الديمقراطية في التاريخ


محمد المثلوثي
2019 / 10 / 29 - 19:38     

في معالجة أية ظاهرة تاريخية مثل الديمقراطية، الحداثة، العلمانية...الخ، يتبع الأسلوب المدرسي/ الأكاديمي السائد منهج بحث يمكن تلخيصه في:
- عزل الظاهرة التاريخية، موضوع البحث، عن السياق التاريخي الذي فيه نشأت وتطورت، وفيه أيضا نمت كل تناقضاتها. وهكذا تصبح هذه الظاهرة كما لو أن لها تاريخا خاصا، فيكون تاريخ الديمقراطية مثلا هو تاريخ تطور أشكال الحكم (استبدادي، ثيوقراطي، ملكي، جمهوري، وصولا الى نهايته السعيدة في النظام الديمقراطي)، ويظهر هذا التاريخ كما لو أنه تاريخ سياسي محض منفصل عن أساسه المادي.
- معالجة الظاهرة التاريخية كما لو أنها مجرد مفهوم نظري، ويصبح تاريخ تلك الظاهرة هو نفسه تاريخ تطور المفهوم في رؤوس الفلاسفة. وهكذا يصبح التاريخ نفسه تاريخ مفاهيم. ويصبح التطور التاريخي هو نفسه تاريخ تطور المفاهيم. ومنه يظهر التاريخ كما لو أنه تاريخ فكري محض للنظريات والبناءات الفلسفية لا تربطه رابطة بالتاريخ المادي للبشر.
- النظر للظاهرة التاريخية كما لو أنها تنشأ كنظرية في رأس هذا المصلح الاجتماعي أو ذاك لتجد مجالها للتطبيق. أي كما لو أن الظاهرة التاريخية تولد في رأس هذا المفكر أو ذاك كنموذج نظري، كفكرة عبقرية، لتكون هذه الظاهرة مجرد تطبيق (ناجح أو مشوه) لذلك المخطط النظري مسبق الوضع. وهكذا تصبح الحداثة مثلا تطبيقا لاحقا لأفكار مفكري الأنوار، وتصبح الاشتراكية تطبيقا لنظرية ماركس، وتكون الديمقراطية استعادة لأفكار فلاسفة الاغريق.
لا عجب أن يكون هذا المنهج المدرسي هو المنهج المسيطر، ولا عجب أن يتم حقن الجمهور به من المدرسة نفسها الى كل منابر صياغة الوعي العمومية، ذلك أنه منهج الطبقة السائدة، عبر ايديولوجييها وفلاسفتها ومؤرخيها وخبرائها، والتي تستهدف أولا وأخيرا إخفاء كون وجودها ذاته، كما وجود نظامها الاجتماعي ليس حصيلة تاريخ سياسي محض، ولا تاريخ فكري محض، ولا هو تطبيق لهذه النظرية أو تلك، بل هو حصيلة التطور التاريخي المادي للبشرية، أي أن نظامها ذاك لا يعدو أن يكون فاصلة تاريخية لها بدايتها كما لها نهايتها الحتمية حالما تتغير الأوضاع التاريخية التي أنشأتها. وأن المطلوب ليس تغيير الأشكال السياسية أو المفاهيم و النظريات بل تغيير تلك الشروط المادية بالذات، أي تغيير تلك الشروط الواقعية التي جعلت من تلك الطبقة طبقة سائدة، ومن نظامها الاجتماعي نظاما سائدا.
