نموذج مفضوح للمتاجرة بالدين


كمال الجزولي
2019 / 11 / 1 - 23:43     

في يوم القضاء على الفقر
نمُوذَجٌ مَفْضُوحٌ لِلمُتَاجَرَةِ بِالدِّين!

اليوم الدَّولي، السَّابع عشر من أكتوبر، يعيد إلى الذَّاكرة التَّصريحات المثيرة التي تداولتها، مطلع سبتمبر من العام الماضي، الصُّحف الورقيَّة والإلكترونيَّة السُّودانيَّة، حين شدَّد عبد الله سيد احمد، الرَّئيس السَّابق للجنة الماليَّة والاقتصاديَّة وشؤون المستهلك بمجلس ولاية الخرطوم التَّشريعي المحلول، وأحد قياديِّي حزب المؤتمر الوطني، الواجهة السِّياسيَّة للحركة الإسلامويَّة التي حكمت البلاد طوال الثَّلاثين سنة الماضية، على «عدم جواز مكافحة الفقر!»، قائلاً: «من يزعم أنه سيحارب الفقر يعني أنه سيحارب الله سبحانه وتعالى»! وإمعاناً في دغدغة المشاعر، والضَّحك على الذُّقون، وتبرير فشل النِّظام المدحور، أشار القيادي الإسلاموي إلى «أن الخليفة عمـر بن الخطاب كان يتفقَّـد 30 بيتاً فقط، وليس 8 ملايين بيت كما في السُّـودان»!
تمثِّل تلك التَّصريحات، بلا شكٍّ، ضرباً صارخاً من ضروب المتاجرة المفضوحة بالدِّين، والتي تفتقر إلى محض مزعة لحم تغطي ولو ملليمتر مربَّع واحد من وجهها، مقارنة بكلِّ الضُّروب الأخرى التي شاعت من فوق كلِّ المنابر، وعبر جميع أجهزة ومؤسَّسات الصَّحافة والإعلام التَّابعة لنظام الإسلام السِّياسي، منذ بداية سيطرته على مقاليد السُّلطة في البلاد بانقلاب الثلاثين من يونيو عام 1989م، حيث درجت أغلب تلك الضُّروب على الاجتهاد في تغطية عوراتها بمختلف التَّلاوين والحِيَل التي تتمسَّح بأطراف الفِقه، فلم يحدث أن بلغ أحدها مثل هذا السُّفور في الكذب على الله كالذي بلغته تصريحات ذلك القيادي الإسلاموي!
حجر الزَّاوية، إذن، في هذا «الفقه السِّياسي» المنتحل «دينيَّاً» هو «عدم جواز مكافحة الفقر!»، كون «الفقر» صناعة «الله»، لا «الحكومة»! وتنبع خطورة مثل هذه الأقوال من ترك شؤون «الدِّين» و«الفُتيا» نهباً لمن يطلقون على أنفسهم لقب «رجال الدِّين»، ويدَّعون أنهم وحدهم الذين خصَّهم الله بمعرفة «الفقه» الصَّحيح، ومن ثمَّ «الفتوى» الصَّحيحة، رغم التَّعميم الذي ساقه النَّبي (ص) في قوله: «من أراد الله به خيراً فقَّهه في الدِّين». فليس صحيحاً، بالتَّالي، أن المناهج التي ينبغي التَّعويل عليها، في التَّربية، والتَّعليم، والصَّحافة، والإعلام، لأجل فضح وتجاوز هذه «التِّجارة» الكاسدة، هي ما يستفاد من دارج الإطلاقات المجَّانيَّة للتَّكايا الفكريَّة التي هي أبعد ما تكون عن انضباط مفاهيم العلوم الدِّينيَّة الأصيلة، أو دلالات الثَّقافة القدسيَّة الجَّليلة.
وعلى العكس مِمَّا ذهب إليه المسؤول السَّابق في النِّظام الإسلاموي البائد، فإن هذه المفاهيم والدَّلالات تنصبُّ، بكليَّاتها، على اعتبار الفقر أحد أخطر مسبِّبات الأمراض التي تتهدَّد المجتمعات الإسلاميَّة، فهو خطر على العقل، وعلى العقيدة، وعلى الأخلاق، وعلى الأسرة، وعلى المجتمع بأسره، بل إن النبي (ص) درج على إحالة الكفر ذاته إلى الفقر، والتَّعوُّذ من شرِّهما. وبالتَّالي فإن محاربة الفقر واجبة دينيَّاً ودنيويَّاً، حيث تشير الإحصاءات المعتمدة إلى أن 45 دولة إسلاميَّة هي، الآن، ضمن الدَّول الفقيرة، وأن 90% من المسلمين حول العالم يعيشون، حاليَّاً، تحت