النقد العلمي المادي لمنظور الديالكتيك عند ماو تسي تونغ - 4


الأماميون الثوريون
2019 / 11 / 12 - 22:31     

رينا فيما سبق، كيف أن ماو، لم يجرؤ على الخوض في مسائل العلوم الحقة، الدقيقة، كما فعل لينين قبله، واكتفى بسرد بعض خلاصات لينين، محاولا تبسيطها، بهدف إزالة المثالية في تصورات مناضلي حزبه الشيوعي، خاصة في أوساط الشباب ـ هذا الكتاب عبارة عن محاضرة في الكلية الحربية والسياسية المناهضة لليابان في يانآن في 1937 ـ فهو إذن عبارة عن دروس تكوينية، لهذا لا يسمح له الوقت بأن يخوض في المسائل العلمية الحقة، فما بالنا بنقل قوانينها من الطبيعة إلى المجتمع، وهما مجالات مختلفان جذريا، إلا في المسائل المتعلقة بالقوانين العامة للحركة، في الطبيعة والمجتمع، في علاقة المادة بالحركة، هذا ما يمكن أن يبرر بساطة مضمون هذا الكتاب، واحتمال ورود الأخطاء فيه.

وفي أحد نصوص هذا الكتاب جاء ما يلي :"ومن الواضح أن الأسباب الخارجية الصرفة لا يمكن أن تؤدي إلا إلى الحركة الميكانيكية للأشياء، أي إلى تغييرات في الحجم والكمية، لكنها لا تستطيع أن تفسر لماذا تختلف الأشياء نوعيا ذلك الاختلاف الذي لا يمكن حصره، ولماذا يتحول الشيء من نوعية إلى أخرى. والواقع أنه حتى الحركة الميكانيكية المسببة عن القوى الخارجية تتحقق هي الأخرى بواسطة التناقض القائم باطن الأشياء."، إلى حد الآن لم يجرؤ ماو على السير بالتناقض إلى ما لا نهاية، مشارا فقط إلى أن التناقض موجود في العلاقة الخارجية للأشياء، من أجل حصر "التناقض الرئيسي"، كما سماه، في باطن الأشياء.

وهنا، يبخس ماو دور التأثيرات الخارجية على باطن الأشياء، ويقول أنها ليست أساسية، وهنا يقع في التناقض مع مضمون الديالكتيك، الذي يدحض وجود المطلق بعينه، كمطلق، دون علاقته بالنسبي، فكما قال لينين في كتابه "حول الديالكتيك" :"إن الذاتية )الريبية والسفسطائية، .. إلخ( تختلف عن الديالكتيك، فيما تختلف عنه، بما يلي، وهو أن الفرق بين النسبي والمطلق هو أيضا نسبي بنظر الديالكتيك )الموضوعي(. فبنظر الديالكتيك الموضوعي يوجد مطلق في النسبي. أما بنظر الذاتية والسفسطائية، فالنسبي ليس سوى نسبي، وهو ينفي المطلق.".

وهنا، يقع ماو، في الذاتية والسفسطائية، لكونه يحاول تبسيط ما لا يمكن تبسيطه، إلا في حدود حصره في تناول حالة معينة، محددة، في مجال معين، في الطبيعة والمجتمع، في العلاقة بين المادة والحركة، دون أن يكون القانون الذي تم استخلاصه نهائيا، ونتائجه تكون نسبية، وعملية الديالكتيك فيه محددة، لا تتجاوز ما تم حصره، في الزمان والمكان، مع نوعية المؤثرات المحددة لذلك، كما يفعل الفيزيائيين عندما يحصرون نقطة معينة، في مستوى معين، أو مجموعة معينة من النقاط، لتطبيق قانون السرعة، في علاقتها بالمادة والحركة، دون أن ينسوا، أن نتائجهم نسبية إلى حد ما، هذا في مستوى الميكانيك، أما على مستوى الكوانتوم، فالنسبية ترتفع، لكون الأشياء لا ترى بالعين المجردة، وفي حالات أقصى، لا ترى أبدا، إنما يتم تخيلها، وتطبيق قانون التناقض عليها، باعتباره قانونا موجودا في الطبيعة، كما هو الشأن في سرعة الضوء، التي أبهرت علماء العلوم الطبيعية.