وهكذا، فاذا أردنا أن نواجه الديمقراطية بمنهج نقدي، فما علينا سوى وضع الديمقراطية في التاريخ، أي بحث الشروط المادية التي فيها نشأت وفيها تطورت وفيها أيضا تواجه أزمتها. وهذا بطبيعة الحال يستوجب البحث في المادة التاريخية ومواجهة كل تعقيدات هذا البحث الذي لحسن الحظ أو لسوئه لا يمكن لأي كان الادعاء باستكماله، وذلك أولا لأنه بحث مفتوح لا على الماضي فحسب، بل على الحاضر نفسه وخاصة على المستقبل ومؤشراته، وثانيا (وهو الأهم) لأن البحث التاريخي متشابك مع الرهانات الواقعية في الحاضر، المعلنة منها والمستبطنة (والاستبطان والاخفاء هو في الحقيقة مغادرة التاريخ نحو الأيديولوجيا). لذلك فالتاريخ هو في الأخير ميدان نزاع لا يمكن حسمه من خلال البحث النظري وحده بل من خلال النشاط العملي، أي المساهمة الفعلية في صياغة هذا التاريخ.
لا تسمح حدود هذا العرض واطاره بتقديم عرض تاريخي تفصيلي لظاهرة الديمقراطية، لذلك فسننطلق من بعض المقدمات العامة التي ستبقى في حدود الفرضيات التي يمكن دعمها أو نقضها من خلال أبحاث تاريخية أخرى.
وأول مقدمة تتعلق بكون الديمقراطية هي في جوهرها التاريخي صناعة الفرد. أي أن الديمقراطية تشترط تطورا تاريخيا يسمح بانتزاع البشر من الجماعية (الكومونة البدائية، القبيلة، العشيرة، العائلة الموسعة...) وتحويلهم الى أفراد. وهكذا يمكن القول بأن تاريخ الديمقراطية هو نفسه تاريخ تدمير كل الجماعيات القديمة لصالح الفرد المتحرر من كل رابطة جماعية، باستثناء جماعية الأفراد (مجتمع المواطنين المتساوين في الحقوق والواجبات)، أي الجماعية الديمقراطية نفسها. وهكذا فالمجتمع الديمقراطي هو المجتمع حيث يواجه الفرد وجوده لا بصفته عضوا في جماعية محددة، بل بصفته المواطن. والمواطن هنا يتم تقديمه من طرف الأيديولوجية الرسمية بصفته الإنسان الحر الذي يحقق ذاته متحررا من كل عوائق الجماعيات التقليدية، لكن لو تفحصنا الأمر فسنجد أن هذا المواطن هو في الواقع مجرد ذرة فردية منزوعة من كل وسائل تحقيق ذاته، بما أن الشرط الأولي للتحقق الذاتي للإنسان إنما يكون ضمن انتمائه لجماعية حقيقية، أي ضمن رابطة اجتماعية إنسانية. وهكذا فالفردانية (أو المواطنية) التي تصنعها الديمقراطية وتجعلها شرطا لتحققها الخاص تقف في التعارض مع تحقق الأفراد ضمن رابطة جماعية (كمونية) تسمح لطاقاتهم الحيوية بالانبثاق.
المقدمة الثانية تتعلق بكون تاريخ صناعة الفرد ذاك هو نفسه تاريخ فصل الفرد عن وسائل إنتاج حياته الخاصة، أي عزله عن شروط وجوده الحيوية. وهذه العملية التاريخية ليست سوى التطور التاريخي للرأسمال (التجاري ثم الصناعي...)، أي للمركنتيلية التي ستجد في النظام البورجوازي استكمال شروطها، كما ستجد فيها تناقضاتها المستعصية وأزماتها العامة. وهكذا فتاريخ تطور الديمقراطية هو نفسه تاريخ تطور المركنتيلية التي يمثل المواطن الحر (المفصول عن كل جماعية حقيقية) حصيلتها التاريخية كما أساس تطورها. وهذا ما يفسر كون الديمقراطية قد نشأت في التاريخ القديم ضمن جيوب هامشية صغيرة، بما أن التجارة كانت تسير على هامش الإنتاج الذي كانت ميزته المهيمنة هي طابعه المحلي واتجاهه للاكتفاء الذاتي منه للمبادلة. ولم تصبح الديمقراطية (بغض النظر عن أشكالها السياسية الخاصة) ظاهرة عالمية إلا باستكمال شروط تشكل السوق العالمية، ومنه تحول التجارة الى الطابع المهيمن على الإنتاج في المستوى الأممي.
