خطايا المرجعيّة الشيعيّة الأربع


سلام عبود
2019 / 11 / 12 - 00:48     

يوم أمس الأوّل، السبت، التاسع من تشرين الثاني، بثّت "قناة العراقيّة" عراضة عسكريّة من العيار الثقيل، موجّهة إلى الشعب العراقيّ، قام بها منتسبو الاستخبارات العسكريّة باللباس العسكريّ، بمصاحبة عربات هجوميّة مصفّحة. وقد تزامنت العراضة مع قطع الانترنيت، وبثّ وتسريب أخبار تؤكّد التحضير لعمليّة اقتحام ساحات الاعتصام.
ربّما يتساءل كثيرون بدهشة بالغة: وما الغريب والجديد في هذا السلوك الترهيبيّ؟
وأنا أقول: لا غريب ولا جديد في بلد يُقتل فيه أكثر من ثلاثمئة متظاهر، ويجرح فيه أكثر من أربعة عشر ألف إنسان، ولا تسقط حكومة، أو يسقط حاكم، أو تسقط حتّى قطرة خجل.
لا غريب في بلد تكتبُ فيه قناة إخباريّة وطنيّة اسمها "هنا بغداد" أعداد ضحايا القمع الحكوميّ في شريطها الإخباري على النحو التالي: "سجلت مفوضية حقوق الانسان 267وفاة ". تخيلوا "وفاة"! بالضبط مثل وفاة المرحوم حسين بن علي في تظاهرة الطّفّ الاحتجاجيّة! يا للعار! حتّى الحكومة القاتلة تكرّمت يوم أمس بوصفهم شهداء، لكي ترشو ذويهم.
لا غريب في بلد يطالب القتلةُ من ضحاياهم الاستمرار في الاعتصام والتظاهر، والموت أيضاً!
لا غريب في بلد يتعهد فيه اللصوصُ بحماية ثروة الشعب، ويطالب فيه الفاسدون معونة ساحات الاعتصام لتمكين الفاسد من تحقيق الإصلاح الثوريّ المنشود. لا غريب في بلد يتعهّد فيه الفاشلون، خلال أيّام، بإصلاح ما فشلوا فيه طوال عقد ونصف، وفي بلد يقوم فيه الرئيس "المؤتمن" على مصالح شعبه بمساومات شخصيّة وضيعة مع عدد من المتظاهرين غير المتمرّسين، محاولاّ شراء ذممهم وصمتهم، تحت غطاء سماع مطالبهم "حقوقهم"، التي تضمنت "دفع تعويضات لأهالي الموتى"!
لا غريب في حاكم فاسد يرشو شعبه بقطع للأراضي العشوائيّة، من دون خطط عمرانيّة إنمائيّة متكاملة، في بلد يغرق في الفساد الإداريّ والمجاري والمزابل.
لا غريب في بلد يديره حاكم أحمق يصحو فجأة، وبطرفة عين، يقوم بنثر "حزم" الوظائف كالرز و"شيلان الزهرة"، من دون ربطها بخطّة نهوض اجتماعيّ واقتصاديّ منتج، في بلد ريعيّ منهوب الأرض والسماء.
لا جديد ولا غريب في هذا، لكنّ الغريب والجديد يكمن في صمت المرجعيّة العليا المبطّن، الصمت الملتوي!! المرجعيّة التي ندّدت برفع صورها من قبل "بعض" المتحاصصين، لكيلا تُتهم بالانحياز لطرف محدّد، ولكي توزع دماء العراقيين على قبائل السياسة بالتساوي، مستخدمين "تكتيكات" كفّار الجاهليّة ضد الرسول محمد والإمام عليّ، المرجعية التي لم تسمع دويّ وهدير ووعيد مسلّحي العراضات العسكريّة، وهم يبثون رسائل الذعر، رافعين اسمه الشخصيّ على رؤوس أسلحتهم، وليس صورته حسب. رافعين الاسم شعاراً للترهيب في صولتهم ضد الشعب: "سستاني يا تاج الراس!"
