من أجل إعادة بناء استراتيجية الحروب الوطنية الثورية ضد الحروب الإمبريالية


الأماميون الثوريون
2019 / 11 / 19 - 01:25     

شكل كتاب "في التناقض"، الذي كتبه ماو تسي تونغ في 1937، أداة أيديولوجية، اعتمدها اليسار الماركسي السبعيني، في الحركة الماركسية ـ اللينينية المغربية، خاصة منظمة إلى الأمام، في تناولها للقضايا التنظيمية، النضالية، السياسية والاقتصادية، في صراعها ضد الدولة الكمرادورية، كما تسمى في أدبياتها، باعتبارها أداة لتمرير السياسات الإمبريالية بالمغرب، كغيره من البلدان المضطهدة.
وكان للحزب الشيوعي الصيني، في صراعه ضد التحريفية، بالحزب الشيوعي السوفييتي، أثر كبير في اعتناق أفكار ماو من طرف الماركسيين اللينينية، خاصة بعد انتفاضة 1968 بفرنسا، التي لعب فيها "الماويون" دورا كبيرا، مما جعل فكر ماو حول الثورة، ينتشر لشكل كبير في صفوف الماركسيين اللينينيين، خاصة المنسحبين من الأحزاب الشيوعية، التابعة للحزب الشيوعي السوفييتي.
وبعد تأسيس المنظمات الماركسية اللينينية، تم اعتبار الثورة الصينية، نموذج الخلاص من سيطرة الإمبريالية، ذلك ما كان واضحا في أدبيات منظمة إلى الأمام، خاصة في وثيقة "الثورة في الغرب العربي في مرحلة تصفية الإمبريالية"، التي صدرت في 1971، ووثيقة "المرحلوية أو النيومنشفية"، التي صدرت في 1976، اللتين تم تناولهما بالنقد في كتابات سابقة.
وكان تاريخ المنظمات الماركسية اللينينية المغربية، خاصة منظمة إلى الأمام، مليئا بنكسات عميقة، إن على مستوى التنظيم، والصراع داخل الحركة الماركسية اللينينية المغربية، أو على مستوى قمع الدولة البوليسية الدموية، مما جعلها تعطي الكثير من التضحيات، دون إنجاز المهمة الأساسية، التي وضعتها في أفقها الثوري : بناء الحزب الماركسي ـ اللينيني المغربي، الكفيل بقيادة الثورة المغربية.
فبعد 50 سنة، من الصراع والإحباط، مازالت هذه المهمة لم تتحقق، خاصة بعد استشهاد القائد الثوري عبد اللطيف زروال في 14 نونبر 1974، والذي ساهم بشكل كبير، في بناء الطريق الثوري للثورة المغربية، الذي يتجلى في العديد من الوثائق، التي تناولت مسألة التنظيم، في علاقتها بالنضال الثوري، في استراتيجية الثورة، في علاقتها باستراتيجية بناء الحزب الثوري.
إن الوضع المأساوي، الذي تعيشه الحركة الماركسية ـ اللينينية المغربية، كما هو الشأن في جميع البلدان المضطهدة، التي تتواجد بها أنوية المنظمات الماركسية ـ اللينينية، يستوجب الوقوف على مكامن الخلل، التي تعمق أزمة التنظيم في أوساط الماركسيين اللينينيين المغاربة، نتيجة انتشار الجمود العقائدي في صفوفهم، عبر مغالاة من يحاولون انتساب الحركة الماركسية ـ اللينينية وخاصة منظمة إلى الأمام، إلى "الماوية"، بشكل تعسفي، مما يركز الانعزالية في صفوفهم، الشيء الذي يطرح تناول القضايا الأيديولوجية في الثورة الصينية، بالنقد العلمي المادي، في علاقته بإعادة بناء الطريق الثوي للثورة بالغرب الإفريقي، في علاقتها بالحروب الوطنية الثورية بالبلدان المضطهدة، ضد الحروب الإمبريالية، في علاقته ببناء الأحزاب الماركسية ـ اللينينية بهذه البلدان.
ذلك ما نتوخاه في هذه المحاولة، التي نضعها بين أيدي القراء الأعزاء، خاصة منهم الماركسيين اللينينيين، والتي لا نعتبرها متكاملة، بقدر ما تشكل مجالا حيويا، لطرح عدة تساؤلات عميقة، نشارك جميعا في حلها النسبي.

حول نظرة سلامة كيلة للديالكتيك

قام الكاتب سلامة كيلة في تقديمه لكتاب "في التناقض" لماو تسي تونغ، بتناول مسألة التناقض باعتباره أحد قوانين الديالكتيك الماركسي، وقال عن هذا الكتاب :"هذا نص مهم، لأنه يبحث في مسألة التناقض."، ويقدم لنا الكاتب في تقديمه هذا ماو على أنه أدخل إضافات على أحد أهم القوانين الأساسية للديالكتيك الماركسي، الذي وضعه ماركس وإنجلس وطوره لينين على مستوى المعرفة والفلسفة، وقال الكاتب :"ولا شك أن ماو تسي تونغ قد قدم إضافات مهمة في هذا البحث، أي تعدد التناقضات."، انتهى كلام الكاتب، وهذه المقولة ليست علمية، حيث لا وجود ل"تعدد التناقضات" في الواقع الموضوعي، إنما تعدد أشكال التناقض مع تعدد مكونات المادة والحركة، فالتناقض كقانون لا يتجزأ، حتى يصبح متعددا لا نهائيا كجميع الأشياء، فهو قانون يحكم جميع الأشياء في الطبيعة والمجتمع، في المادة والحركة، وهنا يبدأ طرح الكاتب لمسألة التناقض كقانون أساسي، وهنا يبدأ قلب الجدلية، مما يجعلها تمشي على رأسها.
ولتأكيد قوله حول إضافات ماو، يقول أنه "ميز، من ثم، بين الرئيسي والثانوي فيها، كما أنه دخل في تفصيلات عن الطرف الرئيسي في كل تناقض، ومركز التداعي فيه، إضافة إلى الإشارة إلى عمومية التناقض وخاصيته، وإلى الوحدة والصراع بين طرفي التناقض نتيجة تعدد التناقضات."، كما جاء في مقدمته، وأكد أنه يجب اعتبار الرئيسي والثانوي فيه "وبالتالي من الضروري فهم الرئيسي والثانوي فيها، وكيفية التعامل مع كل منها ومن أجل حسم التناقض الرئيسي."، كما جاء في قوله.
إن اعتبار الكاتب عمل ماو هذا "إضافات مهمة"، إنما يدخل في مجال محاول توسيع رقعة الكتابة في هذا الشأن، في تراكم من الكلام الذي لا يفضي إلى تراكم كيفي، في انعدام تام للقدرة لدى الكاتب، على تحريك ما هو أساسي في خلاصات ماركسي حول الديالكتيك، وفي هذا القانون بصفة خاصة، أما القول ب"إدخال إضافات" على هذا القانون، فهو يأتي ضمن جهل الكاتب لمعنى القوانين الأساسية، في الطبيعة والمجتمع، في المادة والحركة، التي لا يمكن تحريكها، لكن يمكن فقط اكتشافها وتطبيقها في الطبيعية والمجتمع، في المادة والحركة، ليس من أجل تغيير هذه القوانين في حد ذاتها، إنما من أجل إحداث التغيير في الطبيعة والمجتمع، عبر تحريك التناقض داخل الحركة، مع العلم أن لا حركة بدون مادة كما قال إنجلس.
والقول ب"إدخال إضافات" على هذا القانون الأساسي، هو جهل بطبيعة هذا القانون التي لا تتغير، لكن الذي يتغير هو مجال تطبيقه في علاقته بالقانونيين الآخرين : النفي ونفي النفي والكم والكيف، مما يحدد نوعية التناقض في كل مجال على حدة، لكن ضمن الحركة التي تميز المادة، أما الحديث عما هو رئيسي فيه وما هو ثانوي، إنما يأتي ضمن اللعب بالكلام حول جدلية الأشياء، والتناقض بصفته قانون الحركة الموجودة في المادة : الواقع الموضوع، في الطبيعة والمجتمع، موجود على شكل العملية الجدلية التي تجري في جميع تفاصيل المادة والحركة، وفي جميع مجالاتهما، ويمكن تناول مجال معين حددناه سلفا للدراسة باستعمال الجدلية، من أجل تحديده في ما هو رئيسي في الحركة وما هو ثانوي فيها، ومن منظور قانون التناقض في علاقته بالقانونيين الأساسيين الآخرين، وهنا لا تجري عملية الجدلية في حد ذاتها على التناقض بعينه، فالرئيسي والثانوي موجودان سلفا في كل شيء، وقانون التناقض يشملهما، كما يشمل جميع مكونات المادة والحركة، وهما ليسا معطيين مطلقين، إنما الرئيسي والثانوي موجودان في علاقة جدلية، ويحكمهما التناقض في الصراع بينهما، وفي الصراع داخل كل واحد منهما، بحكم العلاقة بين العام والخاص الموجودان في كل الأشياء في المادة والحركة، في الطبيعة والمجتمع.