المقدمة الثالثة تتمثل في كون تطور المركنتيلية هو في الجوهر تطور سيطرة القيمة التبادلية على القيمة الاستعمالية، أي سيطرة الإنتاج من أجل التبادل على الإنتاج من أجل الاستهلاك الخاص. وهو ما يعني تحول البضاعة الى الخلية الأساسية للمجتمع، ومن ثمة تحول المجتمع نفسه الى مجتمع بضاعي. وهذا يعني تحول الفرد، الذي تمت صناعته سواء بوسائل اقتصادية "طبيعية" أو عبر الانتزاع بالقوة (ما يسميه ماركس بالتراكم البدائي أو الأولي للرأسمال)، الى حامل حقوقي للبضاعة. ومنه ظهور المواطن الذي لا يوجد إلا بصفته حامل حقوق وواجبات متساوية بين الجميع تماما مثل التساوي البضاعي الذي تمثله القيمة التبادلية (في المركنتيلية ليس هناك تمييز نوعي بين البضائع والعلاقة الوحيدة بينها هي علاقة كمية). وهكذا يظهر لنا أن تاريخ الديمقراطية هو تاريخ تطور وسيادة النظام البضاعي، وأن أزمتها التي سنتحدث عنها لاحقا هي من أزمة النظام البضاعي المعمم الذي يمثله النظام الرأسمالي المعاصر.
ونخلص من هذه المقدمات الى كون الديمقراطية ليست مجرد شكل في الحكم، ولا هي مجرد شكل في الإدارة السياسية أو الاجتماعية. كما أن الديمقراطية لا تتعلق بتقنيات شكلية في ما يسمى إدارة الشأن العام. فالديمقراطية هي، من منظور تاريخي، الإدارة الاجتماعية حيث تسيطر القيمة التبادلية على القيمة الاستهلاكية، أي حيث يسيطر الإنتاج من أجل التبادل (من أجل الربح بطبيعة الحال) على الإنتاج من أجل تلبية الحاجات الفعلية للمنتجين، وهو ما يعني سيطرة الرأسمال على الحياة الاجتماعية. ومن هنا فالديمقراطية هي المجتمع وقد تحول الى مجموع ذرات فردية متنازعة (مجتمع المواطنين الذي يتغنى به المثقفون)، ومنه الى مجتمع يسوده التعارض الدائم بين المصلحة العامة والمصالح الخاصة بكل فرد، ومنه الى مجتمع يستحيل فيه أن يباشر كل الأفراد إدارة "الشأن العام"، وبذلك فإنه مجتمع يحتاج الى التمثيلية السياسية، ومنه الى إدارة سياسية خالصة غير مشخصنة (هي تعبير عن الانفصال الأخير للرأسمال عن كل شخصنة، أو كما عبر عنه ماركس تحوله الى "قيمة تزداد ذاتيا"). وهذا ما سيجد تعبيره في الديمقراطية البرلمانية أو التمثيلية حيث السلطة السياسية (مثل الملكية الخاصة) ليست مشخصنة في شخص أو رتبة ثابتة أو سلالة محددة بل هي سلطة عمومية يمكن "امتلاكها" (مثل امتلاك رأس المال) حقوقيا من طرف أي فرد. وحيث هذا الفرد (المواطن) لا يوجد إلا بصفته الفرد المنافس، والذي يجد في الأفراد الآخرين كمنافسين.