يا تاج رأس قوّات الاستخبارات العسكريّة، أيّها الأعلى، ليست الاستخبارات وحدها من يعرف كيف يقيم عراضة. استمعوا إلى عراضة التاريخ لكي تستعيدوا ذاكرتكم.
المرجعيّات الشيعيّة متهمّة بأربع خيانات وطنيّة تاريخيّة كبيرة، سكب العراق بسببها دماً غزيراً.
الأولى حينما قرّرت المرجعيّة، بنوبة كرم بلهاء، استقدام حاكم إلى أرض العراق من غير أبنائه، والذي تسبب، في النهاية، بكارثة على الجميع، حتّى على العائلة الحاكمة المنكوبة نفسها. لقد رفض الشعب السوريّ، قبول تلك المشورة المشؤومة والهديّة السامّة. لكنّ شيعة العراق، العرب منهم حصريًّا، بتسامحهم وطيبة نيّاتهم وإيثارهم الحسينيّ، مصحوبة بجهلهم السياسيّ المتوارث، لم يفهموا اللعبة جيّداً. حاول الملك غازي عبثاً أن يعدّل البوصلة العائليّة الحاكمة، لكنّه لم يفلح، لذلك أزيح بقتل غامض، معروف البصمات، عقاباً على نزوعه العراقيّ الصادق. وإذا اغتفر التاريخ لهم تلك الخطوة الخاطئة، لحسن النيّات، فإنّ مرجعيّة محسن الحكيم الطبقيّة الطفيليّة، تتحمّل وزر دماء آلاف العراقيين جرّاء فتواها القاتلة. فتوى "الشيوعيّة كفرٌ وإلحاد"، التي صدرت في لحظة غادرة، في مجتمع منقسم، محتقن، مأزوم. لقد نطق الحكيم كفراً باسم المرجعيّة العليا أيضاً، لكنّه كفرٌ لم نزل حتّى هذه اللحظة نتجرّع كؤوسه المرّة احتراباً.
الخطيئة الثالثة حينما صمتت المرجعيّة العليا على غزو أربع وأربعين دولة أرض "العتبات المقدّسة"، ولم تنطق حتّى مصانعة، أو لذرّ الرماد في العيون، فسجّلت اسمها في سجلّ الخالدين. وعلى المرجعيّة أن تعرف أنّ إسقاط سلطة الطغيان البعثيّ أمر وتهديم الدوّلة العراقيّة، وتحطيم بنى المجتمع العراقيّ، ومنظومات قيمه، أمرٌ آخر تماماً. لنتوقف هنا قليلاً ونقيم تصفية حسابات تاريخيّة سلميّة: لقد تستّرتم على ثلاث إدارات حكوميّة أجنبيّة حكمت بلداً مستقلًّا، وهو الفعل الإجراميّ الأوّل في التاريخ العالميّ الحديث كلّه. إدارة غاي غارنر، حكومة بول بريمر، ثمّ حكومة مجلس العملاء المحليين، التي أطلقت وقادت ثورة الفساد، وشرّعت وأرست مبادئ النهب العلنيّ للثروات، وهدر الحقوق، وامتهان كرامة الشعب، التي نجني ثمارها السامّة اليوم في لحظتنا هذه. هذا ما أعنيه. إنّها جرائم أخلاقيّة شنيعة، قبل أن تكون جرائم إدارة وسياسة.
