أيوب..الرهان الجائر وجدلية الايمان والتجديف(6).


ماجد الشمري
2019 / 10 / 30 - 18:38     

من اللافت والغريب،ان أيوب وعبرسفره الطويل،لم يستخدم او يستشهد او يقتبس اي نص توراتي،ولاحتى كلمة في خطابه،ومرافعته الاتهامية فلا اشارة،ولاقولا اوتلميحا او احالة،وهذا امر بالغ الغرابة،ويدعو للاستفهام؟!.فهناك الكثير من الاسفار،فيها مايدعم او يؤيد محاجته،منطقا وبينات،ووقائع،واحداث،ومرويات،ومشابهات،الخ،مناسبة جدا،تخدم غرضه،وتشهد له،فلم لم يلجأ لتلك النصوص،وهو يستعرض احوال العالم ومتناقضاته،وكان بأمكانه وبسهولة ان يقتبس منها تأييداعضدا وسندا،يعزز من احكام حججه،وهو يرافع ببلاغة وشاعرية عن خلو العالم من العدل،وانهيار القيم والمعايير؟!.مرد ذلك وجزئيا -كمانعتقد-،ان السفر الايوبي كتب باستقلالية ومعزل عن بقية الاسفار في الزمان والمكان،لذلك لم نجد اصداء او انعكاسات لباقي الاسفار تركت اثرا او ملمحا في متن السفر يثبت ذلك!..ان كل من يقرأ السفر الايوبي-كما نعتقد-وخصوصا القاريء اليهودي،سيتسائل حتما،وهو يستحضر ايوب خيالا،وفي ايامه العصيبة،ومحنته الالهية،تلك الشخصية الفذة في ورعها وصلاحها وبرائتها،وسؤاله الضمني الخفي هو:هل كان اشعيا محقا في ترانيمه النسكية المسبحة بالعدالة الالهية؟!..في نشيده الشعري الخاتم،والجدي في لومه،وسفور اتهامه لله يقول ايوب:"الاشرار يمضون في افعالهم،الاشرار ينقلون التخوم،ويسلبون القطعان،ويخفونها،يستاقون حمار اليتيم،ويرتهنون ثور الارملة،يزيحون الفقراء عن الطريق..يخطفون اليتامى عن الثدي،ويرتهنون الاطفال المساكين فيذهبون عراة لالباس لهم،ويحملون الحزم وهم جائعون،من المدن يخرج النحيب،وتستغيث نفوس الجرحى".ومع كل هذا-يفكر ايوب بصوت عال-لايعاقب الله هؤلاء الاوغاد،ولايمسهم بسوء،فيمعنون في غيهم واجرامهم.اليس ذلك غريبا وفاضحا؟!.:"فيقوم القاتل عند الصباح ويفتك بالبائس المسكين".و"عين الزاني تترقب الغيمة ليضعها قناعا على وجهه".و"يسرق البيوت في الظلام،ويغلق على نفسه في النهار،لقاء هذا الشر المتعمد،نصيبهم ملعون في الارض".وتترى اسئلة(المعذب)باحثة عن الفهم و الوضوح:"لماذا يفلح القاسي؟".و"تنساه الرحم،وتستطيبه الدود،واسمه لايذكر بعد،الشرير ينكسر كالشجرة،يسيء الى العاقر التي لاتلد،ولايحسن الى الارملة".وكما نرى بعين ايوب الدامعة،وقلبه الكسير،فلاعدل هنا،و العدل الالهي ماهو الاطرفة سخيفة،وبلا معنى!.فعدل الرب الايوبي هو ظلم بواح في حقيقته،واباطيل مخادعة تنطلي على الحمقى.فالرب يعطي لمن:"لايحسن الى الارملة"الخير والفلاح،ولكنه يعصف بثروة ايوب،ويبطش بأبناءه وعبيده،ويتركه صفرا اجرب في القيمة والجسد،كل ما يتمناه هو الموت!.كفر ايوب بعدالة ربه،ولكنه لم يخرج بأستنتاج اواستدلال منتبه يعي،او يتسائل عن وجود عدالة لدى البشر ام لا؟!.