إن ماو، ومن خلال هذا الكتاب، لم يدرس أبدا العلوم الحقة، حق قدرها، خاصة الفيزياء، ونظرية الكوانتوم، التي تناولها لينين في نقده للتجريبيين، هذه النظرية التي أحدثت أزمة في الفيزياء، وغيرت التفكير من النظرة الميكانيكية للأشياء، والمادة، إلى النظرة النسبية لمعارفنا عن العالم، هذا على مستوى العلوم الطبيعية، أما على مستوى علم الاجتماع، فالماركسية أعطت إجابات صحيحة لهذه الأزمة، التي أدخلت التشويش في ذهن علماء الفيزياء البرجوازيين، فما بالنا بجماهير العمال والفلاحين الفقراء بالصين، ذلك ما جعل النظرة إلى العالم لذا أساتذة العلوم الطبيعية، وخاصة الفيزيائيين، تتسم بالمثالية الذاتية، لعدم قدرتهم على استيعاب الديالكتيك الماركسي، هنا جاء دور لينين، الذي نور العلماء الطبيعيين بروسيا الاشتراكية، مما ساهم في تطور النظرة العلمية لديهم، وأنتجوا أعمالا علمية عظيمة، الشيء الذي ساهم في تطوير الصناعة بالاتحاد السوفياتي.

أما في المجتمع، فالنسبية في هذه النتائج، تكون جد مرتفعة، ذلك ما أبهر ماو، عندما لاحظ أن مناضلي حزبه، لم يستوعبوا مضمون الديالكتيك الماركسي، فحاول في محاضرة اختزال ما يمكن اختزاله، في مضمونه المادي، وحصره في قانون التناقض، الذي بدوره حاول اختزاله، وحصره في بعض مقولات لينين، محاولا تطبيقها على العالم، لكن بشكل بسيط، حيث ذهب بعملية الديالكتيك، محاولا تطبيقها، لكن على مستوى أدنى من تعاليم الماركسية، وفي تطبيقها على المجتمع، بنقل قانون التناقض من الطبيعة غلى المجتمع، لكن بشكل ناقص، ذلك ما يتناقض وتاريخ تطور الفكر البشري، من الديالكتيك البدائي لدى الهنود والإغريق، إلى نظرية النسبية عند إنشتاين، والعلماء الفيزيائيين البرجوازيين، وتصحيح أفكارهم من طرف لينين، هنا يبدو عمل ماو بسيطا، ففي 1937، لما قطعت نظرية النسبية أشواطا في التطبيق والنقد، والتناقض بين المثالية الذاتية، التي أحدثتها، والديالكتيك الماركسي، مازال ماو يعطينا أمثل من عهد اليونان القديمة، وقوله :"فالبيضة تتبدل في درجة حرارة ملائمة فتصير كتكوتا، ولكن الحرارة لا تستطيع أن تحول حجرا إلى كتكوت، لأن كل منهما أساسا يختلف عما للآخر."، إنما يدل على هذه البساطة، والتعامل الساذج مع الآخرين.

ومقارنة "البيضة" ب"الحجر"، لا يمكن نعته إلا بالسذاجة في التفكري، حيث لا مقارنة بين الجسمين، بين المادة الحيوية، والمادة الصلبة، وهنا يمكن أن نتحدث عن المطلق، في الهدف الذي وضعه ماو، لكن في قانون التناقض، يمكن أن نبين أن في كلتي الحالتين يوجد تناقض داخلي، فقانون التناقض يسري على المادة في علاقتها بالحركة، والحركة تختلف من مجال إلى مجال، من جسم إلى آخر، حسب الزمان والمكان، والشروط المحيطة به، فعامل الحرارة يؤثر في البيضة والحجر معا، لكن النتائج هي التي تختلف، ذلك ما يريد ماو تفسيره، لكن يبقى، تفسيره محصورا في مستوى أدنى من الديالكتيك، حيث لم يدفع به إلى أعلى مستوى، وهو أن الحجر يمكن أن يذوب في مستوى عال معين من الحرارة، كما أن البيضة لا تعطي دائما كتكوتا، إلا في شروط معينة، وهي أن تخضع أولا للتلقيح، في علاقة ذلك بمدة زمنية معية، ومحددة، قبل تعرضها للحرارة، وفي شروط ثانوية أخرى، أن لا يمسها جرثوم في مدة تعرضها للحرارة، فهل تلقيح البيضة مسألة ثانوية ؟

