نريد وطن


مالوم ابو رغيف
2019 / 11 / 18 - 19:39     

رغم ان الطبقة السياسية الحاكمة ، الوزراء والنواب وبقية القطيع الحكومي ينحدر معظم اعضائها من الطبقات الفقيرة والمتوسطة، وان افرادها مثل الذين سبقوهم في العهد الصدامي، ليس لهم باع في علم السياسية ولا في عوالم الفكر والتنظير، الا انهم تنكروا لبيئتهم الاجتماعية وانحداراتهم الطبقية وانتفخوا غرورا وتعاليا عندما جلسوا على كراسي السلطة.
كان هدف معظم السياسيين هو الاثراء السريع بغض النظر عن الوسيلة، لذلك شرّعوا لهم قوانينا خاصة تراعي مصالحهم ولا تشمل المواطنين، تمنحهم رواتبا ومخصصات وامتيازات وهبات بملايين الدولارات، ووزعوا كل تركة النظام الصدامي فيما بينهم قصورا ومزراعا وممتلكات، واخصوا انفسهم برواتب ضخمة جدا، فرئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ورئيس مجلس النواب يستلمون رواتب ومخصصات هائلة تفوق رواتب جميع رواتب نظرائهم في جميع انحاء العالم اضافة الى المخصصات والامتيازات الهائلة والحمايات التي بلغ عددها 25000 منتسب براتب شهري يبلغ 1500 دولار للشخص الواحد حسب ما صرح به نائب البرلمان السابق القاضي وائل عبد اللطيف. ولضمان رضا كافة الاطراف المشتركة بما اسموه العملية السياسية، اسسوا نظام المحاصصة، وهو نظام قائم على تقليد النموذج اللبناني الفاشل بتقسيم الشعب الى مكونات يميزها الانتماء الى طوائفها( الدينية والقومية) وليس الى الوطن، فالسياسي يكون قويا ضمن طائفته وضمن منطقته وليس ضمن الوطن باجمعه، ان ذلك اضغف الشعور الوطني وساعد على صعود اميين وارهابيين وطائفين ومهربين ومختلسين ومزورين الى مجلس النواب، ذلك ان معايير الاختيار هي الولاء للطائفة.
الطبقة السياسية التي استولت على جميع السلطات بما فيها سلطة المال، ورغم معظم افرادها كانوا من الطبقات الفقيرة، تجاهلت اصولها ولم تعد تتذكرها الا في الانتخابات.واصبح الناس يعيشون في عشوائيات ومحلات مثل علب السردين لاكتضاضها بالسكان، واهملت المدارس والمستشفيات والماء والكهرباء والسكن والخدمات واصبح من الصعب جدا على الناس ايجاد فرصة للعمل، اولا لندرته وثانيا لان هذه الفرص تباع بالرشوة التي لا يستطيع ان يدفعها الباحث عن العمل، واصبح التسول صناعة اجتماعية يديرونها افراد دون ضمير، وانتشرت عصابات الخطف والسطو في العراق واصبح التزويرامرا عاديا جدا بين افراد السلطة التشريعية الذين زوروا الشهادات ليحصلوا على رواتب اعلى. لقد كان الترشيح للبرلمان وسيلة للاثراء السريع جدا على حساب المجتمع.
وبرز في العراق سلطة اخرى تتفوق على كل سلطة اخرى في قوتها ونفوذها، اذ انها تسيدت على جميع النواحي السياسية والحكومية والدينية والثقافية والاخلاقية وهي سلطة الفساد، بحيث اصبحت المناصب العليا في الدولة تباع وتشترى علنا واصبح الفاسدون يصرحون بفسادهم دون خجل او خشية من المحاسبة.
من ناحية اخرى اصبح الاغتراب احد مكونات نفسية العراقي الذي أُغلقت امامه كافة السبل ولم يجد طريقا اخرا سوى الانتحار لانهاء التراجيديا التي يعيش فصولها الخالية من اي بارقة امل.