والعلاقة الجدلية التي تربط العام بالخاص، الجوهر بالظاهر، الرئيسي بالثانوي ...إلخ، موجودة في كل شيء في الطبيعة والمجتمع، في المادة والحركة، وليس هناك خاص مطلقة وعام مطلق، ففي كل خاص عام، كما أن في العام يوجد الخاص، وفي الخاص يوجد العام، في علاقة جدلية لا متناهية، كما قال لينين في كتابه "حول الديالكتيك" :"... فالخاص غير موجود إلا في العلاقة التي تؤدي إلى العام. والعام غير موجود إلا في الخاص، عبر الخاص. كل خاص له طابعه العام )بهذه الصورة أو تلك(. وكل عام هو )جزء أو جانب أو جوهر( من الخاص. وكل عام لا يشمل جميع الأشياء الخاصة إلا في وجه التقريب. وكل خاص لا يشترك تمام الاشتراك في العام، إلخ، إلخ .. كل خاص يرتبط عبر آلاف الدرجات الانتقالية بعناصر خاصة من طبيعة أخرى )أشياء، ظاهرات، تفاعلات(، إلخ ..".
أما تناول مفهوم التناقض في علاقته بالرئيسي والثانوي، إنما يندرج ضمن الجدلية الموجود في المادة والحركة، في الطبيعة والمجتمع، أما القول بأن هناك تناقض أساسي أو رئيسي أو مركزي والتناقضات الثانوية، ليس باكتشاف علمي، لكون التناقض في ما هو رئيسي يختلف في ما هو ثانوي، وتجمعهما العلاقة الجدلية في ظل الوحدة بينهما، في التناقض والصراع، التي تنطبق على كل الأشياء في الطبيعة من عالم الذرات إلى عالم المجرات أو ما يسمى في الفيزياء L’infiniment petit et l’infiniment grand، العالم اللامتناهي الصغير والعالم اللامتناهي الكبير، وفي المجتمع من أبسط العلاقات الاجتماعية اليومية إلى أعقدها في حالة الثورات الاجتماعية.
والكاتب يريد أن يحول عمل ماو، من مستواه البسيط في الديالكتيك، الموجود أصلا في جميع الأشياء في الطبيعة والمجتمع، في المادة والحركة، إلى مستوى عال من الاكتشافات العلمية في المعرفة الماركسية، وبهذا يحدث تشويشا في ذهن القارئ، عبر اللعب بموقع الرئيسي والثانوي في المادة والحركة، وإخراجهما من الواقع الموضوعي، وإسقاطهما على أحد القوانين الأساسية للحركة في علاقتها بالمادة، ويقول أنه يقوم بإزاحة التشويش، الذي تم نشر في صفوف الشيوعيين بالصين، وفي الحركة الماركسية ـ اللينينية عامة، لكنه لم يفعل غير تعميق هذا التشويش.
والتناقض باعتباره قانون أساسي في الطبيعة والمجتمع، في المادة والحركة، موجود في الرئيسي، كما هو موجود في الثانوي، في العلاقة الجدلية بين الرئيسي والثانوي، وليس في "التناقض الرئيسي" و"التناقض الثانوي"، وهنا يكمن الخطأ، ويحصل التشويش في ذهن الكاتب، فالتناقض قانون، وهو موجود بشكل أساسي، من بين القوانين الثلاثة الأساسية في المادة والحركة، في الطبيعة والمجتمع، التي حددها العلم المادي الماركسي، أما إضافة صفة الرئيسي والثانوي لقانون التناقض، فهو عمل يحمل معه مغالطة ولبس وجب كشفهما، من أجل إزاحة التشويش في ذهن القارئ، إزاحة القول غير العلمي في المعرفة الماركسية، كالقول ب"التناقض العام" و"التناقض الخاص"، و"التناقض الجوهري" و"التناقض الطاهري"،...إلخ، فنقول إنه اكتشاف جديد في علم الماركسية.
أما القول بالوحدة في ظل التناقض والصراع بين الأضداد، فهو مسألة بديهية وليست اكتشافا، فالذرات، الجزيئات، الأجسام ... الأقمار، الكوكب، الشموس، المجرات ... أو بصفة عامة : المادة، كما قال عنها لينين : "المادة مقولة فلسفية للإشارة إلى الواقع الموضوعي"، فالوحدة موجودة في شكل، الوحدة في ظل التناقض والصراع بين مكوناتها، وكل مكون موجود في شكل الوحدة في ظل التناقض والصراع بين أجزائه المتناقضة ... هكذا إلى ما لا نهايته.
قال لينين في هدا الصدد في كتابه "حول الديالكتيك" :"... كل هذه أيضا نتائج لجهل الديالكتيك، كل ما لا يتغير، من وجهة نظر إنجلس، هو أمر واحد فقط، هو عكس الوعي البشري )عندما يكون الوعي البشري موجودا( للعالم الخارجي الموجود المتطور خارج وعينا، لا وجود في نظر ماركس وإنجلس لأي "ثابية" أخرى، أو لأي جوهر "مطلق" آخر بالمعنى الذي رسمت به الفلسفة الأستاذية هذه المفاهيم. فإن "كنه" الأشياء أو "الجواهر" هما أيضا نسبيان، وهما يعربان فقط عن تعميق المعرفة البشرية للمواضيع، ولئن كان هذا التعميق لم يمض أمس إلى أبعد من الذرة، واليوم أبعد من الإلكترون والأثير، فإن المادية الديالكتيكية تلح على الطابع المؤقت، النسبي، التقريبي لجميع هذه المراحل من معرفة الطبيعة من قبل العلم المتطور المتقدم لدى الإنسان. إن الإلكترون لا ينضب مثله مثل الذرة، والطبيعة لا متناهية، ولكنها توجد إلى ما لانهاية، إن هذا الاعتراف القاطع الوحيد، بوجودها خارج وعي الإنسان وأحاسيسه هو الذي يميز المادية الديالكتيكية عن اللاعرفانية النسبية وعن المثالية."
إن الكاتب من خلال هذه المقدمة يبحث عن طريق للتميز، في ظل الحركة الماركسية ـ اللينينية، وبشكل فج، من أجل الوصول إلى هدفه الأساسي، وهو أن البلشفية تم تجاوزها من طرف الثورة الصينية، وبالتحديد في أعمال ماو المتقدمة في المعرفة الماركسية، في مستوى عال من المعرفة والفلسفة، في محاولة انتهازية لتجاوز أعمال لينين، التي لا يستطيع الإحاطة بها، في مضمونها العلمي وتراكمها الهائل على جميع المستويات المعرفية، السياسية، الاقتصادية، والتنظيمية : في أعلى مستوياتها، في العلاقة بين الحزب، الطبقة والجماهير، وفي البناء الثوري للاشتراكية.
ويسعى الكاتب لوضع أسس، تسديد الضربة القاضية للدياليكتيك الماركسي لدى لينين، عبر توجيه انتقاداته لأعمال ستالين حول المادية الجدلية، ذلك ما أشار إليه في آخر المقدمة، في محاولة فاشلة لضرب النظرية الماركسية اللينينية، عبر ضرب التجربة الاشتراكية بالاتحاد السوفييتي، مما قاده إلى الوقوع في الديالكتيك الميتافيزيقي، عبر اعتناقه للمنهج المثالي الذاتي والسوليبسيسم.

حول نظرة ماو تسي تونغ للديالكتيك

كما رأينا في مقدمة الأستاذ سلامة كيلة لكتاب ماو "في التناقض"، في تأكيده حول ما يسمى "التناقض الرئيسي والتناقض الثانوي"، من وجهة نظر ماو، التي سماها الأستاذ "إنها إضافات مهمة" في الديالكتيك الماركسي، في حين لا يمكن إضافة صفة لقانون "التناقض"، الذي يعتبر أحد القوانين الأساسية في الطبيعة والمجتمع، في المادة والحركة، إلى جانب القانونيين الأساسيين : النفي ونفي النفي والكم والكيف، التي تحكم الصراع بين الضدين، المتناقضين.
هذه القوانين الأساسية في الديالكتيك، التي حددها ماركس، وأزال عنها صفة المثالية، وما يحكم الحركة من تناقض في ظل وحدة الأضداد، عبر الصراع بينها، من أجل نفي بعضهما لبعض، عبر التراكم الكمي، الذي يعطي التراكم الكيفي، مما يحدث القفزة النوعية، والتحول في الصراع من مستوى معين، إلى مستوى عال من الصراع، في ظل صراع جديد، يحكمه التناقض، في مستوى متقدم لأحد الضدين، وهكذا، في ظل "التطور بوصفه نقصانًا وزيادة، بوصفه تكرارًا، والتطور بوصفه وحدة الاضداد"، كما استخلصه لينين.
وفي ما سماه ماو، في هذا الكتاب "نظرتان إلى العالم"، جاء فيه ما يلي :"النظرتان إلى العالم، وعمومية التناقض، وخاصية التناقض، والتناقض الرئيسي والطرف الرئيسي في التناقض، والوحدة والصراع بين طرفي التناقض، ومركز التعادي في التناقض."، يتم فيه التلاعب بالكلمات، في تناقض صارخ، لا يبث بصلة بالديالكتيك الماركسي.