وبطبيعة الحال، وبمثل ما أن وصول الرأسمال الى الحالة التاريخية حيث يفقد كل شخصنة من أي نوع، وبذلك يصبح قانونيا و"نظريا" قابلا للامتلاك من طرف أي كان، يموه على الامتلاك الطبقي لهذا الرأسمال، فإن الديمقراطية تموه، من خلال إنهاء كل امتياز قانوني و"نظري" في علاقة بالسلطة السياسية، عن الطبيعة الطبقية لهذه السلطة بالذات، فتظهر بصفتها "الإرادة العامة" المنبثقة عن إرادة حرة لكل الأفراد (أو ما يسمى العقد الاجتماعي). ولعل الانتخاب العام، والتداول السلمي على السلطة هو النموذج التاريخي الأكثر ملاءمة مع هذا البناء الاجتماعي حيث تختفي بشكل مموه التعارضات الطبقية في رداء مجتمع المواطنين الأحرار الذين يقررون طواعية ما هو مقرر لهم سلفا. وبما أن هؤلاء المواطنين لا تجمعهم رابطة سوى رابطة المنافسة، فإن الديمقراطية تظهر كوسيلة لتنظيم تلك المنافسة. ولعل ذلك ما يفسر ولع المجتمع الديمقراطي بالمؤسسات وبالقوانين التي لا تنتهي لتنظيم تلك المؤسسات المتشعبة وغير المستقرة في مجتمع حيث الرابطة الوحيدة بين أفراده هي نفسها العلاقة التي تربط البضائع بعضها ببعض: حرب الكل ضد الكل.
نستطيع أن نستخلص مما سبق أن نقد الديمقراطية (والديمقراطية تمثيلية وليبرالية في شكلها الأنقى) اذا أراد أن ينفذ للأساسات العميقة لهذه الديمقراطية، فعليه أن يتجاوز نقد مظاهرها (ما يسمى "المال الفاسد"ǃ والماتراكاج الإعلامي وشراء الأصوات والزبونية...الخ) لإبراز حقيقتها التاريخية بصفتها النظام البضاعي وقد استكمل دورته التاريخية في المجتمع البورجوازي المعاصر. وأن نقد الديمقراطية لا يتعلق بنقد هذه الآلية الانتخابية (حقوق الانتخاب، طريقة الانتخاب، نزاهة الانتخابات...الخ) أو ذلك التنظيم الإداري للحكم (مركزي، "محلي"...الخ) بل بنقد النظام الرأسمالي نفسه بصفته النظام الديمقراطي الأخير. وهكذا فإذا تفحصنا مظاهر الأزمة التي تعيشها الديمقراطية البورجوازية فسنجد أنها هي نفسها مظاهر أزمة الرأسمال ونظامه الاجتماعي. ولعل أهم مظهر لهذه الأزمة يتمثل في كون أن هذا التغيير الدوري للنخبة السياسية على سدة الحكم، وبرغم البرامج الحزبية التي تبدو متنافرة ومتعارضة، لا يغير شيئا تقريبا. بينما التغييرات التي تطرأ من مرحلة الى أخرى تكون لا بإرادة السياسيين ولا بمخططات مسبقة بل تحدث كما لو بفعل قوة غامضة غير قابلة للسيطرة. ذلك أن الرأسمال لا يملي حاجيات تراكمه على السياسيين بمختلف مشاربهم فحسب، بل هو يجعل من تلك الحاجيات كما لو أنها "اكراهات" خارجية، أو كما لو أنها المنطق الطبيعي للأشياء الذي لا يمكن وضعه موضع السؤال. فأن يكون الإنتاج محكوما بالمردودية الاقتصادية (لا بالمردودية "الاجتماعية"، أي بالقدرة على خلق "رفاه" حقيقي للبشر) فذاك ما يظهر كما لو أنه شرط مسبق للإنتاج نفسه، والاختيار السياسي هنا لا يتعلق بما اذا كنا نستطيع أن ننتج خارج منطق المردودية الاقتصادية، بل بالسبيل الأمثل لمزيد تدعيم تلك المردودية. وأن يكون شكل الملكية لوسائل إنتاج الثروة الاجتماعية متلائما مع تحقيق الربح أم مع توزيع عادل ومتضامن لتلك الثروة، فالاختيارات السياسية هنا لا تواجه هذه المعضلة