بوب مارلي، -النبي- المتمرد وإيقونة الريغي (3)


عبد المجيد السخيري
2019 / 11 / 20 - 05:22     

الجزء الثالث

الهوية والتعلق بإفريقيا،
أو الحلم بالعودة إلى المهد

تقاطعت فلسفة مارلي مع انتشار ظاهرة "الهيبيزم" في الستينيات من القرن الماضي، وأحيانا نظر إلى هذا الأمر باستغراب لكون الفنان ابن عسكري بريطاني ولا يناسبه اعتناق أسلوب تمردي وتبني قضية "العالم الثالث"، كما كان يطلق عليه آنذاك، والتحريض على مقاومة القهر في كل مكان ومواجهة الغرب الامبريالي العنصري. كان مارلي، مثل أغلب الكاربيين والأفارقة الأمريكيين، منشغلا بسؤال الهوية والبحث عن الجذور، بحكم أنه ولد من رجل أبيض فصل من الجيش وعاد إلى وطنه بريطانيا بعدما اضطر للتخلي عن زوجته وابنه بعد مدة قصيرة بسبب ضغوط العائلة، وقد تشرّب قصص وتاريخ أسلاف والدته، كما كان أكثر انشغالا بقضايا التحرر من الهيمنة وبالصراعات في الجزيرة التي رأى فيها النور( جمايكا) المدينة بوجودها في النهاية للعبيد الذين استقدمهم بالقوة والغصب المستعمرون الأوروبيون البيض، هؤلاء العبيد الذين ظلوا يحلمون بالعودة يوما ما إلى موطن أسلافهم رغم إلغاء العبودية. ومثل كثير من ذوي الأصول الإفريقية، ستكون أفريقيا بالنسبة لمارلي هي الأرض الموعودة، وسيكون العالم الغربي المهيمن هو "بابل" في المخيال الجمعي لضحاياه. وقد تأثر في هذا الباب بمواطنه ماركوس غيرفي الذي كان يعمل من أجل عودة السود إلى إفريقيا وتوفي دون أن يضع رجليه في القارة السمراء، غير أنه اعتبر" نبيا" من قبل أتباع الراستا و داعية كبيرا للوحدة الإفريقية واستنهاض الوعي الزنجي (توفي في العاشر من يونيو 1940، خمس سنوات قبل ميلاد "النبي" الجديد مارلي).
استحوذ حب إفريقيا على قلب وعقل مارلي وتعلق، مثل عديد من شباب جمايكا، بعبادة هيلي سيلاسي، وقد يبدو هذا الأمر غريبا بالنسبة لشاب متمرد وناقد شرس للظلم والسيطرة والعبودية، لكن الأمر مفهوم بالنسبة لمن وجد في هذه الشخصية تجسيدا لروح المسيح وتجليا لعظمة افريقيا. وكان سيلاسي قد استقبل بحفاوة عام 1966بجمايكا ولم يتسن لمارلي المشاركة في هذه اللحظة الفاصلة من سيرة أتباع الراستا بسبب انتقاله للعيش مع والدته بالولايات المتحدة، شهرين فقط قبل وصول "معبوده" ولن يراه أبدا بعدها، غير أنه غنى له Selassie is the Chapel سنتين بعد ذلك. وبعد موته سنة 1975 سيكتب أغنية جديدة تخليدا لذاكرته بعنوان Jah Live، ثم سيكتب أغنية War التي استوحى كلماتها من خطاب شهير لل"جاه" بالأمم المتحدة سنة 1963، وصدرت عام 1976 بألبومRastaman Vibration ، بينما لن يتحقق حلمه بزيارة أثيوبيا سوى في عام 1978، هذا البلد الذي كان يعتبر بالنسبة لمارلي بمثابة الوطن الروحي لديانة الراستا، هناك حيث يحتفل الآلاف بذكراه ويتدفق على الاحتفالات معجبون من كل مكان وهم يلوحون بالأعلام الحمراء والخضراء والذهبي. وقبل شهور قليلة من وفاته، عمد في الكنيسة الأوتودوكسية الأثيوبية باسم برتان سيلاسي. ومعروف أنه منذ أواسط القرن الماضي جاء العديد من الراستافاريين إلى مدينة شيشمان، الواقعة على بعد حوالي 250 كلم جنوب العاصمة أديس أبابا، استجابة لدعوة العودة إلى الأرض الموعودة، وكان الجمايكيون أول من لبى النداء ولحقهم آخرون من باقي المجموعات الكاريبية ومن الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا وبلدان أفريقية كساحل العاج والكونغو. في سنوات السبعينيات تكثف التزام الفنان بالقضية الإفريقية وعكس في عدد من أغانيه حلم العودة إلى إفريقيا كما في أغنية " راستامان" وألبوم "إكزوديس"، مثلما غنى من أجل وحدة أفريقيا وحرية شعوبها كما في Africa Unite، وكان يقول أنه إذا كانت موسيقاه تتوجه إلى الانسانية فإن قلبه ينبض من أجل إفريقيا. وتبقى أغنية "زينبابوي" أهم ما كتب في نهاية العقد دعما للغوار في كفاحهم ضد النظام العنصري لروديسيا الجنوبية، بعدما تمكن أخيرا من زيارة وطن الحلم في نوفمبر 1978، كما كثف من نشاطه في دعم الثوار والتنظيمات التحررية ماليا وفنيا من أجل تحرير إفريقيا. وفي حوار مع التلفزيون الفرنسي بتاريخ 19 نوبير 1978، سيؤكد مارلي على أهم مبدأ يقوم عليه التزامه السياسي-الديني، وهو" أن تكون راستا معناه أن تقاتل طيلة حياتك من أجل الحياة"؛ ففي الراستفارية تمنزج الفلسفة بالدين والسياسة في وحدة لا تنفصم.