تتفاخرون بفتوى الجهاد الكفائي ليل نهار، وتنسون أنّ تجييش الجيوش في بلد مثل العراق هو أسهل المهمّات، وأنّ إطفاء الحرائق هو أصعبها. العراق منطقة تجييش تاريخيّة منذ دول ما قبل التاريخ، مروراً بالفتح الإسلامي، وبدول الممالك، وبالاحتلال العثمانيّ والبريطانيّ، وبقادسيّات صدام، وصولاً إلى الاحتلال الأميركيّ. فتواكم الجهاديّة منقوصة، ومثلومة، ومتآكلة، لأنّنا كنّا نأمل من دمائها السخيّة الطاهرة أن توّحد الوطن أرضاً وشعباً، لا أن ترسم خطوط تماسّه الطائفيّة والعرقيّة، بتجميد حركة اتصال مكوّناته، وعزل تفاعله جغرافيًّا وشعوريًّا وسياسيًّا. لأنّكم نسيتم (!!)أن تدرجوا فيها قانون محاسبة من أجرم وتسبب في سقوط المدن والضحايا من أبناء الشعب. لا، بل صمتّم على جريمة إعادة تنصيبهم طغاةً، عابرين للإدانة، يتسلّطون على رقاب الشعب العراقيّ مجدداً. على من تضحكون! إذا كانت الموصل قد سقطت خلال بضع ساعات، فإنّ مركز الأنبار سقط خلال بضع دقائق، ولم تُطلق على العصابات المهاجمة قنبلة مسيلة للدموع واحدة! وها أنتم تحاصرون فتية العراق بقنابلكم السامّة ورصاصكم لشهر كامل، دفاعاً عن المنطقة السوداء. أين الله! أين الله الذي يرفرف اسمه في علمنا خائفاً، مرتجفاً، في ظلّ هذه المعادلات اللئيمة! تتحدثون غمزاً ولمزاً، بحياء مدهش، وربّما "تقيّة" عن أياد امتدّت من "العقود الماضية"، تقف خلف بعض ما يجري. يا للخفر! أنا أقولها في وجوه الجميع بصوت عال: ليس اسمهم "العقود الماضية"، اسمهم الحقيقيّ نظام الطغيان البعثيّ، الذي ذهب لكي ترث الكتل المتحاصصة شروره، ولكي تضيف إليها شرورَها المرعبة. نعم، هناك خطوط إعلاميّة ناشطة عراقيًّا وعربيًّا وعالميًّا تعود إلى أتباع " العقود الماضية "، وأخرى تعود إلى أتباع عقود لم تمض بعد، ما انفكت تدير العراق من مطار بغداد، ومن القواعد المنتشرة على أرض العراق. ولكن، من مكّنهم وسيّدهم؟ أليس نظام المحاصصة، الذي رفض رفضاً قاطعاً قيام مراجعة وطنيّة تاريخيّة حقيقيّة، على قاعدة المصارحة والاعتراف بالخطأ والمحاسبة، وفضّلتم سياسة شراء الذمم، فملأتم المؤسسات بأرذلهم، أرذلهم حسب: وزارات الثقافة والمؤسسة العسكريّة والإعلام، وصولاً حتّى أعلى هرم قياداتها. من فعل ذلك؟ الشعب! المتظاهرون! المندسّون! "العقود الماضية"! من فعل ذلك، ومن صمت على ذلك؟ الشعب يتندّر متسائلاً: ما الفرق بين عبد الكريم خلف والصحاف؟ ألستم أنتم من فعل هذا؟ لا أعرف إذا كان الاسترسال مفيداً، لكي أجعل البعض يعي ويدرك الفارق بين سقوط " العقود الماضية " وبين سقوط المجتمع العراقي كاملاً، السقوط المرعب، الذي نراه الآن بأمّ أعيننا في هيئة مجازر علنيّة، مباركة باسم المرجعيّة العليا، التي تحجم حتّى هذه اللحظة عن تسمية اسم من أعطى أوامر قتل المواطنين وسوقه إلى القضاء العادل. إنّ الذين يلمّحون إلى وجود الأيادي الأميركيّة الخفيّة هم عملاء أميركا المباشرين والعلنيين على هذه الأرض، وهم عملاء لكلّ الشياطين.
إنّ من يدعمهم صمتُكم المقدّس، من قادة الكتل الطائفيّة والحزبيّة، لا يزالون حتّى اليوم يرفضون أن يقولوا لنا: كيف قُيّض للإدارة الأميركيّة الحنون أن تجعلهم شركاء أساسيين ومتنفذين في حكم هي من قامت بصناعته؟ أهو جهاد كفائيّ أميركيّ؟ أين ذهب الشيطان الأكبر في هذه المعادلة السحريّة، الإبليسيّة؟
ثمن الصمت المقدّس، صمت "المراجع العليا"، بات معروفاً الآن، أليس كذلك؟
صدق من قال: لا حياء في الدين!