ونرى في هذا الجزء عبارتين متناقضتين : "التناقض الرئيسي" و"الطرف الرئيسي في التناقض"، وانسجاما فيما جاء في مقدمة الأستاذ سلامة كيلة، الذي يتماها مع مضمون هذا الكتاب، يؤكد الكتاب ذلك، خاصة في إضافة صفة "الرئيسي" إلى قانون "التناقض"، وهذا ما يسميه أنصار ماو، أو "الماويون" كما يحلوا لهم تسمية أنفسهم بذلك اللقب، في شكل من التباهي والتماهي، للتميز عن باقي تيارات الحركة الماركسية ـ اللينينية، التي ينعتونها بالتقليدية، نكاية فيهم، باعتبارهم، كما يظنون، أن فكرهم لم يرق إلى مستوى عال، من المعرفة الماركسية والماركسية اللينينية، التي أحدث فيها ماو ثورة علمية، وفعلا هي ثورة، لكن في اتجاه الخلف، في اتجاه قلب الديالكتيك الماركسي، بل والافتراء على لينين، بتحريف أقواله، وتفسيرها تفسيرا فجا، نتناوله فيما بعد.
أما قول ماو ب"التناقض الرئيسي" و"الطرف الرئيسي في التناقض"، الذي يعتبره دربا من تطوير الديالكتيك، إذا كانت هذه الترجمة صحيحة ؟ واللعب بالكلمات وقلبها، في جمل غير منسجمة، والقول بأن ذلك، من صلب عملية الديالكتيك الماركسي، وقد تطرقنا إلى ذلك في نقد مقدمة الأستاذ سلامة كيلة.
وكما جاء في تقديم ماو لهذا الكتاب، الذي أقر فيه أن "التناقض" هو قانون، وليس صفة، أي أنه يحكم جميع الأشياء، في الطبيعة والمجتمع، في المادة والحركة، في "صراع الأضداد" كما حدد لينين ذلك، ويحكمه التناقض، وهنا أكد ماو يؤكد هذه الخلاصة، إلى هنا، ليس هناك تناقض بين لينين وماو.
ولكن أضاف ماو فيما سماه "الطرف الرئيسي في التناقض"، هنا يحدث تشويش على عملية "التناقض" و"الصراع بين الضدين"، الذي أقره لينين في كتابه "حول الديالكتيك"، ولتركيز هذا التشويش عمل ماو على إضافة "الصراع بين طرفي التناقض" أي "بين الضدين"، ذلك ما ينسجم مع خلاصة لينين في الصراع في ظل "الوحدة"، ولتعميق هذا التشويش أضافة ماو ما سماه "مركز التعادي في التناقض"، هنا يتم التلاعب بالكلمات، وقلبها، من أجل القول بأن هناك اجتهاد في الديالكتيك الماركسي ؟ حسب أصدقائنا "الماويين"، في نزعتهم نحو الديالكتيك الميتافيزيقي.
لقد حاول ماو، هنا، تفسير خلاصات لينين في "حول الديالكتيك"، لكن هذا التفسير يشوبه خلط، بين "التناقض" كقانون أساسي في الديالكتيك الماركسي لدى لينين، و"التناقض" كمجال لعملية الديالكتيك لدى ماو، حيث القول ب"التناقض الرئيسي"، ليس هو القول ب"الطرف الرئيسي في التناقض"، وفي الصراع يوجد دائما طرفان متناقضان، ويوجد قانون "التناقض" الذي يحكم العلاقة بينهما في الصراع في ظل الوحدة، سواء أكانا طرفين أساسيين في الصراع، أو طرفين ثانويين في الصراع، أو الصراع بين الطرف الرئيسي والطرف الثانوي، أو الصراع في مجال رئيسي، أو مجال ثانوي، ويبقى قانون التناقض هو الذي يحكم هذه الحركة المعنية، في مجال من المجالات، السياسية، الاقتصادية، العسكرية، الثقافية، المعرفية، من المستوى الأدنى إلى المستوى الأعلى، ومن البسيط إلى المعقد... وهكذا، دواليك.
وأضاف ماو كلمة "التعادي"، نسبة إلى العدو، والصراع ضد العدو، أي الصراع بين الضدين، مما عمق التشويش، والقول ب"مركز التعادي"، لا يعدو أن يكون تفسيرا لتمركز الصراع، في نقطة معينة، أو مكان معين، أو حالة معينة، أو زمان معين ...إلخ، وهنا لا وجود لاجتهاد، إنما هو، تنزيل للديالكتيك من المستوى العالي، إلى مستوى تبسيطي، في حركة معينة، أو معركة معينة، أو عمل معينة، أو عملية عسكرية معينة، محددة في مكان معين، أو زمان معين، يرى فيه طرف في الصراع وليس "طرف التناقض"، أهمية مركز الصراع فيه، أو جعل هذه النقطة مركز التناقض، وليس "التناقض" المركزي، أو الرئيسي، إلى هنا لا يوجد شيء يمكن أن نسميه مستوى عال في المعرفية الماركسية، فبالأحرى تطويرها إلى مستوى أعلى.
إنما يوجد هنا، هو دخول في التفاصيل المملة، في أشكال عملية الديالكتيك، من البسيط إلى المعقد، من المسائل اليومية لدي الإنسان البسيط، إلى المسائل اليومية لدى المناضل الثوري، المحترف الثوري كما سماه لينين، من التكتيك إلى الاستراتيجي، وتحويل التكتيك إلى الاستراتيجية، لما يكون مركز الصراع هو عملية التكتيك، في العلاقة بين العام والخاص، كما أوضحه لينين، في كتابه "حول الديالكتيك".
أما الهدف، الذي من أجله وضع ماو هذا الكتاب، كما جاء في تقديم الناشر، في قوله :"تصحيح التفكير المتسم بالجمود العقائدي الذي كان رائجا في الحزب بشكل خطير"، فإنه لم يتحقق إلى حد الآن، سواء في مقدمة الأستاذ سلامة كيلة، أو في مقدمة ماو والفقرة الأولى من كتابه، بقدر ما عمق هذا الجمود العقائدي، والانعزالية في الحركة العمالية كما سماه لينين.
إن التشويش، الذي يحمله مضمون هذا الكتاب، قد عمق الصراعات في الحركة الماركسية ـ اللينينية، وزاد في تعميقها، الجمود العقائدي، لدى أصحابنا "الماويين"، الذين يومنون بشكل أعمى، إلى درجة القدسية، بأقوال ماو، التي يضعونها فوق النقد، مما يجعلهم ينحون منحى، التجريبيين، والوضعيين، الذي يبقوا حبيسي المذهب التجريبي، المثالي الذاتي، ويدعون أنهم يطورون الماركسية.
والأخطر في مضمون هذا الكتاب، هو، اختزال خلاصات لينين الديالكتيكية، بل وبطرها، وتفسيرها تفسيرا خاطئا، كما جاء في قول ماو "إن وجهتي النَّظر الأساسيّتين (أو الممكنتين؟ أو المُشاهدتين تاريخياً؟) عن التطوُّر (الارتقاء) هما: التطور كنقصان وازدياد، كتكرار؛ والتطوُّر كوحدة الضدَّين (انقسام الواحد إلى ضدَّين متعارضين تربط بينهما علاقة متبادلة)."، التي سماها أنها قول لينين في "حول الديالكتيك"، وفي هذا القول تشويه لمنظور لينين حول الديالكتيك الماركسي، عبر قول ماو بأن لينين يقصد هنا "النظرة إلى العالم" من وجهة نظر "المادية" و"الميتفيزيقية"، بل وتحريف أقوال لينين، وتأويلها وتنسيبها إليه ؟
ومن خلال ذلك، اختزال خلاصة لينين، التي استخرج منها ماو مقولته السابقة وأنسبها إلى لينين، لتفسير ما سماه "نظرتان إلى العالم"، في تحريف صارخ لخلاصة لينين، التي تحدث فيها حول "حركة العالم"، من وجهة الديالكتيك الماركسي عند لينين، في تطويره للمعرفة الماركسية، إلى مستوى عال، في نقده للمذهب التجريبي، عبر صياغة نظرته إلى حركة العالم، أو نظرة الديالكتيك الماركسي إلى : المادة والحركة، و"المادة باعتبارها مقولة فلسفية للإشارة إلى الواقع الموضوعي" كما سماها لينين.
وخلاصة لينين في "حول الديالكتيك"، في نظرته إلى الحركة والمادة، يتناقض تماما مع تأويل ماو لأقواله، بل وتحريف هذا النص الوارد في كتابة "حول الديالكتيك"، الذي جاء فيه :"ولأجل إدراك جميع تفاعلات العالم من حيث حركتها الذاتية، من حيث تطورها العفوي، من حيث واقعها الحي، ينبغي ادراكها من حيث هي وحدة من الاضداد. إن التطور هو "نضال" الاضداد. إن مفهومي (أو المفهومين الممكنين؟ أو المفهومين اللذين يعطيهما التاريخ؟) التطور الأساسيين هما : التطور بوصفه نقصانًا وزيادة، بوصفه تكرارًا، والتطور بوصفه وحدة الاضداد (ازدواج ما هو واحد، الى ضدين ينفي احدهما الآخر، وعلاقات بين الضدين(."، هذا النص، الذي يوضح في لينين التناقض في حركة العالم، يختزله ماو، في كون لينين يقصد به النظرة المادية والنظرية المثالية للعالم، في اختزال تعسفي لأهم خلاصاتها حول الديالكتيك الماركسي، بل وتحريفها عن اتجاهها العلمي المادي.
