، مثلما أسلفنا، فإن اتخاذها لهذا الشكل أو ذاك لن يغير من طبيعتها تلك، بل أن هذا الشكل، وكلما اتجه نحو ما يظهر أنه إتاحة فرصة أفضل للأفراد في المشاركة ومنحهم حرية أكبر في اختيار "ممثليهم"، وإيجاد آليات أمثل لضمان شفافية وفعالية مشاركتهم تلك، إنما يجعل من قدرة النظام الاجتماعي السائد أفضل في عملية الإدماج الاجتماعي للأفراد، ومن ثمة يزيد في التمويه عن الطبيعة الطبقية للإدارة العامة. ولعل أفضل طريقة لإدامة استغلال واضطهاد الطبقة المسحوقة هو بجعلها مساهمة في التشريع وإدارة نظام الاستغلال ذاك.
فهل سيغير من طبيعة النظام إن كانت الانتخابات مثلا تقع على الأفراد بدل القائمات؟ وهل فعلا أن الانتخاب على الأفراد، مثلما جاء فيما يسمى "مشروع قيس سعيد" سيرسي "حكم الشعب"؟
لنجيب عن هذا السؤال علينا الإجابة عن سؤال آخر: من الذي يحكم بالفعل؟
سنغض النظر منهجيا عن مصطلح "الحكم"، والذي يشير الى وجود حاكم ومحكومين، وهذا ما يجعل مصطلح "حكم الشعب" نفسه بلا معنى، ذلك أنه عندما "يحكم" الشعب فعليا فإن الحكم نفسه يصبح لاغيا بما أنه لن يعود هناك محكومين.
لكن يحكم فعلا؟ إنه لا شك ذاك الذي يحوز على وسائل الحكم. وما هي وسائل الحكم؟ إنها وسائل القوة المادية والرمزية. وبذلك فغن من يحتكر وسائل انتاج الثروة الاجتماعية هو في الواقع من يملك القدرة على الحكم. وهكذا فإن موضوع الحكم هو ليس سوى التعبير عن موضوع الملكية الاجتماعية لوسائل الإنتاج المادي والرمزي. فها أن الانتخابات، مهما كان شكلها، هي من يحسم موضوع الملكية؟ طبعا الإجابة هنا بديهية، ليس فحسب لأنه لم توجد ولن توجد انتخابات لتحديد من يملك وسائل الحكم الفعلية (الثروة والسلاح)، بل خاصة لأن أسلوب التوزيع الاجتماعي لوسائل الإنتاج يحدده أسلوب الإنتاج نفسه وليس الانتخابات. وفي ظل أسلوب انتاج رأسمالي فإن ملكية وسائل الإنتاج هي ملكية طبقية حتى وإن تم تمويهها في شكل ملكية الدولة، وذلك قبل الانتخابات وبعدها. وهكذا فإن من يحكم محدد سلفا، ليس كإرادة طوعية جماعية، بل كسيطرة طبقية.
اذا فما الذي تحدده الانتخابات؟ إنها تحدد المتصرفين الوقتيين في إدارة الحكم، أي أنها تحدد الفئة الخاصة من السياسيين المحترفين التي ستدير حكما طبقيا موجود سلفا.
وهل أن جعل الانتخابات تقع ضمن دوائر صغيرة، كما يعرض مشروع قيس سعيد، وخلق مجالس للإدارة المحلية، كفيل بحد ذاته بإنهاء الحكم الطبقي السائد؟
سنغض النظر أيضا عن كون موضوع ما يسمى بالمجالس المحلية والجهوية موجود، وبالتفصيل، ضمن الدستور التونسي الجديد في باب ما يسمى الحكم المحلي، وأن عدم تطبيقه يعود، إضافة لأسباب كثيرة يطول شرحها، الى كون أن المهام المفترضة لهذه المجالس المحلية تعود في أغلبها للمجالس المنتخبة بدورها. فهل أن وجود مجالس محلية أو بلدية يمكنه أن يجعل من هذه المحليات صاحبة القرار؟ الإجابة عمليا تأتينا من المجالس البلدية الموجودة فعلا، والتي تحوز قانونيا على استقلالية القرار واستقلالية مالية مهمة، بل ويفرض عليها القانون اتخاذ قراراتها في اطار ما يسمى "التشاركية"، أي مشاركة المواطنين في اقتراح "المشاريع". ورغم كل تلك الترسانة القانونية فإن هذه المجالس البلدية فعليا تقوم فحسب بما تقوم به الدولة من خدمات عامة طبيعية وضرورية في اطار النظام الاجتماعي السائد وضمن ضوابطه العامة.
