الطبيب والحكيم والسياسي


ياسين الحاج صالح
2019 / 10 / 29 - 16:10     

إلى محمد بشير عرب، في ذكرى اعتقاله الثامنة

في وقت مبكر من نشوء الكيان السوري كانت دراسة الطب مجال تعليم مهيب ومبجل، لندرته وشدة الحاجة إليه من جهة، وربما لاقترانه بالحكمة في أزمنة سابقة، وقت كان الطبيب حكيماً، والحكمة تجمع بين طب الإجساد وطب النفوس وطب المجتمع، أو الأهلية للتوسط بين الناس وحل الخلافات بينهم. في بداية حداثتنا كان الطبيب وجيهاً اجتماعياً وصاحب قول مسموع، فضلاً عن كفاءته المهنية. وحتى اليوم يخاطب الطبيب بالحكيم، وإن تكن دلالة الكلمة مقتصرة على التعبير عن الاحترام. وفي تاريخ الكيان السوري اشتهر أطباء قاموا بأدوارعامة مهمة من أبرزهم عبد الرحمن الشهبندر ووهيب غانم ووجيه البارودي وعبد السلام العجيلي وجمال الأتاسي و...بشار الأسد. هؤلاء، عدا الأخير، كانوا وجهاء في مجتمعاتهم، يحظون بالاحترام، وكلمتهم مسموعة، فضلاً عما قاموا به من أدوار وطنية عامة. كان هناك أطباء حزبيون، بعثيون بصورة خاصة، اشتهر منهم في أواخر ستينات القرن العشرين ثلاثة: نور الدين الأتاسي ويوسف زعين وإبرهيم ماخوس، تولوا أدواراً سياسية مهمة: رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ووزير الخارجية، حتى لقد علق صحفي لبناني وقتها، كامل مروة، أنه لا بد أن سورية مريضة جداً حتى يحكمها ثلاثة أطباء. لكن يبدو أن صفة الأطباء الثلاثة الحزبية، ثم السياسية، حدت من استقلاليتهم، وكانت خصماً من ارتباطهم ببيئات اجتماعية حية، دون تعويض مهم من دورهم العام. لم يلبث الثلاثة أن زُجوا في السجن أو عاشوا في المنفى إثر انقلاب حافظ الأسد عليهم عام 1970. ولم يتح لأي منهم أن يعيش حياة مستقلة في البلد بعد الاعتقال أو النفي كي يمكن قول شيء عن أدوارهم الاجتماعية.
كان حافظ الأسد من جيل الثلاثة، ويقال إنه ذهب إلى الجيش بنصيحة الطبيب وهيب الغانم، وهو من الرعيل التأسيسي لحزب البعث. عهد حافظ المديد ثم نجاحه في بناء سلالة، اقترن بتطييف السلطة ومؤسساتها الأمنية من جهة، وبتحجر القيم الاجتماعية حول السلطة أولاً، وقد صار الحقيقي منها لا يطال لمن لم يولدوا الميلاد الصحيح، ثم المال والقرابة والدين، مع تراجع مطرد لمكانة النشاط السياسي والفن والفكر والعمل المنتج من جهة ثانية. الطب، ومثله الهندسة والصيدلة، كانت تدر مالاً. يذهب إليها أفضل الطلاب، ممن لا يحتمل في كل حال أن يكون لهم دور في الحياة العامة التي تقوم على أولوية عليا للسلطة. وهكذا صار الذهاب إلى كلية الطيب اندراجاً في سلم قيم غير تحرري وانخراطاً في عمليات إعادة إنتاجه. أعني أنه قلما كان ثمة شيء تحرري أو غيريٌ في دراسة الطب في سياقنا السوري منذ سبعينات القرن العشرين على الأقل، السنوات التي دخلت فيها شخصياً كلية الطب في جامعة حلب. في ذلك العقد تكرست السلطة كمفتاح النفوذ العام على المستوى الوطني، واقتصر عملياً هذا النفوذ على حافظ الأسد شخصياً، وعلى أسرته بالتبعية. رجاله كانت لهم سلطة كبيرة، مرهوبون، لكن دون نفوذ خاص مستقل يتخطى أوساطهم القرابية أو الجهوية.