الاجتماعية في التفاوت الطبقي في حيازة الثروة ومنشئها الحقيقي، بل تواجه النتائج المترتبة عنها من استغلال وتفقير وتهميش وبطالة بما هي مجرد "مشاكل اجتماعية" يمكن التخفيف منها بهذا الاجراء الإصلاحي أو ذاك، أي أنها تواجه في الواقع استتباعات التراكم الرأسمالي ونتائجه الاجتماعية الطبيعية في محاولة التخفيف منها بدون أن تضع التراكم الرأسمالي نفسه موضع السؤال. وهكذا تحول السياسي الى متصرف عام في الرأسمال مهمته فسح المجال وخلق الفرص لتراكمه كما البحث عن حلول للنتائج الاجتماعية التي يخلفها وراءه. ولا عجب هنا أنه شيئا فشيئا تصبح برامج الأحزاب متشابهة، ولا عجب أن يتدخل الرأسمال لضمان أفضل المتصرفين فيه وفق الوضع الخاص الذي يمر به (ينتدب اليمين عندما يكون بحاجة لإجراءات ليبرالية عميقة، وينتدب الاشتراكية الديمقراطية عندما يكون في حاجة لإجراءات دولانية حمائية)، وأن يقدم الامتيازات في الوظائف السياسية ويخلق فئة خاصة من السياسيين المحترفين بما يضمن له القدرة لا على "تثمينه الذاتي" فحسب بل على خلق الشروط الاجتماعية العامة (بما في ذلك خاصة ترويض الطبقة المسحوقة واستيعاب حركتها) لتحققه. وهكذا ففي الواقع فإن الرأسمال لا ينتزع وسائل اتخاذ القرار من الطبقات المسحوقة فقط، بل من النخبة السياسية الممثلة للطبقة السائدة نفسها، ويحولهم الى مجرد موظفين سياسيين يحظون بالامتيازات المادية والمعنوية في مقابل اشرافهم اليومي على السير العادي للتراكم الرأسمالي. وهذا ما جعل الانتخابات العامة لا تقرر شيئا، أو على الأقل فهي لا تقرر شيئا مهما ومصيريا (بما أن كل ما هو مهم ومصيري محدد سلفا كشرط مسبق يخضع له الجميع)، بل تقرر أي من فئة السياسيين المحترفين سيحظى بالتسلق في الإدارة البيروقراطية للدولة، ويستفيد من موقعه ذاك لجني الامتيازات أو لحماية وتدعيم مصالح هذا الشق البورجوازي أو ذاك. ولا عجب أن لا أحد يهتم بالبرامج الحزبية، بما أنها ليست سوى بضاعة انتخابية تكاد تكون متماثلة يمينا أو يسارا وليست موضوع تطبيق. وهذا الأمر هو ما خلق حالة تفسخ معمم للديمقراطية البرلمانية يمكن معاينتها بسهولة في المراكز العالمية للديمقراطية، سواء من خلال المقاطعة التلقائية المتنامية للانتخابات، أو من خلال التلاشي التدريجي للأحزاب السياسية وعجزها عن حشد الجماهير وراءها، بل طغيان حالة عامة من العزوف عن الانخراط في العمل الحزبي وتحول هذا الانخراط الحزبي الى مجرد زبونية ووصولية انتهازية لا أثر فيها لأي نوع من الانتماء الحقيقي. واذا ما تفحصنا الموجات الاحتجاجية التي اتخذت في كثير من الأحيان طابعا انتفاضيا في بلدان الشرق كما في الغرب فسنلاحظ أن الأدوار التقليدية التي كانت الأحزاب السياسية تضطلع بها في مثل هذه الحركات قد آلت لأشكال تنظيم جماهيرية جديدة، بل ولحالة رفض موسع لعمليات الاستيعاب والالتفاف التي مثلت الأحزاب السياسية أهم أدواتها. ولعل هذه الأزمة المستفحلة للنظام الرأسمالي ولديمقراطيته التمثيلية قد فتح الباب أمام بداية انهيار صنم الديمقراطية، وخلق شقوقا عميقة في جدار تقديسها، مهيئا الشروط الواقعية لبروز وتجذر نقدها النظري ومنه نقدها العملي.
