هشاشة التنظيمات الإسلامية


عبد الرحمان النوضة
2019 / 11 / 8 - 15:40     

من أين تأتي قُوَّة الإسلاميين؟ تأتي من كثرة عددهم. ومن أين تأتي كثرة عددهم؟ قد تأتي من فَعَالِيَة تَـفَاعُلِهِم مع الجماهير. ومن أين تأتي فعالية تـفاعلهم؟ تأتي من كونهم يستغلّون التَعَلُّق العَاطِفِي لبعض المواطنين بالدِّين. وهذا التعلّق العاطفي بالدّين يتطّور عبر الزمان، ولا يبقى مُستـقرًّا. ولَا تَنْغَرِسُ عَادَةً التنظيمات الإسلامية الأصولية إِلَّا في البيئة المُجتمعية التي يكون فيها الجَهْلُ والفقرُ سَائِدَين. وحينما يُعَوِّض جيلٌ جِيلًا آخر، أو حينما تحدث ثورة نَوعِيَة في ثـقافة الشعب، يُحْتَمَل أن تَنْهَار، أو أن تَنْدَثِر، التنظيمات الإسلامية الأصولية. وبقدر ما يرتقي المستوى الثقافي للشعب، يَتَـفَهَّم المواطنون أكثر فأكثر معقولية منع تأسيس أحزاب على أساس الدّين. وحتّى إذا بَقِيَ التَدَيُّن في المُجتمع مُتَوَاصِلًا كما كان الماضي، فإن عَمَلِيَة بِنَاء أحزاب سياسية رِجْعِيَة على أساس فهم وَهَّابِي مُتَسَّط للإسلام، سَيَتَطَوَّرُ بالضّرورة، وسيكون مآله، على المَدَى المُتوسّط أو البعيد، هو الزَّوَال. فَالْقُوّة المُفترضة لَدَى الإسلاميين، تبـقى مبنية على أساس مُعَرَّض للتغيير، وهَـشِ، وعَابِر، وزائل. وكلّ مَنْ يبني استراتيجيته على عناصر مُؤَقَّتَة، أو سريعة الزوال، (مثل عُنصر التحالف المُفْتَرَض بين يساريين وإسلاميين)، فهو كمن يحاول بناء قلعته بالطِّين، بالقرب من أمواج بحر هائج. ويمكن لقوى اليسار، إن هي قامت بِتَـقْوِيم وتَـثْـوِير نفسها، أن تُنْجِزَ أكثر بِكثير مِمَّا أنجزته الأحزاب الإسلامية الأصولية.
وعلى خلاف اِنْبِهَار بعض المناضلين (مثل الرفيق الحريف) بالقوة الحالية لتنظيمات الإسلاميين الأصوليين، أعتبرهم نُمُورًا مِن وَرَق. ولماذا؟
أولًا، لأنهم لَا يستمدُّون قوتهم سوى من جَهْل المواطنين الشعبيين، ومن اسْتِلَابِهِم. ويَلْتَـقِي النظامُ السياسي المَخْزَنِي القائم مع التنظيمات الإسلامية الأصولية في كَونهما مَعًا يَسْتَغِلَّان جَهْل المواطنين. ويحتاجان، هُمَا مَعًا، إلى دَوَام هذا الجَهل المُـقَدَّس. وبِقَدْرِ ما يكون المواطن جَاهِلًا وفَـقيرًا، بِقدر مَا يَنْجَذِبُ بِقُوَّة نحو الأَيْدِيُولُوجِيَة الإسلامية الأصولية. وبقدر ما يكون المواطن مُـثَـقَّـفًا أو مَيْسُورًا، بقدر ما يَنْـفُرُ من هذه الأيديولوجية الإسلامية الأصولية. لأن الإسلام الأصولي يَكْبُتُ حُرِّيَات الأنسان. وبإمكان اليسار أن يُـقَلِّصَ جَهْلَ المواطنين بِسُرعة نِسْبِيَة، مثلًا عبر استغلال وسائل التواصل والتثـقيف الحديثة (وخاصة منها الأنترنيت، والتلفزة). بشرط إنتاج واستثمار مَضَامِين ثَـقافية مُلَائمة، وجَيِّدَة. ويمكن لليسار أن يَدْحَضَ مزاعم الإسلاميين عَبر الفَضْح المَنْهَجِي والمُتَوَاصِل لِكُلّ خُرَافاتهم، وأخطائهم.