واليوم، يقف الشعب أمام الجريمة التاريخيّة الرابعة: قتل أبناء الشعب. وأعني به حصريًّا، اللعب اللغويّ الحاذق، والتحايل الخطابيّ لإخفاء أوامر قتل الناس علناً، بالصورة والصوت، بضمائر مستريحة، من دون أدنى شعور بالمسؤوليّة، ومن دون خوف من حساب أو عقاب، من دون خوف من عابد أو معبود.
أنا أسألكم الآن سؤالاً بريئاً إلى حدّ السذاجة: من أين أتى سكان "المنطقة السوداء" بهذه الشجاعة فوق البشريّة، وبرودة الدمّ الأسطوريّة؟ من أين يستقون تطميناتهم، التي نهضت فجأة منذ يومين، مع تصاعد هدير العراضات العسكريّة؟
لكم أن تتخيّلوا: أكثر من ثلاثمئة قتيل، وأكثر من أربعة عشر ألف جريح ومصاب!
ربّاه! هذا دمٌ كثيرٌ، ومصابٌ رهيبٌ، يفوق قتلى وجرحى معارك بدر وأحد والخندق والطّفّ مجتمعة!
ما "أكفر" صمتكم المقدّس!
دويّ صمتكم المرعب، يغور في أعماقنا حتّى النخاع!
ممّا لا شكّ فيه أنّكم لا تملكون جواباً.
وممّا لا شكّ فيه أنّني ملزم، لهول الفاجعة العراقيّة، أن أجيب بنفسي عن سؤالي، فنحن شعب يجيد الهذيان:
أعيدوا سماع عراضة جنود الاستخبارات العسكريّة وهم يرفعون بنادق القنص! أعيدوا سماع صراخهم الجنونيّ، العدوانيّ: "سستاني يا تاج الراس"! أعيدوا سماعها لكي تفهموا.
أيّها المرجع الأعلى: إنّهم يذبحون الشعب باسمك! باسمك أنتَ، وليس باسم عادل عبد المهديّ أو المالكيّ أو العباديّ، أو من لفّ لفّهم من اللصوص الفاسدين.
باسمك أنت، يا "تاج الراس"!
باسمك المرجعيّ وحده يلهجون وهم يقتنصون الأبرياء، يبسملون وهم يسدّدون قنابلهم السامّة إلى الرؤوس، بحقد الأعداء.
إنّ واجب المرجعيّة الأوّل والأخير، كما أحسب، هو فكّ الاشتباك المصيريّ بين عدالة رب السموات المنهوبة من اللصوص، وبين عدالة الشعب، التي تذبح على وقع عراضات الاستخبارات العسكريّة المتوعّدة: "سستاني يا تاج الراس"!
خريطة الطريق المقترحة والسلميّة موجزة، وواضحة، وبسيطة: كونوا حزباً سياسيًّا صريحاً، ينتخِب ويُنتخَب، يضع خرائط الطريق، ويقود الجيوش، ويحكم؛ أو انصرفوا إلى شؤون الدين والعبادة والفضيلة والإصلاح الروحيّ، ودَعوا السياسيين يتحمّلون بأنفسهم شرور أعمالهم إنْ أخطأوا، ويحصلون على الثناء الذي يستحقّونه إنْ أصابوا.
لا وجود في دساتير الشعوب لشيء اسمه مرجعيّة عليا أو دنيا. أنتم فصلٌ افتراضيّ مقحم من دستور لا وجود له، إلّا في مشاريع وأخيلة الفاسدين، ممن يريدون الاحتماء بالصمت المقدّس. فلا تكونوا دستوراً مضمراً، خفيًّا، لمن لا دستور أخلاقيًّا أو قانونيًّا يحكمه.