خط الفقر، وأن هذا الواقع المزري هو المسؤول عن أكثر الظواهر الوخيمة، كانتشار الجريمة، وتفاقم الفساد، والتَّحلل الأخلاقي، وتردِّي السُّلوك العام .. الخ. فلئن كان علم الاجتماع، وعلم النَّفس، وعلم الجَّريمة، وعلم الاقتصاد، وعلم السِّياسة، وما إليها من العلوم الدُّنيويَّة، تقرن بين هذه الظواهر وبين الفقر بمعناه الشَّامل، مادِّيَّاً وروحيَّاً، وتحيلها إلى شرٍّ عمومي مستطير يفكِّك أمن المجتمع، ويهدِّد سلامته، ويزعزع استقراره، فالتَّعاليم الإسلاميَّة توجز كلَّ ذلك الشَّرِّ في مسبِّب عام هو «الشَّيطان»، وليس أدلَّ على ذلك من قوله تعالى: «الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ» (سورة البقرة).
صحيح أنه ما من شئ يقع في هذه الحياة دون إرادة الله؛ لكن إرادته نفسها هي التي جعلت الفقر كفراً، كما سبق أن أوردنا، وأوجبت محاربته، على العكس مِمَّا ذهب إليه القيادي الإسلاموي. فالنَّبي (ص)، الذي لم يكن ليتكلم إلا بما يوحي إليه، هو القائل: «كاد الفقر يكون كفراً» ـ عن أنس (رض). وهذا ما فهمه عنه الصَّحابة الأجلاء الذين شهدوا القرآن يتنزَّل على النَّبي (ص) طازجاً، فقال عليٌّ (كرَّم الله وجهه) في (نهج البلاغة): «لو كان الفقر رجلاً لقتلته»، وقال: «ما اغتنى غنيٌّ إلا بفقر فقير»، وأقسم أنني ما فهمت مقولة «فائض القيمة» الدُّنيويَّة قدر ما فهمتها عن طريق هذا النَّصِّ الدِّيني. وقال أبو ذرٍّ، ضمن المشهور من أقواله: «أعجب لرجل لا يجد القوت في بيته، ولا يخرج على النَّاس شاهراً سيفه». ولو أن الله، سبحانه وتعالى، كان قد اعتبر، من جهة، محاربة الفقر كفراً، ونهى العباد عنها، لما كان قد اعتبر الفقر نفسه، من جهة أخرى، مشكلة، ولما حضَّ نفس هؤلاء العباد على اتِّباع نظام اقتصادي متكامل لحلِّها، حيث أمرهم، مثلاً، بممارسة النَّشاط الاقتصادي الحلال في جمع المال، ناهياً عن كنزه، وحاثَّاً على الإنفاق على الفقراء والمساكين، بل ومساوياً بين هذا «الإنفاق» وبين «إقامة الصَّلاة» و«الإيمان بالغيب» في قوله: «ذلكَ الكِتَابُ لا رَيْبَ فيه هُدىً لِلْمُتَّقِين، الذِيْن يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومِمَّا رزقناهم ينفقون» (البقرة، 2)؛ مثلما جعل الزَّكاة بمثابة حقٍّ للفقراء في مال الأغنياء «وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ» (المعارج، 24 – 25)؛ وشرع الكفَّارات والنُّذور لمساعدة الفقراء؛ كما حثَّ على تفريج كُرَب المحتاجين، كما في قول النبي (ص): «من فرَّج عن مسلم كربة في الدُّنيا، فرَّج الله عنه بها كربة من كُرَب يوم القيامة» (أخرجه مسلم)؛ وبقدر ما أعلى الله من قيمة الإنفاق، والتَّصدُّق، وتفريج كُرَب الآخرين، بما وعد من خير الجَّزاء، بقدر ما حطَّ من عاقبة الرِّبا الذي هو من معيقات التَّنمية اقتصاديَّاً، كما وأنه، أخلاقيَّاً، من الأثرة، والأنانيَّة، وشحِّ النَّفس، لقوله تعالى: «يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ» (البقرة، 276)؛ وعموماً جعل الله الفقر نقمة، وحضَّ على التَّعاون في معالجتها بطريق «التَّكافل الاجتماعي»، حيث «المسلمون كالجَّسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسَّهر والحمَّى»؛ أفلا يوجب كلُّ ذلك على أدعياء الإسلام السِّياسي مراجعة أنفسهم؟!