أيوب..الرهان الجائر وجدلية الايمان والتجديف(8).


ماجد الشمري
2019 / 11 / 20 - 18:24     

قد يكون جل ماذكرناه من كلام الله اعلاه،او كله مجتمعا صالحا لتفسير رواية ايوب العبرانية.ولكن على الجانب المحاذي الآخر يعتقد الكثير من الباحثين في الاديان،وكما يظن الاغلب من المؤمنين بالعهد القديم ان:سفر ايوب هو قصة موجهة ودعائية عن الايمان القويم،والعدل والحكمة الالهية السامقة والعصية على الافهام البشرية الادنى-مع انه ليس ثمة من عدل ولاحكمة في موضوع ايوب ابدا لكل من يحتكم للعقل الفاحص!-ولاعجب في ذلك.فعلى مدى تاريخ الكنيسة المتخم بالتبريرات والتفاسير والتأويلات التي تلوي عنق العقلانية والمنطق لصالح النصوص والمنقول والاعتقاد الدوغمائي،وايضا قراءات الاحبار والكهنة،ومؤسسات اللاهوت المسيطر،بأرجاع السفر الايوبي الى الاصل في الحكاية الشعبية الشفاهية الموروثة.فقد تدبروا جيدا نحت السفر وقولبوه،فجرى تشذيبه،واختزاله،بأستئصال الجزء الاوسط من السفر-ذلك الجزء الحيوي المتعلق بالتمرد والشك والتجرء على الله،والذي يشكل خطورة وتحديا-مما يقلل او يخفف من شأن الخلاف والتقاطع والخصومة والتوتر والتطاول بين ايوب والله.ويحول السفر -بل حوله!-الى مجرد حكاية كباقي الحكايات الوعظية البسيطة عن الايمان الراسخ والصبر على المكاره والعودة الى احضان العناية الالهية الرؤوم والتسليم بقضاء الله،وكأمثولة تربوية مدرسية مؤثرة على الجموع المؤمنة والتي يجري تلقينها وتعليمها بقصة الاثابة والتعويض بعد الامتحان والخسارة.والتي تعلن وتعلم ان:جوهر الايمان هو التسليم والقبول والخنوع امام تدبير وقدرية ومشيئة الله،خيرا كانت ام شرا،نعمة او نقمة،عطاءا او ابتلاء.فلا اعتراض،لااسئلة،لامراجعة او تفكير او تأمل.طبعا هنالك من تعامل مع النص الديني-طبعا- بموضوعية وحياد،وتحليل منطقي صريح، اداتها العقل-ومنهم مارتن بوبر-ولكن اغلبهم التزموا كلاهوتيين وباحثين،بخط الايمان القويم،ومن داخل دائرة اليقين المؤمن،ليستخلصوا من ثم العدل الالهي كحقيقة،تأويلا ومجازا.ويسلم البعض،وانسجاما مع ايمانهم،بلوي عنق التأويل بأتجاه يقيني حرفي،وتجنبا لكل مايثير الريبة ويزرع التشكيك،بنبذه ووضعه في سرداب الظل المعتم ك"لامفكر فيه".
فيما يتعلق بالرهان الالهي-الشيطاني في مفتتح النص الايوبي،وماترب عليه من الموت الفعلي لابناءه،وابادة عبيده ومواشيه.كل هذا لايمحي او يتجاوز الرهان الجائر والمتعسف بين الله والشيطان،وتنافسهما العبثي للانفراد بالانسان،وجعله لعبتهم السخيفة ومادة للتسلية،وقتل الوقت والملل.فالرهان حصل في بدء السفر،وتمت تصفية ابناء ايوب وعبيده،وسرقة كل مواشيه،وفوق كل ذلك،انزال الداء الجلدي الخبيث-الجرب-بجسد ايوب بعد ان اصبح وحيدا،ولايملك شيئا.فهل هو امتحان ام انتقام؟!.ذبح وقتل الابرياء دون جريرة او جرم،ومصادرة الحيوانات كلها،وسماح الله للشيطان بتعذيب ايوب بالمرض الجلدي الفتاك.كل هذا لايمكن انكاره،ومن العسير الغاءه،وهو بلالبس،مايشكل ادانة صريحة وتجريم لله وملاكه الساقط وتحالفهما معا في تدبير المؤامرات والمحن ضد الانسان.فأيوب وبلا شك كان بريئا لم يرتكب خطأ،ولايستحق اطلاقا ماحدث له او حل به.فأين العدل الالهي والحكمة في مصيبة ايوب ومحنته الفادحة؟!.مهما بحثنا وفتشنا لن نجد ابدا مبررا لما فعل الله به.انه الرهان التافه لاغير هو المبرر!.ولكن هل دعوى الرهان تبرر الجريمة،بل الجرائم التي ارتكبت بحق ايوب وابناءه وكل مافقده؟!.يبدو ان الله كخالق يملك حقا مطلقا بالعبث واللعب بمخلوقاته دون مسؤولية اومنازع او مشارك!. لو نظرنا بتمعن وحيادية،فلن نجد الا ايوب ،الشخص الوحيد الجدير بالاحترام والتقدير والاعجاب،فقد استطاع ان يقف شامخا متحديا انفا صلبا نبيلا شجاعا،لم تهزه النكبات التي توالت عليه،واخرها جسمه الذي نهشه الجرب،فاثبت بذلك ان الانسان من السهيل ان يتحطم،ولكنه لايقهر او يهزم الا اذا اراد ذلك.فأيوب كان الذروة في الصبر واحتمال الشدائد،لم يهن او يذل او يستسلم.