أيوب..الرهان الجائر وجدلية الايمان والتجديف(7).


ماجد الشمري
2019 / 11 / 12 - 19:55     

ومن اجل الاستحواذ على روح ايوب وعقله،يلجأ الله الى المزيد من عرض تحفيات خلقه،وانتيكات احياءه،فيسترسل،في سرد عجائب انتاجه وتدبيره،وكيفية تصريفه،وتحكمه بقوانين ونظام العالم،ورائحة الغرور والنرجسية تفوح من كلماته،حين يقول:"من وهب للطاووس جناحين بهيين؟.وانت..أتعطي الفرس قوته،وتكسو رقبته شعرا مرسلا؟.أتجعله يقفز مثل الجراد،ويصهل مثل صهيله الهائل؟".ما نلاحظه هنا:ان الرب من اجل ان يربك أيوب ويبهره،ويشل عقله بموضوعات وكائنات يعرفها ولايعرفها في نفس الوقت،كائنات قريبة وآخرى غريبة،ونوعية الاسئلة التي يطرحها لاصلة لها بأيوب،وايضا تعجيزية،يصعب عليه الرد عليها!.وهي اولا واخيرا،لاتعدو عن مجرد استعراض نرجسي للخالق،امام المخلوق العاجز،ونوعا من اظهار هيمنة كلية على الكائنات والكون.تلك الاسئلة المتعلقة ب:مصادر المعرفة،تناسق واتساق المخلوقات،حكمة الرب،الحياة والموت،سعة السماء وجمال الكواكب والنجوم،التنوع الاحيائي،الطبيعة المعقدة والمدهشة بمظاهرها العجيبة والغريبة،ظواهر وآليات الحركة والتنقل،المطر،الثلج،الرياح،العواصف،الجبال،البحار،الخ.كل هذا من اجل سحب وعودة أيوب لحضيرة الرب،يقوم الاله بهذا العرض البانورامي الكبير المفصل.فالله عندما يصف الفرس -هو يقصد الحصان،الذكر،ولكنه يستخدم الانثى:الفرس!.م.أ_بقوته وجماله وصهيله،فهو يذكر أيوب-يستحضر مقارنته بنفسه-بأنه حيوان ضعيف،وقابل للموت،ومثله كذبابة علقت بشبكة عنكبوت،ومفهوم جدا لدى ايوب مايرمي اليه الله من قصد،بتأكيده:ان لاشيء في العالم،كبيرا او صغيرا فوق او خارج قدرته وتحكمه،كل شيء في قبضته،ومن صنعه ،فهو يحي ويميت،فلتفهم ياايوب؟!.وهو ينتقل من حيوان لاخر،تحضر النعامة المسكينة هنا،في امثلة الرب المقررة على ايوب في درسه البايولوجي!.فيسأل الله أيوب عنها ايضا:"ان كان أعطى أجنحة وريشا للنعامة؟".والسؤال هو ضرب من الدعابة المضللة كمايبدو،فالنعامة لاتطير،وليس من داع لذكر جناحيها!.ولكنها دعابة الهية مهيبة تخدم غرضا محددا،وهو:ان الحياة بعيدة الاتساق،وتفتقد الهارموني المنسجم،بل واكثر من ذلك،فهي حافلة بالمتناقضات والمفارقة،وليست خيرا محضا او شرا خالص،والتوافق ينقصها والفوضى تعمها،ففيها العجيب والغريب،والشاذ والمتنافر،والصراع والتناحر.يسعى الله وهو يخاطب مخيلة وتصور أيوب العاجز والقاصر عن توليد صور فوق قدرته وطاقته البشرية،لاضفاء سحره الخالق، في مزج خلائط بدائعه،لاحداث صدمة الادهاش.فعندما يتمثل الله نموذج النعامة،فهو لايعني بمثاله،الرفع من شأنها،بقدر مايشير الى غرابتها العصية على التفسير،كطائر لايطير،بجناحين لا لزوم لهما،وهذا مايدعو للتفكر.فالنعامة-وكمايشرح الله في السفر-طائر يتسم بالغباء واللامبالاة،فهو يترك بيضه في اي مكان،ومكشوفا بلا حماية،وايضا لاتأسف او تحزن على تلف بيضها او التهامه من باقي الحيوانات،ولاتملك فهما او تدبيرا كبقية الطيور.ولكن يبقى مثل النعامة الذي اورده الله سخيفا،يفتقر للرصانة الجادة.من الممكن الدفاع عنه كشكل من اشكال المقارنة مع باقي الاحياء المخلوقة التي تعيش على الارض.والله وهو يترافع امام أيوب مواجهة كأدعاء عام عام سماوي لايقول صراحة:اليكم الدليل على عدالتي ومسؤوليتي وحضوري.فهو يستشهد،ودون تعليق او تفسير،وبخطاب قائم على الاسئلة لاغير،يستطيعه كل شخص،يقتبس من عالم الطبيعة العظيم المنظور،معطياته،والذي هو في نفس الآن تجل لعظمته وجبروته.ومايقوله الله هو صدى لما يقوله كاتب النص الايوبي،كراوي محايد.ف:الحياة تجعلنا نرفض العدالة الالهية،ولكن شيئا لايساعدنا على تفسير معنى:ان طائرا طوله متران،وله جناحان،ولكنه عاجز عن الطيران،وبتسكع بعيدا عن بيضه،رأسه الى السماء،احمق،وكثير النسيان؟!.