لا ندري، في النص المنسوب إلى ماو، في كتاب "في التناقض"، هل هو فعلا ماو، هو الذي قام بهذا التحريف ؟ أم الناشر ؟ أم المترجم ؟ سؤال مطروح أمام أصحابنا "الماويين" !

في التناقض بين الديالكتيك الماركسي وتبسيط الديالكتيك عند ماو

إن دراستنا لهذا الكتاب، تقودنا إلى اكتشاف، مدى التناقض الصارخ، بين خلاصات ماو وخلاصات لينين، والتناقض الصارخ، الذي يوجد في أقوال ماو التبسيطية، التي يسميها أصحابنا "الماويين"، مستوى عال من الديالكتيك الماركسي، يقودنا إلى التوصل، أن ماو لم يقم إلا بتحريف الديالكتيك الماركسي عند لينين، من الديالكتيك المادي إلى الديالكتيك الميتافيزيقي.
حاول ماو إنتاج أفكار جديد عن التناقض، ولم يستطع تجاوز خلاصات لينين، بل عمل على تحريف بعضها، لكون أسلوبه في التعامل مع الديالكتيك، لم يتجاوز المستويات الابتدائية في تعليم تعاليم الماركسية، ونحن ننتقد ذلك المنحى في التعامل مع الديالكتيك الماركسي.
وحاول تبسيط الديالكتيك، بالبدء بالأفكار الأولية عن العالم، وهو يتحدث عن الشيء، باطن الشيء، علاقته بالأشياء الأخرى، وتطوه، من أجل تفسير معنى الذاتي والموضوعي والعلاقة الجدلية بينهما، في قوله :"والواقع أنه حتى الحركة الميكانيكية المسببة عن القوى الخارجية تتحقق هي الأخرى بواسطة التناقض القائم بباطن الأشياء. وكذلك فإن النمو للنباتات والحيوانات وتطورها الكمي مسببان بصورة رئيسية عن تناقضاتها الباطنية. وينطبق نفس الشيء على المجتمع، فإن تطوره مشروط، بصورة رئيسية، بالأسباب الباطنية، لا الخارجية. فإن ثمة بلدانا عديدة تتسم بالعوامل الجغرافية والمناخية المتماثلة تقريبا، ومع ذلك فهي تختلف في تطورها اختلافا بينا، وتتفاوت درجات تطورها اختلافا عظيما، وإن تبادلات اجتماعية هائلة قد تجري في ذات البلد الواحد، بدون أن يطرأ أي تبدل على جغرافية هذا البلد ومناخه."، هنا يوجد التناقض، التشويش، بالخلط بين ما لا يجب المقارنة بينه وبين غيره.
هذا النص يبين بشكل واضح، مدى صحة ما أكدناه عن تبسيط الديالكتيك عند ماو، الذي أوقعه في خلط، بين ما يجري في الطبيعة، وما يجري في المجتمع، فما يجري بباطن الأشياء في الطبيعة، لا يماثل ما يجري بباطن المجتمعات البشرية، في أوساط المجتمعات البشرية، فالأشياء في الطبيعة قد تتأثر بالجغرافية والمناخ، وتتأثر بذلك طبعا بشكل كبير، أما الإنسان فلا يتأثر بالطبيعة إلا بشكل قليل جدا، هنا وقع الخلط لدى ماو، في محاولته مقارنة ما يجري في الطبيعة، مع ما يجري في المجتمع، وبشكل تبسيطي للديالكتيك.
إن الاشكالية التي تعرضت ماو في الحزب الشيوعي الصيني، هي أن مناضلي الحزب لم يكون ماديين فكريا بالمعنى الماركسي، مما أضطره إلى إعطائهم دروسا ابتدائية في تعليم تعاليم الماركسية، ولم يقم هنا بتطوير الديالكتيك الماركسي، كما يدعي "الماويون"، إنما أعاد ما تجاوزه الفكر البرجوازي : الفلاسفة البرجوازيون في عصر الأنوار، بل ذهب إلى إبراز الأفكار البدائية، التي تعتبر أن الطبيعة هي التي تحدد مجرى المجتمع، فالإنسان البدائي يعتبر الطبيعة هي مركز حركته، لما يصور لنا حدثا معينا، يصور الأشجار تمشي، الجبال تتحرك، والقمر يسير ..إلخ.
ومقارنة ما يجري في الطبيعة بما يجري في المجتمع، من أجل تأكيد وجود قانون التناقض في الطبيعة والمجتمع، لا يتم بشكل ميكانيكي، الذي حاول ماو دحضه، لكن ماو يقع في نفس التفسير الميكانيكي، أو الديالكتيك الميتافيزيقي، بالخلط بين نمو النباتات في الطبيعة، وتطور الإنسان في المجتمعات، ذلك أن ماو بمحاولته تبسيط الديالكتيك، أو تعليم الديالكتيك بشكل تبسيطي لمناضلي الحزب، أوقعه في السقوط في الديالكتيك الميتافيزيقي، والتفكير الميكانيكي.
إن محاولة ماو، تجاوز الفكر البرجوازي الرجعي، ومحاربته في صفوف مناضلي الحزب، يتطلب دراسة الفكر البرجوازي، الذي لعب دورا هاما في القضاء على مخلفات الفكر الإقطاعي، المرتكز على الفكر الديني، ذلك ما لم يقم به ماو، مما جعله بعمله هذا، يمارس القطيعة الإبستيمولوجية مع تطور الفكر البشري، في الصين شبه الإقطاعية، المتناقضة مع أوربا الثورة البرجوازية، إذ لا يمكن أن نؤسس للفهم الماركسي اللينيني، دون دراسة تاريخ تطور الفكر البشري، فالمسألة التي يريد مار معالجتها في هذا النص، تستوجب معالجتها في علاقتها بتطور الفكر البشري، من الإقطاعية إلى الرأسمالية، وبروز الاشتراكية العلمية، ويعتبر الفكر البرجوازي في هذه العملية، تقدميا في حينه، بعد انتصار المفاهيم البرجوازية على مصالح الإقطاع، قبل بروز الاشتراكية نقيض الرأسمالية.
لقد كان للتطور الهائل للقوى المنتجة بفرنسا، واستعداد البورجوازية الفرنسية، لخوض معارك الثورة البرجوازية ضد الإقطاع، من أجل تدمير علاقات الإنتاج الإقطاعية، دور هام في بناء الفلسفة المادية للفلاسفة الفرنسيين، الذين حملوا فكرا متطرفا ضد الأفكار القديمة، من الطبيعة مرورا بالدين وصولا إلى السياسة والاقتصاد، من أجل القضاء على النظام الإقطاعي، وحاربوا الفكر المثالي، ويقول ديدرو في هذا الصدد :"إن الحقيقة ليست هي الله الذي هو الطبيعة بل هي إما الله أو الطبيعة"، وحقق الماديون الفرنسيون نجاحا باهرا في تطوير الفلسفة الطبيعية، لكنهم فشلوا في مجال التاريخ، ولم يستطيعوا فك علاقة الإنسان بالمجتمع وعلاقته بأفكاره، مما جعل أفكارهم المادية التي أعطت الأهمية للطبيعة، عاجزة عن الوصول إلى العلاقة الجدلية بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج، ويقول هيلفيتيوس :"إن الإنسان تصنعه ظروفه الاجتماعية"، مما يطرح إشكالية تغيير المجتمع، حيث إذا أراد الإنسان أن يتطور، لابد له من تغيير ظروفه الاجتماعية، التي صنعته الشيء الذي يطرح التناقض بين علاقة الإنسان بمحيطه.
وهكذا يجب طرح مسألة الديالكتيك، دون بطر جزء مهمة من تاريخ تطور الفكر البشري، وصدق لينين لما قال أن الاشتراكية تبني نفسها من الأدوات التي خلفتها الرأسمالية، ولا يمكن الانتظار حتى يصبح المجمع كله بروليتاريا حتى نقوم بالثورة الاشتراكية، وأن البروليتاريا لما تظفر بالسلطة، تعامل العلماء الطبيعيين التي خلفتهم البرجوازية معاملة الجار للجار، على أساس أن يقوموا بالمهام التي تحملها إياهم البروليتاريا، أما محاولة ماو نشر الدياليكتيك بهذا الشكل التبسيطي، إنما يندرج ضمن النظرة الميكانيكية للأشياء، بينما هو يريد دحض هذا التفكير، لكن بأدواته نفسها، وليس بالديالكتيك الماركسي كما طوره لينين.
هنا تكمن علاقة التناقض بين الإنسان والعالم الخارجي، الإنسان والمجتمع، ليس في تناقض مع الطبيعة، لكن في تناقض مع ظروفه الاجتماعية، ومقارنة النبات في الطبيعة، كما تحدث ماو عن هذا التناقض، وما سماه "باطن الأشياء" في الطبيعة، الذي لا يطابق باطن حركة الإنسان في المجتمع، التي يشكل تناقضا في مستوى عال، من البسيط في النباتات والطبيعة، إلى المعقد في الإنسان والمجتمع، وهنا يوجد الخلل ما أورده ماو، بمقارنة ما لا يمكن مقارنته.