لكن لو عدنا للقرارات المصيرية والحاسمة المتعلقة بطبيعة أسلوب انتاج وتوزيع الثروة الاجتماعية، بطبيعة الانتاج نفسه وإن كان موجها من أجل الربح أن للتلبية المتوازنة والمتضامنة للحاجات الفعلية للمنتجين الحقيقيين للثروة، بطبيعة ما ننتجه إن كان يراعي مبدأ المردودية الاقتصادية (أي ما يدره من أرباح) أم مبدأ المردودية الاجتماعية، أي ما يحققه من رفاه وراحة وشروط حياة أفضل، يعني القرارات المتعلقة بالاختيارات الاقتصادية والاجتماعية العامة، فمن يملك عمليا حق اتخاذ مثل هذه القرارات ؟ إنه ذاك (أولائك) الذي يملك وسائل الإنتاج. بل يمكننا أن نذهب أبعد ونقول أن مثل هذه القرارات قد تم اتخاذها سلفا، إذ أنها لا تعدو أن تكون املاءات الرأسمال واحتياجاته لمزيد التراكم وتوسيعه. ذلك أن الرأسمال لا يقف فقط بصفته ملكية طبقية لوسائل الإنتاج، بل بصفته علاقة اجتماعية سائدة. فالنظام البضاعي هو الذي يملي قراراته لا على الطبقات المسحوقة فحسب بل على مالكي الرأسمال أنفسهم، وتلك هي شروط الاغتراب الاجتماعي المعمم حيث تظهر القوانين الاقتصادية للرأسمال كما لو أنها قوانين طبيعية لا يمكن المساس بها أو تجاوزها. وهكذا تظهر المجالس المحلية، أو ما يسمى الحكم الذاتي بصفتها إعادة توزيع شكلية لحكم الطبقة السائدة ومنه لإنتاج وإعادة انتاج النظام البورجوازي السائد.
من الصحيح تماما، مثلما تعلمنا دروس الهزائم الثورية السابقة، أنه من الأمور المفصليه التي تحدد مصير الثورة الاجتماعية، ومدى قدرتها على التقدم في تغيير حقيقي للنظام السائد هو مبادرة الجماهير الى الانتظام المحلي في اطار مجالس تسيير ذاتي، وربط شبكة تلك المجالس في اطار شامل وطوعي وفق خطة عامة. غير أن وجود مجالس محلية لا يمكن أن يعبر عن حالة ثورية أو عن "حكم الشعب" إلا في سياق ثوري، أي في سياق مبادرة الجماهير نفسها بإنشاء هذه المجالس كأداة من أدوات صراعها ضد الطبقة السائدة ونظامها الاجتماعي، ومن ثمة كوسيلة تغيير اجتماعي حقيقي ينبع من إرادة الجماهير لا "كمشروع" مسقط من فوق، ومن أين؟ من أكثر مؤسسة تعبر عن الطابع السلطوي للنظام السائد، مؤسسة رئاسة الجمهورية بالذات وما ترمز له من مركزية وفوقية.
أخيرا فإن "حكم الشعب" يستوجب مسبقا أن يحوز "الشعب" على وسائل "الحكم"، أي على وسائل إنتاج الثروة الاجتماعية، ومن ثمة حيازة القدرة على تغيير أسلوب إنتاج وتوزيع هذه الثروة. لكن هذه الحيازة الجماعية لوسائل الإنتاج غير ممكنة بدون التصادم الثوري مع التملك الطبقي الخاص لهذه الوسائل الإنتاجية، وهو ما يعني حتميا التصادم مع الدولة بصفتها التعبير الأقصى للاحتكار الطبقي للثروة والسلاح من طرف الطبقة السائدة. وضمن هذا السياق الثوري المتصادم مع النظام الرأسمالي نفسه بكل أشكال نظامه السياسي والإداري، فإن الشكل التنظيمي الذي يمكن أن تتخذه الحركة الجماهيرية، النابعة من قاع المجتمع لا من قصر قرطاج، لن يمثل هوسا شكلانيا يطمس المضمون الواقعي، بل سيكون تعبيرا عن طبيعة تلك الحركة الثورية، والتي ستجد في وضعها الطبقي الخاص، وفي ظروف تطور نضالها، المادة الضرورية لبناء تنظيمها الذاتي الذي يعبر عن تحررها بنفسها لا انتظار يسوع المخلص.
في الواقع فقيس سعيد لا يفعل شيئا سوى ايهام الناس بأنه يمكنهم أن ينجزوا ثورة بدون القيام بها، بأنه يمكنهم أن يغيروا النظام بدون المساس بأساساته، بأنه يمكنهم أن يتخلصوا من أعدائهم الطبقيين بدون أن يخوضوا معركة ضدهم...