فبدون تلقيح البيضة، لا يمكن الحديث عن التناقض الباطني في البيضة، الذي يعطي الكتكوت، هنا تكمن سذاجة استعمال البيضة من طرف ماو، لتفسير التناقض الباطني، الذي يرجع بنا إلى سؤال أصل العالم، لا ما يجري في العالم، إلى أصل المادة الحيوية، وهنا يكمن الفرق بين الديالكتيك الماركسي عند لينين، في انتقاده للتجريبيين، وبين ديالكتيك ماو في مستوى أدنى من المعرفة الساذجة.

وإذا أردنا الدفع بالديالكتيك إلى مستوى عال، انطلاقا من مثال ماو حول "البيضة"، يمكن أن نطرح السؤال الرائج في الأوساط الشعبية : هل الدجاجة سابقة أم البيضة ؟ للجواب على هذا السؤال، ننطلق من كون البيضة الملقحة هي التي تعطي الكتكوت، وبما أن التلقيح يجري بين كائنين حيويين، فإن وجود كائنين أولين، أو مجموعة من هذه الكائنات، على مستوى الخلايا الحيوية، ذات صفة الذكورة، وذات صفة الأنوثة، في المجال الطبيعي الحيوي، كما هو الشأن في جميع الكائنات الحية، بعد نشوء عالم المادة الحيوية، وتلقيحهما، بازدواجهما، في وحدة، تسمى بيضة، يحكمها التناقض، في ظل صراع الضدين، كما أوضح لينين ذلك في كتابه "حول الديالكتيك"، ولا يمكن أن نتحدث عن التناقض الباطني، الداخلي، بدون ازدواج الاثنين، خلية الذكر وخلية الأنثى، في مثال البيضة، ولكن أين يكمن "التناقض الأساسي" هنا ؟ التناقض هو قانون، يحكم الضدين أينما تواجدا، في ظل الوحدة، في الطبيعة والمجتمع، ما هو أساسي وثانوي هو الصراع بين الضدين، لكن هذا كما رأينا سابقا، يحكمه ما يحكم المطلق والنسبي، العام والخاص، في جميع الأشياء، وفي الصراع في المجتمع، وفي مستوى عال للصراع في المجتمع : الاستراتيجي والتكتيك، في عملية الجدلية بينهما، ففي النسبي مطلق، وفي الخاص عام، وفي التكتيك استراتيجي ...إلخ.

وهنا لا أعتقد أن ماو، في هذا الكتاب، يسعى إلى تطوير الديالكتيك الماركسي، بقدر ما يريد تبسيطه حتى يكون في متناول أعضاء حزبه، الذين تشوب تصوراتهم النظرة المثالية للعالم، وما يجري في الحركة الاجتماعية، يجري في الحركة المعرفية.

ونرى على مستوى قانون التناقض، فقد توصل كانط إلى مفهوم التناقض وسماه الجوهر النهائي، ، لكنه لم يدفع به إلى مستوى عال، إلى الديالكتيك، وانطلق هيغل من التناقض عند كانط، وانتقد هذا المفهوم، وأسس مفهوم الصيرورة الجدلية : العلاقة بين الأشياء سبقت وجودها، أي قانون التناقض، وهو أساس تكوين الأشياء، في العلاقة داخل الأشياء، وليست خارجها، ولا خارج الأشياء فيما بينها، وهو التناقض الداخلي، الذي يعتبر جوهر كل شيء، وانتقد ماركس مفهوم التناقض عند هيكل، لكونه صاغه داخل الفكرة المطلقة، وهو مفهوم مثالي، وأخرج جدلية هيغل من الفكر إلى الواقع، انطلاقا من الواقع الملموس، من الجدلية المثالية إلى الجدلية المادية، وصاغ مفهوم التناقض التناحري، وهو جوهر الحركة، الذي يجعل أحد الضدين ينفي الآخر في وجوده وليس في تماثله، كما هو الشأن في الصراع الطبقي.