من هنا، لابد من التذكير بجذور الخلل في التفكير لدى مناضلي حزب ماو، من خلال التذكير بالخلل في الفلسفة المادية للفلاسفة الفرنسيين في القرن 18، الذي يتجلى في اعتبارهم أن الإنسان نتاج ظروفه الاجتماعية، مما يعني أن المجتمع هو الذي يصنع الإنسان، وليس العكس، ويقول جون لوك في هذا الصدد :"إن أفكار الناس لا تخلق معهم بالفطرة"، وعارض أفكار ديكارت، الذي اعترف بالأفكار الفطرية، ولم يستطع الفلاسفة الفرنسيين تطوير مفهوم التاريخ، وظلوا حبيسي الفلسفة المادية الطبيعية، النظرة الميكانيكي للمجتمع، نتيجة عدم قدرتهم على القطيعة مع الميتافيزيقا، وقام هيكل، باكتشافه للصيرورة الجدلية، بحسم مسألة تطور التاريخ، لكن دون القطيعة مع مخلفات الميتافيزيقيا، التي تكفل ماركس بإزالتها عن الديالكتيك الهغلي، وأسس الديالكتيك الماركسي.
وجاء في محاولة ماو : دراسة التناقض في النظرة إلى العالم، من وجهة نظر المادية، في تناقض مع وجهة النظر المثالية، وأكد أن الديالكتيك المادي يدعو إلى "دراسة تطور الشيء في باطنه ومن حيث صلته بالأشياء الأخرى، وذلك بمعنى أنه ينبغي النظر إلى تطور الشيء على أنه حركته الباطنية والذاتية والحتمية، وأن كل شيء يرتبط في حركته بالأشياء الأخرى التي تحيط به ويتبادل معها التأثير. فالعلة الأساسية في تطور الشيء إنما تكمن في باطنه لا خارجه، في تناقضه الباطني. وهذا التناقض الباطني موجود في كل الأشياء، وهو الذي يبعث فيها الحركة والتطور."، وهنا ينسجم مع ما هو عام حول التناقض في الأشياء.
لكن ماو، هنا، في هذا النص، لم يفسر لنا كيف نشأت هذه الأشياء، التي يتحدث عنها وعن تطورها الباطني، في انطلاقتها الأولى في الطبيعة، التي نعرف جميعا أنها موطن هذه الأشياء، كما هو الشأن بالنسبة للإنسان، والتناقض في باطن الأشياء، لم ينشأ دفعة واحدة، إنما هو نتيجة الصراع في الطبيعة، في تفاعلات مكونات المادة، من تكون الذرات الأولى، والجزيئات الأولى، والأجسام الأولى، في أشكلها المختلفة : الصلبة، السائلة والهوائية، وفي أشكالها الحيوية : نشوء المادة الحيوية، عند النباتات والحيوانات، وفي أعلى تطور المادة الحيوية عند الإنسان، وكيف أن التطور لم يشمل الإنسان دفعة واحدة، بل يختلف تواتره بين المجتمعات البشرية، بشكل صارخ، ذلك ما جعل ماو يتكلم عن "المجتمعات المتخلفة"، ولكن دون أن يوضح لنا ماذا يقصد ب"التخلف"، هنا يظهر بوضوح المستوى الابتدائي في تعليم تعاليم الماركسية في كتاب "في التناقض".
لم يستطع ماو المغامرة في عمق الأشياء، في تناقضها الداخلي، الذي سماه الباطني "الأساسي" في التطور كما قال، ذلك أنه لم يستطع تجاوز خلاصات لينين في نقده للتجريبيين، في الخوض في المسائل العلمية، في العلوم الطبيعية، في العلوم الحقة، الدقيقة، في علاقتها بالديالكتيك الماركسي، في انعكاس المادة في ذهن العلماء الطبيعيين، بعد أزمة الفيزياء، التي جعلت العلماء الفزيائيين البرجوازيين، يرجعون بالديالكتيك المادي إلى الخلف، من ماركس إلى بركلي، من المادية إلى المثالية، وحسم لينين الصراع مع المثاليين الذاتيين، العلماء التجريبيين اللاعرفانيين، وطور الديالكتيك الماركسي إلى أعلى مستوياته: المذهب الماركسي اللينيني.

من الديالكتيك الماركسي عند لينين إلى الفكر التبسيطي لدى ماو

وفي كتابه هذا، "في التناقض"، يقوم ماو باستعارة بعض أقوال لينين، حول الديالكتيك، لكن دون أن يقول أنه قد تم تجاوزها، ودون أن يقر أنه طور الديالكتيك الماركسي إلى أعلى مستوياته، كما يدعي "الماويون" اليوم، إن ما قام به ماو، باعترافه، وفي قول الناشر أن الغرض من هذا الكتاب، هو محاربة الفكر المثالي في صفوف مناضلي حزبه، الذي انتشر بشكل خطير في صفوفهم، وهذا الكتاب محاولة لتبسيط الديالكتيك الماركسي عند لينين، لكن ماو يقع في التناقض، حيث منهجه التبسيطي أوقعه في الأخطاء العلمية.
والخطأ الأساسي في فكر ماو، في هذا الكتاب، هو اعتقاده أنه يمكن تغيير الفكر المثالي، بإنتاج أفكار مجردة، مما أوقعه في المثالية الذاتية، حيث لا يمكن تغيير المجتمع، من باطنه، من داخله، دون تغيير الأساس الاقتصادي لهذا المجتمع، فمحاربة الأفكار الرجعية، لا يتم فقط بنشر الأفكار التقدمية، خاصة وأن المجتمع الصيني مجتمع شبه إقطاعي، مما يؤكد أن الحزب الشيوعي الصيني في 1937، لم يستطع بعد ربع قرن، نشر الماركسية في صفوف مناضليه، وذلك راجع ليس لنشر الأفكار البرجوازية المتسمة بالمثالية والرجعية فقط، كما جاء في الكتاب، إنما كذلك، لضعف تطور المجتمع الصيني.
ونظرا للمستوى المعرفي لمناضلي حزب ماو، لم يجرؤ ماو على الخوض في مسائل العلوم الحقة، الدقيقة، كما فعل لينين قبله، واكتفى بسرد بعض خلاصات لينين، محاولا تبسيطها، بهدف إزالة المثالية في تصورات مناضلي حزبه الشيوعي، خاصة في أوساط الشباب ـ هذا الكتاب عبارة عن محاضرة في الكلية الحربية والسياسية المناهضة لليابان في يانآن في 1937 ـ فهو إذن عبارة عن دروس تكوينية، لهذا لا يسمح له الوقت بأن يخوض في المسائل العلمية الحقة، فما بالنا بنقل قوانينها من الطبيعة إلى المجتمع، وهما مجالان مختلفان جذريا، إلا في المسائل المتعلقة بالقوانين العامة للحركة، في الطبيعة والمجتمع، في علاقة المادة بالحركة، هذا ما يمكن أن يبرر بساطة مضمون هذا الكتاب، واحتمال ورود الأخطاء فيه.
وفي أحد نصوص هذا الكتاب جاء ما يلي :"ومن الواضح أن الأسباب الخارجية الصرفة لا يمكن أن تؤدي إلا إلى الحركة الميكانيكية للأشياء، أي إلى تغييرات في الحجم والكمية، لكنها لا تستطيع أن تفسر لماذا تختلف الأشياء نوعيا ذلك الاختلاف الذي لا يمكن حصره، ولماذا يتحول الشيء من نوعية إلى أخرى. والواقع أنه حتى الحركة الميكانيكية المسببة عن القوى الخارجية تتحقق هي الأخرى بواسطة التناقض القائم باطن الأشياء."، إلى حد الآن لم يجرؤ ماو على السير بالتناقض إلى ما لا نهاية، مشيرا فقط إلى أن التناقض موجود في العلاقة الخارجية للأشياء، من أجل حصر "التناقض الرئيسي"، كما سماه، في باطن الأشياء.
وهنا، يبخس ماو دور التأثيرات الخارجية على باطن الأشياء، ويقول أنها ليست أساسية، وهنا يقع في التناقض مع مضمون الديالكتيك، الذي يدحض وجود المطلق بعينه، كمطلق، دون علاقته بالنسبي، فكما قال لينين في كتابه "حول الديالكتيك" :"إن الذاتية )الريبية والسفسطائية، .. إلخ( تختلف عن الديالكتيك، فيما تختلف عنه، بما يلي، وهو أن الفرق بين النسبي والمطلق هو أيضا نسبي بنظر الديالكتيك )الموضوعي(. فبنظر الديالكتيك الموضوعي يوجد مطلق في النسبي. أما بنظر الذاتية والسفسطائية، فالنسبي ليس سوى نسبي، وهو ينفي المطلق."، هنا جعل ماو، ما سماه التناقض الباطني، مطلقا، وجعل التأثيرات الخارجية نسبية.