ولكن عندما انبرى اصدقاءه السذج،لتفسير محنته الكبرى بأدخالها بمعميات عقلية-ايمانية ملتبسة،كتجلي للعدالة الالهية يقيني مصدق،وارجاع نظام الرب وحكمته غير المدركة بشريا،لعجز الانسان الضعيف القاصر عن فهم مقاصد الله ومراميه.اظهر ايوب حنقه وثورته،وافصح ببيانه الذي كبته طويلا بصبره وجلده.يصف الفيلسوف-الحواري-الصوفي-الحسيدي،والذي ولد في فيينا ومات في القدس"مارتن بوبر"-وهو شاهد من اهلها_يصف ماهية التناقض والصدام بين ايوب واصدقاءه التبريريون،كتقاطع صدامي،بين:أيوب وايمانه الوجداني بالله،والذي لايملك غيره،وبين دين اصحابه الاشد تمسكا بحرفية النصوص،بين الايمان المفتوح،والايمان المغلق:"اقبلوا الان بحثا عنه على كومة رماد دينه".معاناة ممتدة لسنوات،تقابل بذلك البرود الالهي المتحجر.كان هناك ربان:رب ايوب الحي القاسي اللامبالي،وبدلا منه يعرض له صحبه من خلال الدين الرسمي الكهنوتي،ربا مختلفا،عقلانيا معقولا،وحكيما بمقاييس غامضة،ومجهولة ولامنطقية،الوهية لايدركها او يفهمها ايوب،لافي وجوده الفردي الخاص ولا في العالم،ولايمكن ان يوجد-بلاشك-الا في مكان مغلق،هو ميدان الدين،والذي له نمطه الثابت والمحدد،وبالضد من اصحابه،يعلم ايوب جيدا ان العدل هو مفهوم وفاعلية انسانية لاعلاقة لها بالله،فهو يدعيها ويشاءها نظريا دون التزام بممارستها،فافعاله تعارضها حقيقة وبالصميم.
فشتان بين العدل المجرد،والعدل العياني المتحقق.فعندما يقال،وبمجانية لامسؤولة:ان الله عادل بجوهره،بينما نجد ان افعاله جائرة ومتعسفة،فما معنى ذلك؟!انه بلاشك قمة في المغالطة والتناقض الفج،ولاسبيل لحل هذه الاشكالية العويصة بمنطق عقلاني متوازن بين الاعلان النظري المثالي:الله عادل،وبين الفعل الملموس:الله ظالم،والغارق بالبشاعة التيل لا يهضمها الانسان،ناهيك عن المقدس!.يصف بوبر بحث ايوب المضني عن العدالة في العالم،ليصل الى الحقيقة السلبية المرة،الا وهي فقدانها او عدم وجودها،ليكتشف اخيرا انها داخل ذاته فقط ولاوجود لها في الخارج،فهي موجودة في الذات الانسانية و هي الوحيدة التي تميز وتعرف الفرق بين العدالة والظلم اخلاقيا،وخارج الاله والدين.فكروا في ايوب،وقبل وصول اصدقاءه،كان الاله الايوبي الخاص،يبدو اكثر نسخ الالهة غموضا وابهاما وغيابا لفرض الطابع الانساني على الكون.ولكن بعد حديث اصحابه،نجد ايوب مقتنعا بفكرة ان المرء:قد يربح حينا ويخسر حينا آخر،وعليه ان يتحلى بالصبر وهو يتلقى الضربات الموجعة ثابت الجنان،محتفظا بكرامته كانسان لاينيخ لمزاج القدر،ويكون جاهزا لتبدل الاحوال وفجاءيتها،فالريح قد تهب من الجبال وتطيح ببيتك وتسحق احبابك،وتترك ثقبا في السماء بدلا من المنارة!.يصر اصدقاء ايوب على ان العالم منظم جيدا والعدالة قائمة ينشرها ويحرسها الله بحكمته من خلال كونه العظيم المخلوق والمنسجم،والذي يعمل وفق مشيئته ونواميسه،واجراءاته المنصفة بمعاييره.ولكن ايوب لايعقل ذلك ولا يستوعبه،لان تلك السمات-وكما يوضح بوبر-تخصه هو اكثر بكثير مما تخص سمات العقل الكوني،سمات الله.يعد بوبر سفر ايوب واحدا من ابرز الاحداث الخاصة في الادب العالمي،نشهد فيه اول الباس للبحث البشري لبوس الكلام.حين يظهر الرب في النهاية،فأنه لاينكب على اسئلة ايوب المتعطشة للاجابة،والمتصلة اساسا بسؤال العدالة وماهيتها،وبدلا من تبديد الحيرة والتزود بالمعرفة،وعوضا عن بسط العدالة الالهية وتقريبها لذهن ايوب القلق،يترك الله كل ذلك،ويقدم عرضا مترعا بالغرور والاستحسان الذاتي،لخلقه المدهش من الاسرار والمفارقات والغرائب، ومخلوقاته المتنوعة،والتي يتبجح باستعراضها الفخم وبكبرياء قداسي منمط:من اين جاءت البشرية؟.من اين جاءت الارض؟وبقية الترهات!.
..............................................................................................................................................................................
يتبع.
وعلى الاخاء نلتقي...