ولا يعتبر ماركس الدولة حلا للتناقضات الاجتماعية، كما أقر هيغل في مفهومه للتناقض، بل هي مجالا لصراع الضدين، في ظل قانون النفي ونفي النفي، تنتهي بالقضاء على أحد الضدين المتناحرين، وفي نفس الوقت يتم تناقض تناحري جديد في ظل صيرورة جدلية جديدة، والجوهر ليس شيئا ثابتا، بل هو معطى متحرك.

نرى فيما سبق كيف تحول مفهوم التناقض، عبر عملية النفي ونفي النفي، من مفهوم كانط، مرورا بمفهوم هيغل، وصولا إلى مفهوم ماركس، من الجوهر المطلق، مرورا بالفكرة المطلقة، وصولا إلى المادية، من اللاعرفانية، مرورا بالمثالية الذاتية، وصولا إلى الديالكتيك الماركسي، الذي طوره لينين، بالدفع به إلى الأعلى، في نقده للعلماء التجريبيين، الذين يريدون تجاوز الماركسية، باسم تطويرها، فسقطوا في اللاعرفانية.

ودفع لينين بنفي النفي، في صراعه ضد الإمبريالية، وبناء أول مجتمع اشتراكي، تقوده البروليتاريا بقيادة حزبها الثوري، لكن ليس بشكل مطلق، بل في ظل صراع الضدين، حيث لم يتم نفي الإمبريالية بشكل نهائي، بل بقي الصراع بين الضدين متواصلا، على المستوى العالمي، الذي قاده ستالين بعده، في العلاقة التناقضية، بين الاشتراكية والإمبريالية، بعد انتصار الاتحاد السوفييتي الجزئي على الإمبريالية، وبناء الوطن الاشتراكي، وفي ظل وجود مجتمعات مضطهدة، ومن بينها المجتمع الصيني، الذي حاول ماو، قيادة حرب التحرير ضد المستعمر الياباني، بقيادة حزبه الشيوعي، الذي تعوقه البنية الاجتماعية، ذات الأسس ما قبل ـ رأسمالية، مما طرح أمامه إعادة بناء مفهوم النظرة العلمية المادية إلى العالم، في ظل سيطرة الإمبريالية اليابانية، التي دخلت الحرب الإمبريالية العالمية الثانية في 1939، سنتين بعد كتابة هذا الكتاب، وامتدادات الحرب في أوج الصراع بين الاشتراكية والإمبريالية، وانتصار الاتحاد السوفييتي الجزئي على الإمبريالية بقيادة ستالين في 1945، في الوقت الذي مازالت فيه الصين من التناقضات الداخلية واستمرار الحرب من أجل السلطة، والتي لم يتم حسمها جزئيا إلا في 1949، لتبرز تناقضات جديد أمام الحزب الشيوعي الصيني.

وفي هذا الجزء الأول من الكتاب بعنوان "نظرتان إلى العالم"، تتضح في طرحه، البساطة في الأسلوب وتناول مسألة التناقض، كما أشرنا إلى ذلك سابقا، حيث لم يستطع ماو الغوص في ديالكتيك القضايا العلمية في العلوم الطبيعية، العلوم الحقة، كما فعل لينين في 1916، خلال الحرب الإمبريالية الأولى، وسنة بعد وضع كتاب "في التناقض"، وفي 1938، عرفت العلوم الفيزيائية تطورا هائل، على مستوى تفاعلات مكونات الذرة، خاصة ذرة اليورنيوم، عبر تأثير امتصاص النوترون من طرف نواة اليورنيوم، الذي يؤثر على نواته، ويقسمها إلى جزأين، مما ينتج عنهما إشعاع هائل، يؤدي إلى انفجار عظيم، بملايين درجات الحرارة، التي تحرق الأخضر واليابس : نواة القنبلة الذرية، التي تم إسقاطها على اليابان في غشت 1945، التي وضعت حدا للحرب الإمبريالية الثانية، وللحرب الإمبريالية اليابانية على الصين، دون أن ننسى دور الاتحاد السوفييتي، وفي نفس السياق، في مسألة التناقض، هل تقسيم الواحد هنا إلى اثنين تم عبر التناقض الباطني فقط ؟ أم أن دخول جزء خارجي هو الذي أحدث هذا التحول الكبير ؟ مما أدى إلى تقسيم الواحد إلى اثنين، وإحداث افجار هائل وغير مجرى الحروب الإمبريالية ؟