ووقع ماو، هنا، في الذاتية والسفسطائية، لكونه يحاول تبسيط ما لا يمكن تبسيطه، إلا في حدود حصره في تناول حالة معينة، محددة، في مجال معين، في الطبيعة والمجتمع، في العلاقة بين المادة والحركة، دون أن يكون القانون الذي تم استخلاصه نهائيا، ونتائجه تكون نسبية، وعملية الديالكتيك فيه محددة، لا تتجاوز ما تم حصره، في الزمان والمكان، مع نوعية المؤثرات المحددة لذلك، كما يفعل الفيزيائيين عندما يحصرون نقطة معينة، في مستوى معين، أو مجموعة معينة من النقط، لتطبيق قانون السرعة، في علاقتها بالمادة والحركة، دون أن ينسوا، أن نتائجهم نسبية إلى حد ما، هذا في مستوى الميكانيك، أما على مستوى الكوانتوم، فالنسبية ترتفع، لكون الأشياء لا ترى بالعين المجردة، وفي حالات قصوى، لا تراها أبدا، إنما يتم تخيلها، وتطبيق قانون التناقض عليها، باعتباره قانونا موجودا في الطبيعة، كما هو الشأن في سرعة الضوء، التي أبهرت علماء العلوم الطبيعية، ووقعوا في الفكر المثالي الذاتي، في محاولتهم لتفسير العالم.
إن ماو، ومن خلال هذا الكتاب، لم يدرس أبدا العلوم الحقة، حق قدرها، خاصة الفيزياء، ونظرية الكوانتوم، التي تناولها لينين في نقده للتجريبيين، هذه النظرية التي أحدثت أزمة في الفيزياء، وغيرت التفكير من النظرة الميكانيكية للأشياء، والمادة، إلى النظرة النسبية لمعارفنا عن العالم، هذا على مستوى العلوم الطبيعية، أما على مستوى علم الاجتماع، فالماركسية أعطت إجابات صحيحة لهذه الأزمة، التي أدخلت التشويش في ذهن علماء الفيزياء البرجوازيين، فما بالنا بجماهير العمال والفلاحين الفقراء بالصين، ذلك ما جعل النظرة إلى العالم لذا أساتذة العلوم الطبيعية، وخاصة الفيزيائيين، تتسم بالمثالية الذاتية، لعدم قدرتهم على استيعاب الديالكتيك الماركسي، هنا جاء دور لينين، الذي نور العلماء الطبيعيين بروسيا الاشتراكية، مما ساهم في تطور النظرة العلمية لديهم، وأنتجوا أعمالا علمية عظيمة، الشيء الذي ساهم في تطوير الصناعة بالاتحاد السوفياتي.
أما في المجتمع، فالنسبية في هذه النتائج، تكون جد مرتفعة، ذلك ما أبهر ماو، عندما لاحظ أن مناضلي حزبه، لم يستوعبوا مضمون الديالكتيك الماركسي، فحاول، في محاضرة واحدة، اختزال ما يمكن اختزاله، في مضمونه المادي، وحصره في قانون التناقض، الذي بدوره حاول اختزاله، وحصره في بعض مقولات لينين، محاولا تطبيقها على العالم، لكن بشكل بسيط، حيث ذهب بعملية الديالكتيك، محاولا تطبيقها، لكن على مستوى أدنى من تعاليم الماركسية، وفي تطبيقها على المجتمع، بنقل قانون التناقض من الطبيعة إلى المجتمع، لكن بشكل بسيط، ناقص، ذلك ما يتناقض وتاريخ تطور الفكر البشري، من الديالكتيك البدائي لدى الهنود والإغريق، إلى نظرية النسبية عند إنشتاين، والعلماء الفيزيائيين البرجوازيين، وتصحيح أفكارهم من طرف لينين، بالدفع بالديالكتيك الماركسي إلى الأعلى، هنا يبدو عمل ماو بسيطا.
ففي 1937، لما قطعت نظرية النسبية أشواطا في التطبيق والنقد، والتناقض بين المثالية الذاتية، التي أحدثتها، والديالكتيك الماركسي، مازال ماو يعطينا أمثلة من عهد اليونان القديم، وقوله :"فالبيضة تتبدل في درجة حرارة ملائمة فتصير كتكوتا، ولكن الحرارة لا تستطيع أن تحول حجرا إلى كتكوت، لأن كل منهما أساسا يختلف عما للآخر."، إنما يدل على هذه البساطة، والتعامل الساذج مع الآخرين.
ومقارنة "البيضة" ب"الحجر"، لا يمكن نعته إلا بالسذاجة في التفكر، حيث لا مقارنة بين الجسمين، بين المادة الحيوية، والمادة الصلبة، وهنا يمكن أن نتحدث عن المطلق، في الهدف الذي وضعه ماو، لكن في قانون التناقض، يمكن أن نبين أن في كلتي الحالتين يوجد تناقض داخلي، فقانون التناقض يسري على المادة في علاقتها بالحركة، والحركة تختلف من مجال إلى مجال، من جسم إلى آخر، حسب الزمان والمكان، والشروط المحيطة به، فعامل الحرارة يؤثر في البيضة والحجر معا، لكن النتائج هي التي تختلف، ذلك ما يريد ماو تفسيره، لكن يبقى، تفسيره محصورا في مستوى أدنى من الديالكتيك، حيث لم يدفع به إلى أعلى مستوى، وهو أن الحجر يمكن أن يذوب في مستوى عال معين من الحرارة، كما أن البيضة لا تعطي دائما كتكوتا، إلا في شروط معينة، وهي أن تخضع أولا للتلقيح، في علاقة ذلك بمدة زمنية معية، ومحددة، قبل تعرضها للحرارة، وفي شروط ثانوية أخرى، أن لا يمسها جرثوم في مدة تعرضها للحرارة، فهل تلقيح البيضة مسألة ثانوية ؟
فبدون تلقيح البيضة، لا يمكن الحديث عن التناقض الباطني في البيضة، الذي يعطي الكتكوت، هنا تكمن سذاجة استعمال البيضة من طرف ماو، لتفسير التناقض الباطني، الذي يرجع بنا إلى سؤال أصل العالم، لا ما يجري في العالم، إلى أصل المادة الحيوية، وهنا يكمن الفرق بين الديالكتيك الماركسي عند لينين، في انتقاده للتجريبيين، وبين ديالكتيك ماو في مستوى أدنى من المعرفة الساذجة.
وإذا أردنا الدفع بالديالكتيك إلى مستوى عال، انطلاقا من مثال ماو حول "البيضة"، يمكن أن نطرح السؤال الرائج في الأوساط الشعبية : هل الدجاجة أسبق أم البيضة ؟ للجواب على هذا السؤال، ننطلق من كون البيضة الملقحة هي التي تعطي الكتكوت، وبما أن التلقيح يجري بين كائنين حيويين، فإن وجود كائنين أولين، أو مجموعة من هذه الكائنات، على مستوى الخلايا الحيوية، ذات صفة الذكورة، وذات صفة الأنوثة، في المجال الطبيعي الحيوي، كما هو الشأن في جميع الكائنات الحية، بعد نشوء عالم المادة الحيوية، وتلقيحهما، بازدواجهما، في وحدة، تسمى بيضة، يحكمها التناقض، في ظل صراع الضدين، كما أوضح لينين ذلك في كتابه "حول الديالكتيك".
ولا يمكن أن نتحدث عن التناقض الباطني، الداخلي، بدون ازدواج الاثنين، خلية الذكر وخلية الأنثى، في مثال البيضة، ولكن أين يكمن "التناقض الأساسي" هنا ؟ التناقض هو قانون، يحكم الضدين أينما تواجدا، في ظل الوحدة، في الطبيعة والمجتمع، ما هو أساسي وثانوي هو الصراع بين الضدين، لكن هذا كما رأينا سابقا، يحكمه ما يحكم المطلق والنسبي، العام والخاص، في جميع الأشياء، وفي الصراع في المجتمع، وفي مستوى عال للصراع في المجتمع : الاستراتيجي والتكتيك، في عملية الجدلية بينهما، ففي النسبي مطلق، وفي الخاص عام، وفي التكتيك استراتيجي ...إلخ.
وهنا لا أعتقد أن ماو، في هذا الكتاب، يسعى إلى تطوير الديالكتيك الماركسي، بقدر ما يريد تبسيطه حتى يكون في متناول أعضاء حزبه، الذين تشوب تصوراتهم النظرة المثالية للعالم، وما يجري في الحركة الاجتماعية، يجري في الحركة المعرفية.

في الديالكتيك الماركسي عند لينين على مستوى المعرفة

وعلى مستوى الحركة المعرفية، نرى على مستوى قانون التناقض، أن كانط توصل إلى مفهوم التناقض، وسماه الجوهر النهائي، لكنه لم يدفع به إلى مستوى عال، إلى الديالكتيك، وانطلق هيغل من التناقض عند كانط، وانتقد هذا المفهوم، وأسس مفهوم الصيرورة الجدلية : العلاقة بين الأشياء سبقت وجودها، أي قانون التناقض، وهو أساس تكوين الأشياء، في العلاقة داخل الأشياء، وليست خارجها، ولا خارج الأشياء فيما بينها، وهو التناقض الداخلي، الذي يعتبر جوهر كل شيء، وانتقد ماركس مفهوم التناقض عند هيكل، لكونه صاغه داخل الفكرة المطلقة، وهو مفهوم مثالي، وأخرج جدلية هيغل من الفكر إلى الواقع، انطلاقا من الواقع الملموس، من الجدلية المثالية إلى الجدلية المادية، وصاغ مفهوم التناقض التناحري، وهو جوهر الحركة، الذي يجعل أحد الضدين ينفي الآخر في وجوده وليس في تماثله، كما هو الشأن في الصراع الطبقي، وصاع القانون الأساسي الثاني : النفي ونفي النفي، الذي يتبلور عبر القانون الثالث : الكم والكيف، وتراكمهما، وتحول التراكم الكمي إلى تراكم كيفي، وحدوث القفزة النوعية.