لكن الديمقراطية وبنفس القدر الذي تمثل فيه النظام الاجتماعي القائم على تذرير الأفراد للتمويه عن الانقسام الطبقي للمجتمع (تمويه ناشئ من وضع واقعي وليس فقط مجرد خيالات أيديولوجية)، فإنها تمثل أهم أسلحة الاستيعاب بيد الطبقة السائدة في مواجهة الحركات الانتفاضية. فحيث تنهض الجماهير المسحوقة ضد نظام الاغتراب البضاعي، ضد آلة الرأسمال التي تحولهم الى مجرد بائعي بضاعة قوة العمل (والتي أصبحت شيئا فشيئا بضاعة بائرة)، ضد نظام اجتماعي يحولهم هم أنفسهم الى مجرد مستهلكين سلبيين للبضائع التي تسمم حياتهم المادية والروحية (بما في ذلك البضائع السياسية)، ضد آلة القمع والمراقبة من بوليس ومحاكم وسجون... وآلة صناعة الوعي العمومي من مدرسة، مسجد، نقابة، حزب.. ومن ماتراكاج إعلامي وإشهاري، وأخيرا ضد نظام، وبقدر تفريخه لأكداس البضائع، فإنه يفرخ معها كل أنواع التفقير والتهميش والتفاوت الطبقي، فإن الديمقراطية تقف كأفق وحيد للحركة الثورية، وكحل سحري لكل المشاكل، بل إن كل أنواع السياسيين من اليسار واليمين يندفعون بكل طاقتهم لإقناع الجماهير المنتفضة بأن ما خرجوا للانتفاض من أجله إنما هو "بناء الديمقراطية"، "دعم الديمقراطية"، تجذير الديمقراطية"، حماية الديمقراطية". أي أنهم يجهدون لتصوير الديمقراطية، لا بما هي بالفعل: النظام البورجوازي السائد الذي انتفضوا ضده، بل بما هي النظام المنشود الذي ستتحقق فيه كل المطالبات الجماهيرية. وعندما تتخذ الحركة الانتفاضية طابعا جذريا عميقا، وتواجه مباشرة الأساسات العميقة لنظام الاستغلال الطبقي، فإن آلة الدعاية الحزبية تغرق هذه الحركة بشعاراتها الديمقراطية، ومن ثمة تدفعها الى الفخ الديمقراطي التقليدي: الذهاب الى صندوق الاقتراع لاختيار أية نخبة سياسية جديدة ستكلف بإعادة ترتيب الأوضاع وترميم ما يجب ترميمه من أجل استعادة طاحونة النظام لسيرها العادي. بل وأن النظام البورجوازي يضع الجماهير المنتفضة بين خياري القبول بالديمقراطية (الانتقال الديمقراطي) أو التهديد بالحرب والإرهاب والفوضى. أي إما القبول بالإرهاب اليومي المقنن و"السلمي" للرأسمال، أو الذهاب الى الإرهاب المسلح سواء من طرف الإرهاب الرسمي للدولة أو من طرف رديفها ومنافسها الإرهاب غير الرسمي لهذه المجموعة "المتطرفة" أو تلك. وهكذا تظهر الديمقراطية لا كنظام الأشياء في ظل سيطرة الرأسمال فحسب، بل إنها تمثل العنوان الأبرز لثورته المضادة.