نريد وطن هذا الشعار الذي رفعه المتظاهرون عبر بصدق عن شعور الاغتراب الذي يعاني المواطنون منه طوال سنوات حياتهم
فالوطن يعني الامان ولا آمان في العراق
الوطن يعني الاحترام ولا احترام في العراق
الوطن يعني الحياة ولا حياة في العراق
الوطن يعني الرعاية ولا رعاية في العراق
الوطن يعني الامل في السعادة ولا امل ولا سعادة في العراق
الوطن يعني الطمأنينة ولا طمانينة في العراق
الوطن يعني الحرية ولا حرية في العراق
الوطن يعني السلامة ولا سلامة في العراق
الوطن يعني ان تملك بيتا او حتى ملاذا، وليس ذلك متوفر في العراق
الوطن يعني العمل ولا عمل في العراق
كل شيء سلبته الطبقة السياسة المتنفذة والمسيطرة على سوق العمل وسوق التوظيف وعلى البرلمان وعلى الجيش وعلى الشرطة وعلى التجارة وعلى النفط.
اما الزراعة فقد اماتوها حتى اصبح العراق غريبا حتى عن نفسه، فطبيعته الجميلة تحولت الى صحاري وبيابي لا تعيش فيها سوى القوارض التي تتغذي على اجساد الموتى.
نريد وطن
عبارة تتضمن الكثير ولا تقول الكثير، انها من النوع المختصر المفيد.
اغلب الناس التي خرجت متظاهرة لا تعرف من السياسة ومن حبائلها سوى ما تعيشه وتكابده في حياتها اليومية، هذا الزخم الجماهيري الكبير يريد تحسين حياته، يريد الاحترام في دوائر التعامل، يريد ان لا يتسرب اطفاله من المدرسة بسبب الفقر، يريد ان لا يعيش مهددا بهدم كوخه على رأسه رؤوس اهله ليعيشوا الضياع، يريدون عملا واملا.. هؤلاء لا تهم السياسية الا بالقدر حقوق الانسان المنتمي الوطن.
لكن تعامل السلطة الدموي معهم اخبرهم واكد لهم ان حياتهم عند الطبقة السياسية الحاكمة برئاساتها الثلاث وكافة شرائحها المسيطرة، لا تساوى سوى عبوة مسيلة للدموع يطلقها شرطي من قوات حفظ النظام او مليشياوي اسلامي او رصاصة قناص لا يتعدى ثمنها الا بضع سنتات.
قد يدرك الناس، اذا لم يدركوا الحقيقة بعد، بان الجيش والشرطة ليس سوى جهازين للقمع بيد الحكومة وان لا الورع ولا التقوى ولا التدين يمنع من قتل الانسان لاخيه الانسان من اجل منصب او مال او كرسي في دولة دينها الرسمي هو الاسلام ويستند دستورها وقوانينها على التشريع الاسلامي.
المشكلة الي يواجهها العراقيون هي ان كامل الطبقة السياسية فاسدة، وان اغراءات السلطة كبيرة وكثيرة يسيل لها اللعاب، ولن تبتعد عن الحقيقة ان تصورت المرشحين للبرلمان والسياسيين والصحفيين والشعراء والملالي والتجار بالكلاب التي يسيل لعابها عند رؤية لحمة او عظمة مغرية.
الامتيازات والمخصصات والرواتب الضخمة لعبت دور الخميرة في الفساد، ولا يمكن اجتثاث الفساد من جذوره دون تغير كلي لقوانين التمايز الطبقي الذي مكنت الطبقة السياسية من السيطرة الكلية على المال وسلبت الوطن من الشعب.
يبقى ان نشير الى ان هذه الانتفاضة وان كان زخمها عفويا، الا انها ليست كما تبدو، اذ اي هبة شعبية لا بد لها من محرك، ولا اعتقد ان معاملة الحكومة للخريجين الذين تظاهروا مطالبين بفرص عمل هي الشرارة التي فجرت برميل البارود.
اتمنى ان لا يكون من خلف هذه الانتفاضة الباسلة من الذي يسيل لعابه او من الذي يُمني نفسه بالعظمة. اقول هذا وانا ارى ان النغمة اصبحت سياسية اكثر منها مطلبية، اي ان حل الحكومة والبرلمان لا يقترن بسن قوانين جديدة تكون بديلا عن قوانين الامتيازات والمخصصات والحمايات والمحسوبية والمنسوبية، بل لم نعد نسمع ايضا بمحاسبة الفاسدين وسوقهم الى المحاكمة.. لقد بدأت نغمة السياسة تعلو على نغمة الحقوق وهذا مؤشر خطر قادم، اذ لا نود ان ننتهي بالمثل القائل ريتك يا ابو زيت ما غزيت.