ولا يعتبر ماركس الدولة حلا للصراعات الاجتماعية، كما أقر هيغل في مفهومه للتناقض، بل هي مجالا لصراع الضدين، في ظل قانون النفي ونفي النفي، تنتهي بالقضاء على أحد الضدين المتناحرين، وفي نفس الوقت يتم تناقض تناحري جديد في ظل صيرورة جدلية جديدة، والجوهر ليس شيئا ثابتا، بل هو معطى متحرك.
نرى فيما سبق كيف تحول مفهوم التناقض، عبر عملية النفي ونفي النفي، من مفهوم كانط، مرورا بمفهوم هيغل، وصولا إلى مفهوم ماركس، من الجوهر المطلق، مرورا بالفكرة المطلقة، وصولا إلى المادية، من اللاعرفانية، مرورا بالمثالية الذاتية، وصولا إلى الديالكتيك الماركسي، الذي طوره لينين، بالدفع به إلى الأعلى، في نقده للعلماء التجريبيين، الذين يريدون تجاوز الماركسية، باسم تطويرها، فسقطوا في اللاعرفانية.
ودفع لينين بنفي النفي، في صراعه ضد الإمبريالية، وبنى أول مجتمع اشتراكي، تقوده البروليتاريا بقيادة حزبها الثوري، لكن ليس بشكل مطلق، بل في ظل صراع الضدين، حيث لم يتم نفي الإمبريالية بشكل نهائي، بل بقي الصراع بين الضدين متواصلا، على المستوى العالمي، الذي قاده ستالين بعده، في العلاقة التناقضية، بين الاشتراكية والإمبريالية، بعد انتصار الاتحاد السوفييتي الجزئي على الإمبريالية، وبناء الوطن الاشتراكي، وفي ظل وجود مجتمعات مضطهدة، ومن بينها المجتمع الصيني، الذي حاول ماو، قيادة حرب التحرير ضد المستعمر الياباني، بقيادة حزبه الشيوعي، الذي تعوقه البنية الاجتماعية، ذات الأسس ما قبل ـ رأسمالية، مما طرح أمامه إعادة بناء مفهوم النظرة العلمية المادية إلى العالم.
ففي ظل سيطرة الإمبريالية اليابانية على الصين، التي دخلت الحرب الإمبريالية العالمية الثانية في 1939، سنتين بعد كتابة هذا الكتاب، وامتدادات الحرب في أوج الصراع بين الاشتراكية والإمبريالية، وانتصار الاتحاد السوفييتي الجزئي على الإمبريالية بقيادة ستالين في 1945، في الوقت الذي مازالت فيه الصين في ظل الصراعات الداخلية، واستمرار الحرب من أجل السلطة، والتي لم يتم حسمها جزئيا لصالح ماو إلا في 1949، لتبرز صراعات جديد أمام الحزب الشيوعي الصيني، في ظل التناقض في الصراع بين البروليتاريا والبرجوازية حول السلطة.
وفي نفس السياق، في مسألة التناقض، هل تقسيم الواحد إلى اثنين يتم عبر التناقض الباطني فقط ؟ أم أن دخول جزء خارجي هو الذي يحدث هذا التحول الكبير ؟ مما يؤدي إلى تقسيم الواحد إلى اثنين، وإحداث انفجار هائل وغير مجرى الحروب الإمبريالية ؟ وهل يبقى التناقض الباطني أساسيا بشكل مطلق ؟ أم أن صفته الأساسية تبقى نسبية ؟
في الجزء الأول من كتاب "في التناقض" بعنوان "نظرتان إلى العالم"، تتضح في أطروحة ماو، بساطة الأسلوب في تناول مسألة التناقض، كما أشرنا إلى ذلك سابقا، حيث لم يستطع الغوص في ديالكتيك القضايا العلمية في العلوم الطبيعية، العلوم الحقة، كما فعل لينين في 1916، خلال الحرب الإمبريالية الأولى.
وبعد سنة من تاريخ وضع كتاب "في التناقض"، وفي 1938، عرفت العلوم الفيزيائية تطورا هائلا، على مستوى تفاعلات مكونات الذرة، خاصة ذرة اليورانيوم، الذرة الثقيلة، عبر تأثير امتصاص نترون واحد من طرف هذه الذرة، وتسمى هذه العملية انفلاقا Fission، الذي يؤثر على نواة هذه الذرة، ينتج عنه تقسيم الذرة إلى جزأين غير مستقرين، واثنين أو ثلاثة نترونات مستقلة، مما ينتج عنه انفجار هائل، وإشعاع هائل، بملايين درجات الحرارة، التي تحرق الأخضر واليابس : نواة القنبلة الذرية، التي تم إسقاطها على اليابان في غشت 1945، التي وضعت حدا للحرب الإمبريالية الثانية، والحرب الإمبريالية الكلاسيكية، وحرب اليابانية على الصين، دون أن ننسى طبعا، دور الاتحاد السوفييتي في تلك الحرب.
وقد يتحول هذا الإشعاع إلى طاقة هائلة، في التناقض بين مسار العملية، في السرعة والحركة، في التناقض بين الضدين، في ظل الوحدة، وفي امتداد الحركة، في الزيادة والنقصان، فكلما تم امتصاص نترون من النترونات المستقلة، كلما حدث انشتار وانفجار، وامتد الإشعاع، وهكذا إلى نهاية عملية امتصاص النترونات، كما وقع في حالة القنبلة النوويةA ، وحسب ارتفاع سرعة امتصاص النترون، ترتفع قوة الانفجار، وحسب انخفاض هذه السرعة، يتحول الإشعاع إلى طاقة هائلة، غرام واحد من اليورانيوم يعطى أكثر، مما يعطيه إحراق عدد كبير من أطنان الفحم الحجري.
حسب الديالكتيك، في المطلق نسبي، وفي النسبي مطلق، ونحن لا نريد، هنا، أن نؤكد ما إذا كان التناقض الباطني هو الأساسي أم لا، بقدر ما نريد أن نؤكد أن، في كل ما هو أساسي، يوجد نسبي، ثانوي، وأن الثانوي يتحول إلى أساسي، حسب نوعية الصراع، مستواه، ودرجة تطوره، فكما يتحول النسبي إلى مطلق، في درجة معينة، حسب أهميته في عملية الصراع، فإن الثانوي يصبح أساسي، في مستوى معين من الصراع، وهكذا يكون الديالكتيك الماركسي، من العام إلى الخاص، وفي الخاص يوجد العام، وتناول التناقض في هذا المثال، يعتبر مستوى عال من الديالكتيك، في الطبيعة، في المادة، في الحركة داخل المادة، ويمكن نقله من الطبيعة إلى المجتمع، كما لا يمكن حصره في هذه النقطة بالذات.
وكما قال لينين :"يستطيع التفكير البشري بحكم طبيعته أن يعطينا وهو يعطينا الحقيقة المطلقة التي تتكون من مجمل الحقائق النسبية. وكل درجة في تطور العلم تضيف ذرات جديدة إلى مجمل الحقيقة المطلقة هذه، ولكن حدود حقيقة كل موضوعة علمية هي حدود نسبية لأنها تتسع تارة وتضيق طورا من جراء نمو المعرفة اللاحق.".
وبعد كل نتيجة علمية، يطرح تساؤل، يعطينا انطلاقة جديدة، للتفكير في المسائل العلمية المستقبلية، التي يستمر العلم بالخوض فيها، إلى حين الوصول إلى نتائج جديدة متطورة، متقدمة على ما سبقها من نتائج، لكونها نتائج نسبية، في حاجة إلى الذهاب بها نحو النهاية، ذلك ما لم نلمسه في كتاب "في التناقض"، الذي تمت كتابته في 1937، في علاقته بكتاب "المادية والمذهب النقدي التجريبي"، الذي تمت كتابه في 1916.
لقد سبق مضمون هذا الكتاب : نتائج أعمال لينين الغزيرة، العميقة والمتطورة إلى حد بعيد، يمكن اعتمادها، كانطلاقة علمية جديدة في علم الديالكتيك، في عصر الإمبريالية، بكونها استنتاجات عامة، تضم إلى حد بعيد، المسائل الخاصة، في مسائل العلوم الطبيعية، خاصة الفيزياء، التي طورها عن نتائج ماركس وإنجلس في هذا المجال، في علاقتها بتطويرها في مجال الصراعات الطبقية، التي حاول ماو في كتابه هذا، الإحاطة بها، لكن بشكل لم يضف أي جديد لاستنتاجات لينين، بقدر ما قام بتبسيط بعضها، لكن في تبسيط ما لا يمكن تبسيطه، في حقل العلم، خاصة علم الديالكتيك، أرقى ما يمكن أن تصل إليه المعرفة البشرية، باعتباره مفتاح جميع الاشكاليات العلمية، المطروحة في الطبيعة والمجتمع.