ولا عجب أننا، في تونس، لو عدنا لبرامج الأحزاب السياسية التي كانت تقف في معارضة نظام بن علي لوجدنا جميعها، بما في ذلك أكثرها راديكالية، تضع الديمقراطية التمثيلية كمطلبها الأساسي (حريات سياسية، أي حريتهم كأحزاب في المساهمة في استيعاب وتدجين الجماهير، تداول سلمي على السلطة، أي حقهم كأحزاب في أخذ موقع في الآلة البيروقراطية للدولة، حرية التعبير، أي حريتهم في تسميم البيئة الثورية بشتى أنواع الأيديولوجيات الديمقراطية البورجوازية، العفو العام، أي العفو عنهم بصفتهم "مساجين سياسيين"...)، بل وهناك من الأحزاب من يضع مسبقا "الثورة الديمقراطية"، أي النظام البورجوازي ذاته، بما هي "طبيعة الثورة القادمة"، ويحكم سلفا على كل حركة ثورية أن تكون مهمتها "إنجاز ما عجزت عنه البورجوازية"، أي مزيدا من الرأسمالية، مزيدا من الإنتاج البضاعي، مزيدا من انتزاع المنتجين عن وسائل إنتاجهم (ما يسمونه بدفع الفرز الطبقي وسط الفلاحين).... والنتيجة الطبيعية أن هذه الأحزاب، عندما بدأ الحراك الاحتجاجي يتخذ طابعا انتفاضيا وبدأ يتلمس طريقه (بكل الضبابية والتناقضات الطبيعية التي تصاحب كل حراك ثوري) نحو وضع السؤال حول الثروة الاجتماعية وأسلوب إنتاجها وتوزيعها، وهذا هو المدخل الطبيعي لوضع السؤال على النظام الرأسمالي السائد نفسه، سارعت في أول خطوة لسد الطريق أمام تطور الانبثاق التلقائي للجان الأحياء وعمليات الاستيلاء المعممة على أملاك البورجوازيين (أملاك عائلة بن علي، أملاك الدولة المتروكة أو المسوغة لأباطرة الرأسمال...، ولعل تجربة جمنة قد مثلت نموذجها الأهم والأنضج رغم أنها لم تكن حينها التجربة اليتيمة)، الى تشكيل ما سمي بالمجلس الوطني لحماية الثورة تحت مظلة الإتحاد العام التونسي للشغل ودعم قيادتها اللوجستي والرمزي، ومنه الى تشكيل "هيئة تحقيق أهداف الثورة"ǃǃǃ وصولا الى تنظيم الانتخابات العامة في وفاق عجيب بين أغلب أحزاب اليمين واليسار تحت يافطة الانتقال الديمقراطي.
ليست الديمقراطية شيئا يجب تحقيقه، أو استكماله، أو "الدفاع عن مكتسباته"، بل إن الديمقراطية هي النظام الاجتماعي السائد والذي يجب على الحركة الثورية مجابهته اذا أرادت فعلا الاتجاه نحو أفق للانفلات من الدائرة الجهنمية للنظام البورجوازي. وإن كل بناء لتصورات حول مستقبل هذه الحركة التاريخية لا ينطلق من نقد الديمقراطية، نقدا يذهب الى جذورها ولا يكتفي بمظاهرها الخارجية، فإنه يحكم على نفسه بالعودة الى حضيرة النظام، ويكون، بوعي أو بغير وعي، مصدرا إضافيا لإنتاج شتى أنواع الأيديولوجيات التبريرية والسلطوية التي تستهدف في الأخير إعادة إنتاج نفس الأساسات الواقعية لهذا النظام تحت مسميات جديدة، حتى وإن استدعت هذه التسميات يافطات ظهرت فيما مضى كيافطات للحركة الثورية مثل المجالس أو التسيير الذاتي ....الخ