وغاب عنه انه هو نفسه كان تجسيدا مرئيا،وايقونة بشرية للعدل والاستقامة والرحمة،ورفض العسف بكل اشكاله،فهو يرعى ويساعد الارامل والايتام،والله يسلبهم معيشتهم الشحيحة،ويدلل ويكرم سالبيهم واعدائهم!.لحظة ايوب التجديفية،كانت جريئة،صريحة،وواعية في تشخيص المسؤولية الكاملة،لكل مظاهر الظلم والقسوة والفوضى التي تغرق العالم،،والتي تقع على عاتق الله وحده.وما فاضت به لائحة الاتهام الايوبية من بنود وادلة وتفاصيل تدين وتجرم الله بلا ادنى شك،وتضعه في دائرة الادانة،مع وفرة المعطيات المعززة بدقائق المجريات.:"ان قلت:فراشي يعزيني،ومضجعي يخفف شكواي،روعتني بفظائع الاحلام،وباغتني برهيب الرؤى،فأرى الحنق افضل شيء لي،والموت خير من عذابي،من الاسى لااحيا طويلا".نجد هنا ان كاتب السفر الايوبي-وهو حكواتي من الطراز الاول-يفسح المجال واسعا لايوب في الاسترسال الدفاعي عن قضيته-انه الانعكاس المرآوي لمكنونات الكاتب!.م.أ-وبث حججه،وكوامن براعم الشك التي ازدهرت في عقله-والتي مع الاسف ذبلت بسرعة وتبددت!.م.أ_عندما يقول:"لماذا التمهل طالما لامفر من الموت؟".ينساق ايوب وراء تهوره في النقد،وادانة القسوة والجور الالهي،عندما يعرض البشر،ل:تجارب الآلام والعذاب والحزن،والحداد على الاحبة،والاشفاق على الذات المنكوبة،والقلب المكلوم المحطم.لم عليه ان يأمل بان وضعه سيتغير،وينظر اليه الله بشفقة،ويبدل حاله،وهو قاب قوسين من الموت؟!.لماذ ينبغي على اي انسان،وهو ينشد الراحة في النوم ان يتعرض للكوابيس؟!.يمضي ايوب في كيل اتهاماته للرب،وقلبه يرتجف،محاولا ان يواسي نفسه بقرب فناءه،والذي سيختم عذابه،فيتجلد متشجعا،وهو يستمد قوة من توقع موته الرحيم القادم.ورغم غضبه من الله الا انه يعزي نفسه بفكرة،ملاذه الآمن،نعمة الموت التي سيمنحه الله له كنوع من خلاص مؤكد،فينطق:"تذكر،حياتي نسمة ريح،مثلما يضمحل السحاب ويزول،كذلك من يهبط من عالم الموت لايصعد،الى بيته ابدا لايعود،ومكانه لايتعرف عليه،لذلك لاامنع نفسي من الكلام شاكيا بمرارة النفس ضيقي".ونحن نقرأ سفر ايوب،ننتبه الى انه مرارا كان يلح في سؤاله:"لماذا الله غائب،والحكمة مختفية؟".متمنيا،ان كان ممكنا ان يدخل يوما بيت العدل الالهي المزعوم،ويقابل الله وجها لوجه،وخلافا للمألوف،يطرح عليه مظلوميته،ويطالب بأجابات على حيرته،وهو البريء المعذب،بلا ذنب!.ولكن الله لايبرر ولايفسر نفسه طبعا،فقراراته واوامره وسلوكه طلاسم واحجيات عصية على مخلوقاته،وايضا لايعقد او يقبل محاكمات يخضع هو فيها للاتهام،فهو الديان،بلا شبهة.يعرض جبروته وحكمته وفلسفته العصية على فهم البشر، بغرض الطاعة ولاشيء غير الطاعة.وليس من معنى او حكمة في قرارات الرب،فهي سرية وذاتية يحتفظ بها لنفسه،فهو الفعال المريد وكفى!.