وثانيا، لأن مستوى تكوين أعضاء وأنصار الإسلاميين هو بطبيعته هزيل، وضعيف، ولأنه غَالِبًا ما يَنْبَنِي على أساس اِسْتِلَاب خَفِيّ، وجَهْل مُـقَدَّس. ونجد أن ثَـقَافَة أغلبية أعضاء وأنصار الأحزاب الإسلامية الأصولية ضعيفة. وأنهم يَكْتَفُون بدراسة القرآن أو الحديث، لكنهم لَا يدرسون جِدِّيًا لَا المُقَارَنَة بين الأديان، ولا التاريخ، ولا الجُغرافية، ولا الاقتصاد السياسي، ولا الفلسفة، ولا العلوم الدقيقة، ولا القانون، ولا العلوم السياسية، ولا الأدب. بل يدفعهم فكرهم الإسلامي الأُصُولِي إلى رَفض دراسة أيّ علم دَقِيق. وَيُقَرِّرُون الاكتفاء الحَصْرِي بِدِرَاسَة التُرَاث الدِّيني المُـقَدَّس. ويَتَوَهَّمُون، في نفس الوقت، أنهم يعرفون كل شيء، وأنهم يفهمون كل شيء !
وإذا كان النظام السياسي القائم بالمغرب يَتَحَمَّلُ وُجُود "تنظيم العدل والإحسان" وأمثاله، فَلِأَنّه يُدْرِكُ أنهم ضِعَاف. ولأنه يَقْدِرُ، بِهُجُوم واحد، وفي يوم واحد، أن يَشُلَّ هذا التنظيم الإسلامي بكامله. ولأن النظام السياسي يعتبر أنه بإمكانه، في مرحلة حَرِجَة، أن يستعمل هذه التنظيمات الإسلامية لضرب، أو لأضعاف، قِوَى اليسار الثوري. ويتذكّر الجميع أن أوّل تنظيم إسلامي أصولي تَكَوَّنَ بالمغرب في قرابة سنة 1973، هو «الشبيبة الإسلامية». وكان تكوينها بِتَشجيع، وبِرِعَايَة، وتَأْطِير، وزارة الداخلية، وأجهزة المُخابرات، بهدف محاربة التنظيمات الثورية. وكانت الضَحِيَة الأولى التي اغْتَالَتْهَا الخَلَايَا الإسلامية الإرهابية، التَابِعَة لِهذه «الشبيبة الإسلامية»، هي أكبر قائد ثوري في المغرب آنذاك: الشهيد عمر بنجلون.
وعلى خلاف ما يظنّه البعض، فإن القُوّة الأساسية لدى التنظيمات الإسلامية الأصولية، لَا تأتي من خِبْرَتِهَا المُفًتَرَضَة في مجال التَجَذُّر في الجماهير الشعبية، وإنما تأتي قُوّتها من إمكاناتها المَالية، التي تَحْصُل عليها عبر شبكات سرّية، قد يكون مَنْبَعُهَا الرئيسي، أو الأصلي، في المَمْلَكَات البِتْرُولِيَة في الشّرق الأوسط، أو أحيانًا عبر وكالات أو مُخَابَرَات تابعة لِلْإِمْبِرْيَالِيَات الغربية. وبَيَّنَت لنا التجربة في سوريا، بين سنتي 1911 و 2019، أن مجمل التنظيمات الإسلامية الأصولية كانت مُمَوَّلَة من الخارج. وتَأْتِي قُوّة التنظيمات الإسلامية الأصولية من قُدْرَتِهَا على شراء ضَمائر بعض المواطنين المَـقْـهُورين من طرف الجَهل والفَـقْر. وَتَكْسِبُ وُدَّ مواطنين مُعْوِزِين عبر تـقديم خدمات مُتنوّعة، أو مُساعدات مادّية لهم. وكُلّ مُهَادَنَة من طرف قوى يسارية لِقوى إسلامية أصولية تَسْتَقْوِي بِمال "البِتْرُو–دُلَارْ" (pétrodollars)، الآتِي من الشَّرْق الأَوْسَط، أو من مَال البرجوازية المحلية، سَتَكُون بِمَثَابَة انتحار غير وَاع.