فإذا كانت عملية انفلاق Fission، تعطينا انفجارا هائلا، فإن عملية انصهار Fusion، تعطينا انفجارا أقوى بكثير، ذلك ما توصل إليه علم الفيزياء النووية، من اكتشاف جد متقدم : القنبلة الهيدروجينية Bombe H، في تناول ذرة الهيدروجين، الذرة الخفيفة، لكن في عملية معقدة، التي تتم عبر ثلاث عمليات متتالية : انفلاق ـ انصهار ـ انفلاق Fission-Fusion-Fission، مما يحدث انفجارا يبلغ تأثيره مستويات عالية جدا، حدود شعاع دائرتها يصل إلى 100 كلم، وتبلغ فيه الحرائق الدرجة الثالثة، وتم تفجيرها في 1952، بينما الصين فجرت أول قنبلة نووية A في 1964.
لا نستعرض هنا، نوعية الأسلحة النووية، إنما نستعرض تواتر تطور العلوم الطبيعية، في علاقتها بعلم الديالكتيك، في مستوى عال، في هذه العماية، في التناقض الداخلي فيها، في سرعة المرور من جميع مراحل الديالكتيك، في ظل الوحدة، في المرور عبر القوانين الأساسية الثلاثة : التناقض، النفي ونفي النفي والكم والكيف، في سرعة فائقة، تعطي نتائج باهرة، في التناقض بين إيجابياتها : الطاقة الهائلة، وسلبياتها : انفجار هائل، في التناقض بين تسريع حركة النترون، وانخفاض حركته، في تراكم عدد النترونات المستقلة، ونوعية الانفجار، واستمراريته، في زيادته، ونقصانه، في توجيهه نحو إنتاج الطاقة، في صالح الإنسانية، وتوجيهها في دمار الإنسان والطبيعة.
وفي التناقض بين الذرة الثقيلة : اليورنيوم، والذرة الخفيفة : الهيدروجين، في التناقض بين القوة الهائلة، التي تنتج عن هذه العملية، في مستوى الذرة الخفيفة، التي تنتج دمارا هائل، أكثر مما تنتجه، الذرة الثقيل، فكيف يمكن ترجمة هذه العملية، من الطبيعة إلى المجتمع، في المجتمعات البسيطة، المضطهدة، مجتمعات العمال والفلاحين، حتى تنتج قوة هائلة ؟ قوة ثورية ؟
لا يعني امتلاك القنبلة النووية، تطور المجتمع الصيني، إلى حد مستوى تطور العلوم الطبيعية، خاصة علوم الفيزياء، فكيف يمكن ترجمة تطور العلوم الطبيعية إلى علوم الاجتماع ؟
يمكن ذلك طبعا، عبر الماركسية، عبر الديالكتيك الماركسي، الذي طوره لينين إلى مستوى عال، المذهب الماركسي اللينيني، ليس عبر تلقينه للمناضلين، كما أراد ماو، فعل ذلك، إنما عبر كيفية جعله منهجا للتفكير، في علاقته بتطوير القوى المنتجة، ذات الصفة الثورية، لتحطيم علاقات الإنتاج القديمة، من الرأسمالية إلى الاشتراكية، وإلى الهدف الأسمى : الشيوعية.
إن ما يسمى في علوم الحرب الحديثة بوسائل الدمار الشامل، وتطورها كما شاهدنا فيما سبق، لا يمكن إهماله في شأن التطور الاجتماعي، ذلك ما قامت به روسيا، الصين، الهند وباكستان، التي امتلكت السلاح النووي، وأصغر هذه البلدان كوريا الشمالية، لكن ذلك لا يعني بالضرورة، أن هذه البلدان في مستوى واحد من التطور الاجتماعي مع بلدان متقدمة أخرى، رغم أنها شبه متساوية في مستوى التطور التكنولوجي في مجال الصناعة النووية، فرغم أن اليابان لم تمتلك هذه الوسائل المدمرة، إلا أنها في مستوى عال من التطور الاجتماعي، كما هو الشأن بالنسبة لسويسرا والدول الإسكندنافية، نتحدث هنا عن مستوى العيش وتطور العلوم، لكن يبقى النظام المهيمن في مجمل هذه البلدان، هو الرأسمالية الإمبريالية.
فهذه البلدان جميعها في وحدة مع أمريكا، الدول الأوربية الغربية والكيان الصهيوني، التي تنشر الحرب والاستعمار، واضطهاد البلدان الأخرى، والشعوب عامة، باسم امتلاك القوة العسكرية، والنووية خاصة، وتكرس التفاوت في التطور، التطور اللامتكافئ، كما سماه لينين، عبر تطور الدولة الاحتكارية، في ظل التناقض الداخلي في العالم، في الصراع في ظل هيمنة الرأسمال المالي العالمي، على السوق التجارية العالمية، حول تقسيم العمل، حول السيطرة على باقي البلدان المضطهدة، شبه المستعمرة، المستعمرة بشكل غير مباشر.
فكيف يمكن تحويل قوة البلدان المضطهدة، إلى قوة هائلة ؟ ليس عبر التسليح النووي طبعا، فهذا الاتجاه يحمل مخاطر كبيرة على الإنسانية، في ظل انقلاب النفي إلى ضده، من نفي النفي إلى النفي، كما وقع في روسيا والصين، لكن عبر اكتشاف القوة الهائلة، التي تتسم بها الشعوب المضطهدة، جوهرها : العمال والفلاحون، كيغ يمكن تحويل هذه القوة إلى طاقة هائلة ؟ طاقة متجددة، تقوم بإعادة بناء مفهوم الإنسانية، التي وضعت الماركسية اللينينية، أسسها المادية، عبر الديالكتيك الماركسي لدى لينين.

خلاصة

كان هيغل يعتقد أن الصيرورة التاريخية محددة مسبقا، وأن حركة الصيرورة الجدلية يحكمها نفي النفي الضروري، في علاقته بالضرورة التاريخية، وأكد ماركس وجود نفي النفي، لكن باعتباره أحد الحلول الممكنة، حيث يمكن أن يكون الحل حسب نفي النفي أو عكسه : النفي، ذلك ما لم يتوصل إليه هيكل، الذي يقول بالضرورة التاريخية الموجودة مسبقا، نتيجة تفسيره المثالي، وبذلك أسس ماركس القانون الأساسي الثاني وهو النفي ونفي النفي، وهنا يمكن أن نقول أن ماو في تصوره لتطور المجتمع الصيني، قد ذهب مذهب هيغل، فالتراكم الكمي، الذي تم تأسيسه خلال الثورة الصينية، أعطانا في نهاية حياة ماو تراكما نوعيا : الأساس الاقتصاد للدولة الاحتكارية.
والقانون الأساسي الثاني، في عملية تطور المجتمعات البشري : النفي ونفي النفي، يمكن أن يساعدنا على فهم التناقض الداخلي في المجتمع الصيني، وكيف استحال نفي النفي إلى ضده، في سيرورة الثورة الصينية، التي تم خلالها تمركز الرأسمال المالي في المجتمع الصيني، في الصناعة والفلاحة، إلى مستويات عليا، تحول فيها حزب ماو تسي تونغ الشيوعي، إلى الحزب الشيوعي الإمبريالي، أي الشيوعية قولا، والإمبريالية فعلا، كما قال لينين، مما حول الدولة في ظل هذا الحزب، إلى دولة احتكارية.
إن ما أرهق ماو في مرحلة الصين شبه المستعمرة، شبه الإقطاعية، خلال الحرب الوطنية الثورية، إلى حدود 1937، هو التناقض الداخلي في المجتمع الصيني، هذا المجتمع، الذي عرف اليوم تطورا هائلا، وأصبحت الصين في الصفوف الأولى للدول الإمبريالية، لكنها في ظل دولة احتكارية تضطهد العمال والفلاحين بالصين، في ظل الاستغلال الرأسمالي، في نفس الوقت الذي تقوم فيه دولة الصين الاشتراكية الإمبريالية، باضطهاد شعوب البلدان الأخرى، باستغلال ثروات البلدان المضطهدة خاصة بإفريقيا، في محاولة منها للسيطرة على السوق التجارية العالمية، لتقوم مقام فرنسا الاستعمارية بأفريقيا، بشكل من الأشكال، باستنزاف ثرواتها الطبيعية، في ظل الاستغلال الرأسمالي، فأين وصل التناقض الباطني اليوم في المجتمع الصيني ؟ وفي المجتمعات شبه المستعمرة بإفريقيا، آسيا وأمريكا اللاتينية ؟
ذلك ما يمكن أن نعالجه، على ضوء قانون التطور اللامتكافئ في النظام الرأسمالي، الذي اكتشفه لينين، كأحد القوانين الأساسية في النظام الرأسمالي، وفي مستوياته العليا، في عصر الإمبريالية، باعتبارها نظاما تناحريا.
إن ما تطرحه هذه المحاولة، يمكن تلخيصه فيما يلي : أهمية إعادة بناء الطريق الثوي للثورة بالغرب الإفريقي، في علاقتها باستراتيجية بناء الأحزاب الماركسية ـ اللينينية بهذه البلدان، في علاقتها باستراتيجية قيادة الحروب الوطنية الثورية بالبلدان المضطهدة، ضد استراتيجية الحروب الإمبريالية الجديدة.