بعد ان استنفذ أيوب كل مافي جعبته،وتقيأ كل مافي روحه من قيح وسواد.يحين دور الرب ليمثل ذروة العرض الختامي.وهنا.. وعبر العاصفة،ينبثق الحضور الالهي،كزيوس اليوناني،وجوبيتر الروماني،يظهر الرب العبراني ليواجه ايوب بمرافعته السماوية الطويلة و الحاسمة.هذه المعجزة الضرورية الطبيعية،ولكن النادرة جدا،لانها لاتحدث كل يوم،فالله لم يتحدث الا مع قلة من الانبياء!.وبعد ان ناداه ايوب كثيرا،يقف الرب وجها لوجه امام ايوب ليضع حدا لثرثرته وتجديفه بحق الاله.بدأ الرب خطابه بغضب عارم،وصوت راعد.وشرع في مرافعته المضادة،واخذ في سرد وتعداد ماجاء في لائحته:من اسئلة عويصة،وانجازات خارقة خفية،وافعال مبدعة مجهولة لايوب،واسرار غير معروفة.ومن العاصفة،وبكلام صاعق،خاطب الله ايوب،مؤنبا،معنفا،مستهينا،مزلزلا بكلماته كل حواس ايوب الواهنة:"اين كنت حين اسست الارض؟".ومن حجز البحر؟"،الخ.وبدلا من ان يجيب الرب على اسئلة ايوب الذاتية،واشكالات الواقع المؤلم المعيش،وماهية الخير والشر،وفحوى العدل والظلم.واستحقاقات البراءة والذنب.ضرب استفهامات ايوب المعلقة عرض الحائط،ليهيم مهلوسا طارقا موضوعات وجوانب مخالفة وبعيدة،ولاعلاقة لها البتة بحال ايوب ومصيره القاتم-
عرب وين،وطمبورة وين؟!-.ايوب في كربه ومأساته يبحث عن معنى العدل وكيفيته، وعن الحكمة ومدى سدادها في معاقبة البريء،ومكافأة المجرمين،اما الله فيستعرض قدرته وعظمته،متفاخرا منتشيا بأبداعه لكل موجودات الطبيعة من حي وجماد.يهذر الرب بنبرة مؤنبة،موبخة،كمعلم يلقي درسا،مقرعا تلميذه تقريعا قاسيا،لبلادته وعدم فهمه لدرس المعلم!.نقرأ في المحاضرة الالهية والتي هي من اندر واطرف النصوص،التي يتحدث بها الله مع بشر بحضور مادي عيانا،ويمارس فيها مباشرة:البروباغندا الالهية الذاتية،ويروج لنفسه،بدعاية تسويقية بيانية بليغة،والتي ستغسل مخ ايوب المتعب لاحقا-هذه هي السيرورة الضرورية للايمان القويم والتقويمي،والخط الواجب اتباعه من قبل كاتب النص الايوبي، والترويج لثقافة الطاعة الدينية للمؤمنين،والتراجع عن كل ضلال ومروق تجديفي-ويجعله ينسى نفسه،ومافعل الله به،فتتلاشى ثورته امام هيبة الرب،ويهيم بسحره،مقتنعا بسذاجة بلهاء:ان الله على حق،وهوضال مقصر،وبانقلاب غير متوقع-وهذا هو المطلوب في الوعظ والارشاد والتربية العبرانية،والعودة الى حضن الله-بعد برهة الانسحاب والشك والنكران والاتهام القصيرة،العودة الميمونة-المصطنعة-لعالم الهدى الجماعي،ضمن خراف الرب.وهذه بعض الجمل-الاسئلة من فيض(الادعاء الالهي،ومحاكمة ايوب على تجديفه)لتفتيت ومحو كل اعتراضاته وشكاويه الكافرة،فزجره بقوله:"هل تمشيت في اعماق الهاوية؟هل انفتحت لك بوابات الموت؟.هل للمطر أب،ومن ولد؟.أين الطريق حيث يسكن النور؟.والظلمة أين مقامها؟.أدخلت الى خزائن الثلج؟.ام ابصرت مخازن البرد؟.صقيع السماء،من ولده؟.هل انت تربط عقد الثريا؟.او تفك ربط الجبار؟.من اين يخرج الجليد؟.من وضع الحكمة في العقل؟.ومن منح القلب الفهم؟.من يحصي الغيوم بحكمته؟.ومن يسكب ازقاق السموات،فيصير التراب سبكا،ويتلاصق المدر؟.اتصطاد اللبؤة فريستها؟.ام تشبع اشبالها حين تقبع بعرائنها،وحين تكمن في ادغالها؟.ووو.في عصر ايوب اسئلة كهذه تبدو مهولة خارقة ليس لها من اجابة،سوى الله فهو الصانع والمسير والمنشيء والمغير،وليس غريبا او مفاجئا ان تندحر ارادة أيوب ،وعطشه للمعرفة،لتنطفيء بعد
بريقها الخاطف،منحسرة،منكفئة،تطلب العفو والغفران!...
..................................................................................................................................................................
يتبع.
وعلى الاخاء نلتقي...