وتأتي قوّة الإسلاميين الأصوليين، في كثير من الحالات، من مَال "البِتْرُو-دُّولَار" (pétro-dollars) الممنوح من طرف الدول العربية البترولية، عَبْرَ شبكات سِرِّيَة. [بينما تَضْطَرُّ كثير من قوى اليسار إلى تَـقْلِيص، أو إِلْغَاء، كثير من أنشطتها، بسبب عدم قُدرتها على تمويلها]. وأَمْوَال "البِتْرُو-دُولَار" مَسْمُومَة، أو "مَلْعُونَة". حَيْثُ لَم تَجْلُب معظم المِلْيَارَات من البِتْرُو-دُّولَار، المُستخلصة من عائدات تصدير البترول أو الغاز، سِوَى التَبَعِيَة لِلْإِمْبِرْيَالِيَة، أو التَخَلُّف، أو الانحطاط، أو الخَرَاب، أو الاستعمار المُـقَنَّع (في السعودية، والإمارات، وقَطَر، وعُمَان، والعراق، والجزائر، ولِيبْيَا، إلى آخره). وتحتال الإمبرياليات الغربية لِغَرس الطائفية في البلدان المُسلمة، وتُؤَجِّجُ فيها التناقضات والعَدَاوَات، وتُخرِّبُ بلدانا بكاملها (مثلما فعلت في العراق في سنة 2003، ثم قي سُوريَا في سنوات 2012، وفي اليمن في سنوات 2018، ومثلما تُريد أن تفعل في إيران في سنة 2019). وتُشْعِل الإمبرياليات حُروبًا مُـفْتَعَلَة، أو مُصْطَنَعَة، لِتَدْمِير كلّ شيء. ثم تستـفيد الشركات الإمبريالية من عمليات «إعادة البناء»، أو «إعادة الإعمار». وتُدِيمُ الإمبرياليةُ في هذه البلدان الحاجةَ إلى اسْتِيرَاد كلّ شيء. وتُبْقِي الإمبريالياتُ البلدانَ العربيةَ أو المُسلمةَ في حَالَة التَبَعِيَة، والتخلّف، والضُّعف، والانحطاط، لِتسهِيل المُنَاوَرَة بها، ولِإِطَالَة استغلالها. ومعنى الكلام السّابق هو أن قُوَّة التنظيمات الإسلامية الأصولية تكون في معظم الحالات مَبْنِيَة على أُسُـسٍ هَشَّة، وعلى علاقات مَشْبُوهَة، ويكون مآلها، في كثير من الحالات، هو التَبَعِيَة، والعَمَالَة، ثم الاِنْحِطَاط، ثم الحرب الأهلية، ثم الخَراب، ثم الزَّوَال.