والله لايجيب:لماذا هو كذلك؟،فهو يصف النعامة لااكثر!.من الطريف والممتع،ان نرى اله أيوب،وكواحد من انجازاته التكوينية،وابداع خلقه،يلتفت لحيوان بغيض وقبيح وشرس،ومغاير لماذكر من عالم الحيوان،مستحضرا ذلك الحيوان-الذي اشار اليه الفيلسوف اليوناني الكبير"ابيقور"كدليل مفند وناف للخلق الالهي للعالم.م.أ-الا وهو "التمساح"!.يقول رب أيوب،مخاطبا عبده،ذاكرا ميزات حيوانه الكريه:التمساح.:"لافكرة لديك عن كيفية خلقي اللوياثان-في السفر الايوبي،يسمي الرب:التمساح،ب"اللوياثان.م.أ-ناهيك عن السبب،اللوياثان خطر،وليس جميلا بصورة خاصة،وعلاقته بالبشر تتسم بالعداء الشديد،وغالبا ما تكون مهلكة".وهو يصف تمساحه،يحاول الرب ان ينزع تصور ايوب القبلي،وتفسيره لمسلك الرب،بغرور غير محتمل،وايضا التأثير بأصحابه الثلاثة المؤمنين وذوو النية الحسنة-هل كان اصدقاء ايوب يشاركونه في رؤية الله والاستماع لكلامه عيانا؟!-فالتمساح وكما وصفه الرب،كان وصفا أرعب أيوب:"الحديد عنده كالتبن،والنحاس كالخشب المنخور،والسهم لايجعله يركض،النبلة يحسبها قصبة،ويضحك على اهتزاز الرمح".ومن جديد نرى المبالغة والتهويل في الاوصاف التي يذكرها الرب،والنابعة من مخيلة جموح،تنهل من مخيال الهي منفلت،ومبالغ فيه،وتضخيم مهول ومقصود للتأثير على ايوب وارهابه المفترض،ومن ثم اعادته لجادة الايمان الضيقة.ثم يكمل الله وصفه السريالي لتمساحه اللوياثاني قائلا:"حين يغطس التمساح في اليم تغلي اللجة كالقدر"_يبدو ان الله غاب عنه ان التمساح لايعيش في البحار،بل في الانهار والمياه الضحلة فقط.م.أ-.بعد ان شرق الله وغرب في محاضرته الكونية،ومن تفصيل لعناصر الطبيعة وظواهرها المخيفة والعجيبة،الى حيوانات البراري،من:اللبؤة واشبالها،والطاووس والوان ذيله البديع،والفرس،وعدوه السريع،والنعامة وغباءها المريع،واخيرا التمساح وطبعه الشنيع،ينهي الله كلامه فيصمت،ناظرا الى ايوب:عبده الاواب المرعوب،وقد حقق نصره بالرعب.لم يخطر ببال ايوب،ولافكر ابدا، ولاسأل،وهو يستمع لرطانة الله ،عن العلاقة او الارتباط مابين حيوانات الرب،النعامة والفرس والتمساح،وبين وضعه كضحية تعسة،لجور فادح ليس له مسوغ من جرم او ذنب!.وبدلا من ان يجادل الله حول العدل ،وانصافه كانسان بريء عوقب بتجني وغلظة.نجده وعلى العكس يعلن توبته عن تطاوله القبيح على جلالة ورفعة الرب.في اللحظة التي سكت الله عن البوح،يفاجئنا ايوب،وعلى غير المتوقع،بتخاذله المرتد عن تمرده الشجاع،وشكه الواعي،واعتراضه الجريء،والذي لم يستمر طويلا مثل صبره وتحمله لسنين،وهو يواجه الله متراجعا القهقرى،منكفئاالى نسخة متكررة كثيرا في الادب الديني:عبد اواب تواب ،يطلب السماح والغفران والعفو،تاركا براءته المنتهكة،وظلمه الشنيع،ليمشي من جديد على سكة الله وصراطه المستقيم.وهذا السلوك من ايوب،يرضي غرور الله طبعا ،ولكنه يصدمنا بأنهزاميته وهدر كرامته المخجل،بعد تلك الثورة العارمة.وهاهو يغمغم،بأنكسار وذل مؤسف،ويعترف بأثمه وصغاره،وتجاسره على الله،قائلا بنبرة التواب المذنب:"تكلمت بكلام باطل على معجزات لاادرك مغزاها،سمعت عنك سمع الاذن،والآن رأتك عيني،لذلك استرد كلامي،واندم،وانا هكذا في التراب والرماد"-يبدو ان المستوى المعرفي-العلمي والفكري لله وايوب والكاتب متطابق جدا وجامع وليس هناك من متقدم او متأخر ،او خارج عن الدائرة الثقافية والعقلية لمجتمعات النمط العبودي،فعصرهم واحد،لذا فتفكيرهم لايختلف،وهم يقفون على نفس ارضية عصر الايمان ،والسائد من الثقافة والدين والقيم،ولن نتوسع في الاسترسال،حتى لانخرج عن اطار ومتن السفر الايوبي،موضوعنا الاساسي،وقرائتنا التحليلية للنص،واشتراطنا عدم تجاوز اطاره المحدد لاغير.م.أ-...