مسيرة المجد والشهرة

لم يوجد فنان في العصر الحديث في مجال الموسيقى بلغ ما بلغه مارلي من كاريزما وتبجيل جلعه أقرب إلى الرمز الديني أو النبي. ففي بلده جمايكا بدا أقرب إلى "إله حي" كما كان يقال، ووريثا لملهما الراستفارية، ماركوس غيرفي وهيلي سيلاسي، ولا يضاهيه مثل هذا المقام سوى شخصيات من عالم السياسة، كتشي غيفارا وغاندي ومارتن لوثر كينغ وغيرهم. فقد حول مارلي موسيقى الريغي إلى ظاهرة ثقافية عالمية في مدة زمنية قصيرة وجعلها من بين الألوان الموسيقية الأكثر تأثيرا في القرن العشرين. ولخصت صحيفة نيويورك تايمز مكانة مارلي في تاريخ الموسيقى بقولها أنه الفنان الأكثر تأثيرا في النصف الثاني من القرن العشرين، بينما اختارت صحيفة تايم ألبومه Exodus كألبوم للقرن العشرين.
تميز مارلي بموهبته الموسيقية والفنية التي جعلته يؤلف بنفسه كلمات أغانيه ويلحنها ويؤديها رفقة أعضاء فرقته الأولى "الويلرز"، ومن ثم فهو كان يعكس في هذه الأغاني كل ما يعتمل في نفسه من مشاغل سياسية ووجودية وروحية، متوسلا لذلك أسلوبا متميزا بالبساطة والشفافية، سواء تعلق الأمر بكلمات الأغاني أو الألحان والأداء. ويرى المهتمون بظاهرة مارلي بأن سر نجاحه يكمن في هذا الأسلوب بالذات، حتى أن موسيقى الريغي توصف بأنها من البساطة بمكان مقارنة مع الألوان الموسيقية المعاصرة أو من عائلتها، ويضاف إلى ذلك أيضا المضمون الملتزم لأغانيه الذي جعل الجماهير في كل مكان ترددها بفخر وإباء، وقد غنى للسلام والحب كما غنى للحرية والعدالة والتمرد. فمارلي ينتمي بهذا المعنى إلى تقليد الموسيقى الاحتجاجية التي تألقت في زمنه، وقد مثل بأسلوبه ونوعه الموسيقي الجديد أحد أبرز أصواتها وممثليها في العالم. ولم تكن مسيرته الى الشهرة والمجد مفروشة بالورود، إذ عركته الحياة في سن مبكرة بسبب غياب الأب واضطرار الأم لتدبر تكاليف عيشها وتربية ابنها الأول، وانتقالها إلى العيش بالولايات المتحدة بعد زواجها الثاني،هناك حيث سيفتح مارلي الشاب عينه على واقع جديد يعج بالعنف العنصري والاستغلال الرأسمالي، ويتعرف عن قرب على حركات السود ونشاطهم السياسي، ومنها حركة الحقوق المدنية التي قادها مارتن لوثر كينغ، وقد عكس ما عاشه في هذا الباب في أغنيته Buffalo Soldier. وهناك أيضا سيواصل العمل في مهن هامشية لتوفير ما يلبي حاجاته اليومية وكل ما يتعلق باحتياجاته الجديدة في الموسيقى، قبل أن يعود إلى جمايكا ويستأنف مسيرته الفنية مع فرقة الويلرز بعد إعادة تشكيلها. وعلى المستوى الفني الصرف لم تلق الأغاني الأولى التي سجلها وبلغت ما يناهز 300 أغنية النجاح المأمول، فيما كان عليه أن ينتظر سنة 1973 ليتذوق طعم النجاح والصعود إلى مراقي النجومية مع أغنيته الملتزمة الشهيرة No woman no cry التي تتحدث عن العنف في الجيتوهات الأمريكية.

(يتبع)
حررت مادة هذا النص نهاية شهر أكتوبر 2018