قد يقول قائل أن التنظيمات الإسلامية الأصولية هي نابعة من «قَاع» المجتمع، أو أنها «أصيلة»، أو «عَرِيقَة». وهذا زعم خاطئ. لأن التاريخ يُكَذِّبُه. وإلى حدود سنوات 1960، كان الإسلام المتواجد لدى الجماهير، مثلًا في بلدان شمال إفريقيا، يَتَّصِفُ بالاعتدال، وبالتَسَامُح، وبالتواضع، ولم يكن هذا الإسلام فيها لَا غَازِيًّا، وَلَا مُكَفِّرًا، ولَا عَنِيفًا، ولَا عُدْوَانيًا، ولَا جِهَادِيًّا، ولَا وَهَّابِيًّا، ولَا طَالِبَانِيًّا، ولَا دَاعِشِيًّا. أمّا أَصْنَاف التنظيمات الإسلامية الأصولية الموجودة حاليا، فلم تكن لَا معروفَة، ولَا موجودة، في بلدان شمال إفريقيا (قبل سنوات 1975). ولم تظهر تاريخيا التنظيمات الإسلامية الأصولية في بلدان شمال إفريقيا إِلَّا بعد نشر مذهب «الإسلام الوَهَّابِي»، المُسْتَوْرَد من السعودية، أو من الإمارات، بواسطة أموال "البِتْرُو-دُلَار". وحتى تنظيمات «الإخوان المسلمين» التي ظهرت في مصر، فقد تمّ تحويلها من إسلام مصري محلّي، إلى «إسلام وَهَّابِي»، بِقُوَّة تأثير أموال "البِتْرُو-دُولَار".
ويُؤَكِّدُ بعض المُتخصِّصين في شُؤُون التنظيمات الإسلامية، أن الأحزاب والمِيلِيشْيَات الإسلامية الأصولية قد تَأَسَّـسَت، وتَكَاثَرت، في ارتباط باحتدام الصراع بين الشَّرق والغَرب (في أَفْغَانِسْتَان، وبَاكِسْتَان، وسُوريا، والعراق، ومصر، واليمن، وليبيا، والصُومَال، إلى آخره). وكان الفاعلون الخفيّون، الذين يُمَوِّلُون تكوين الأحزاب والمِيلِيشْيَات الإسلامية الأصولية، هم إمَّا الدول البِتْرُولِيَة (مثل السعودية، والإمارات، وقطر، وتُورْكْيَا)، وإمَّا الأجهزة السِرِّيَة، أو المُخابراتية التابعة للدول الغربية الإمبريالية. وكانت هذه الأحزاب والمِيلِيشْيَات الإسلامية الأصولية تُسْتَعْمَلُ، في مُعظم الحالات، لِخِدْمَة أهداف القوى الإمبريالية. ولا تخدم مصالحَ أيّ طرف مُسلم. وكان الضحايا الرئيسيون للحركات الإسلامية الأصولية، ليسوا من إسرائيل، ولا من الغرب الإمبريالي، وإنما من المُسْلِمِين المَدَنِيِّين والفُـقَرَاء. وكان الأشخاص المُنَـفِّذُون في هذه الأحزاب والميليشيات الإسلامية الأصولية يتحرّكون كَمُرْتَزِقَة، ولا يَعْلَمُون لا مَنْ يُمَوِّلُهم، ولا مَن يُوَجِّهُهُم في الخفاء. وقد انفضح بشكل جَلِيّ في سوريا، منذ قرابة سنة 2018، أن مُمَوِّلِي ومُوَجِّهِي مُجمل الحركات والمِيلِيشْيَات الإسلامية الأصولية هم خُصُوصًا الأنظمة العربية البترولية الرِّجعية، والإمبريالية الأمريكية، وتُرْكِيَا.
وأصبح اليوم واضحا أنه كلّما أرادت الأنظمة العربية البترولية الرجعية، أو القوى الإمبريالية، أو إسرائيل، أن تُـفْشِلَ نُهوض حركات جماهيرية ثورية في أي بلد مُسلم، فإنها تلجأ إلى تكوين، وتمويل، وتسليح، أحزاب أو مِيلِيشْيَات إسلامية أصولية، وتُحرّكها سِرِّيًا، عبر الاستعانة بمخابراتها، أو أجهزتها السِرِّيَة (مثلما حدث في سُوريا، ولِيبيا، ومصر، وتُونس، والسُّودان، إلى آخره).
.
رحمان النوضة
[مُـقْـتَـطَـف من كتاب جديد لرحمان النوضة تحت عنوان: "نـقد تعاون اليساريين مع الإسلاميين"]
[يُـتْـبَـع]