بعد ان ابدى ايوب ندمه الاخرق،وقدم مراسم وفروض الطاعة،والتراجع المهين عن ثورته الخاطفة.استعاد الله زمام السيطرة والتحكم،فشرع بمعاقبة اصدقاء ايوب،لقصور فهمهم،وفقر ماقالوه،وهزال منطقهم.وأعاد بناء مادمره وخربه،وكأن شيئا لم يكن،مجرد سحابة صيف مرت وولت!.لتعود المياه الى مجراها الطبيعي،ويعود الصفاء والوفاق ليسود العلاقة بين الله وايوب.فقد عوض الله لايوب خساراته الفادحة،بمواشيه(مضاعفة):14الف من الغنم،و6آلاف من الابل،وألف فدان من البقر،وألف أتان.ومن جديد رزقه ب:7بنين و3ينات كن من اجمل فتيات الارض،فأعطاهن ابوهن ميراثا الى جانب اخوتهن!.لانعرف ان كان ابناءه هم انفسهم اللذين هلكوا،ام خلق جديد سريع من الله،ام بطريقة التناسل البشري الطبيعية؟!.م.أ_.وعاد الاصحاب والاقرباء ليحيطوا بأيوب-اين كانوا عندما كان ايوب اجربا ووحيد يتألم دون عون او مواساة،وكيف غفر لهم أيوب وفي قلبه جرح النبذ والاهمال؟!،لانعرف ايضا!.م.أ_الذي عاش140عاما،وهو يهنأ برؤية بنيه وبني بنيه لاربعة اجيال!.ومات ايوب شيخا،وقد شيع من الايام!.انها قصة ميلودرامية جميلة تهديء النفوس،وتنقي وجدان المؤمنين،وتترك اثرا بليغا عن مكافأة الله الختامية لعبده الاواب أيوب!.قد تكون النهاية سعيدة،وهي فعلا سعيدة ومفرحة لايوب واسرته واصدقاءه ولقراء السفر،ولكن ماهو المغزى،والغاية من هذه الحكاية التوراتية،او الرواية الشعبية التي دونت في الكتاب المقدس؟!وماهي الاهداف التي تقصدها كاتب النص ومبدعه؟!.هل هي:قصة ايوب وحده كانسان مبتلى،ام هي قصة الله العادل،ام قصة الشيطان والاعيبه؟!.ماهو موضوع او تيمة القصة الايوبية؟:هل هو رهان الله-الشيطان المزدوج والمتنافر،تلك اللعبة الرهانية المتسلية بأقدار،ومصائر البشر،مقامرة عبثية خاضعة لمشيئة-مزاج الله مرة،ولأهواء ونزعة الشيطان في دفع الانسان للزلل والشك والكفر بالله،غريمه-ربه،ولأثبات دونية وهشاشة ابن آدم ،مرة آخرى؟!.ام هي مروية الانسان الممتحن ازليا،والمجبر على الدخول في تجربة التطهير والتطهر،والنجاة من الشرير،بخوض غمار الصبر والثبات من خلال الفجيعة الشاملة؟!.ام هي امثولة الانكسار والانسحاق والركوع تحت وطأة الضعف البشري،ومحدودية الارادة،وقدرة الجسد؟!...
..................................................................................................................................................................
يتبع.
وعلى الاخاء نلتقي...