أن يصير المرء طبيياً أو مهندساً في مثل هذه الظروف يعود عليه وعلى عائلته بمكانة اجتماعية بقدر ما. كانت علامات التقدم إلى الكليات المذكورة مقياساً لهيبتها. فإن تعذر الدخول إلى كلية لطب في سورية بفعل حاجز العلامات، فقد ترسل الأسرة الابن إلى أوكرانيا أو روسيا في تسعينات القرن الماضي ليعود بشهادة طبيب، قد يشتريها بالمال. كان في ذلك مؤشراً على تضيق شديد في الأدوار النموذجية (ٌrole model)، وعلى اكتساح المظاهر، ولو كاذبة، مجتمعاً تحرم فيه السياسة والرأي الحر، ويباح كل شيء آخر. نتذكر قبل ذلك أن المظليين أو الذين قاموا بدروات كتائب طلابية مسلحة في مطلع ثمانينات القرن العشرين أمكن لهم الدخول إلى كليات لا تؤهلها لهم علاماتهم، بما فيها كلية الطب. كان ذلك نقلة نوعية في إضعاف شخصية الجامعة وقضاء على القليل الباقي من استقلاليتها في حينه.
في أوضاع شديدة التمركز حول السلطة، كفّ الرأسمال الرمزي لـ"الحكيم" أو المهندس عن أن يكون قابلاً للصرف السياسي، صار متجهاً أكثر للرأسمال المادي. هذا كان محققاً، وإن بقدر متراجع، حتى مطلع القرن الحالي. الطبيب ينال دخلاً إن لم يكن عالياً فهو من الأعلى بين خريجي الجامعات، فضلاً عن "استقلال" قلما يتاح لأصحاب "مهن علمية" أخرى. في زمن "الدكتور" بشار دخلت مهن جديدة تشبه الدكتور بشار الذي كان طبيياً بالترجيح، وثرياً بالضرورة، وسلطوياً بالأقدار المقدورة. الشاب الركيك الذي وجهه أبوه حافظ لدراسة الطب خلافاً لأخويه باسل وماهر صار رئيساً بفضل مصادفة موت أخيه الأكبر. في بلد اتجهت السلطة لأن تكون منبع الثروة الأساس، المهن المجزية الجديدة تشبه السلطة الجديدة، تشبه بشار شخصيًاً في الثراء والحساسية (أو انعدام الحساسية بالأحرى) والضمور الفكري. مع "لبرلة" الاقتصاد وازدهار صناعة المعلومات دخلت المهن المعلوماتية سوق المنافسة، وصار الدور العام للمال أقوى بما لا يقاس من سنوات حكم الأب. يعرض الجيل الجديد من "أبناء المسؤولين" نسق متواتراً من التوزع إلى عاملين في السلطة، عسكريين وأمنيين بخاصة، وعاملين في التجارة، مستثمرين فيما "جنى" الآباء من ثروات. السلطة لحراسة الثروة، والثروة ثمرة السلطة وترجمتها الأمينة.
وفي الحقبة الأسدية ظهر الطبيب الجلاد. لدى سجناء معسكر الاعتقال في تدمر مرويات عن أطباء كانوا أسوأ من السجانين في ثمانينات القرن العشرين وتسعيناته. كان من بينهم "طبيب السجن" الذي تكلم عليه مصطفى خليفة في "القوقعة"، كتابه عن تدمر. "مجموع ما قتله طبيب السجن من زملاء دفعته أربعة عشر طبيبا" من المعتقلين، يقول الراوي في "القوقعة". وفي سنوات الثورة السورية كان بعض المشافي، مشفى تشرين العسكري بخاصة، مساحات لسياسة القتل لا تسجل فارقاً مهماً عن المقرات الأمنية. وقبل شهور، نشر موقع "زمان الوصل" معلومات، مع صور وأسماء، عن أطباء مشاركين في قتل المتظاهرين المصابين في بداية الثورة أو متواطئين مع القتل https://www.zamanalwsl.net/news/article/103841/. وحدها زوجة الدكتور بشار الأسد، أسماء الأخرس، عولجت بنجاح من سرطان الثدي في المشفى- المسلخ إياه. سلامة كيلة وكثيرين غيره حظيوا بمعاملة مختلفة قليلاً https://www.facebook.com/photo.php?fbid=426451667374008&set=a.101738966511948&type=3&permPage=1.
الطبيب القاتل ليس استثناء سورياً، ففي الحقبة النازية من تاريخ ألمانيا تواطأ الطب مع سياسة الإبادة، واشتهر من أطبء النازية جوزف منغل الذي كان يجري تجارب على المعتقلين في معسكر آوشفيتز. تاريخ سورية الذي لم يشهد شيئاً مماثلاً قبل الحقبة الأسدية، وفر لنا "تعويضاً" كبير: قاتلنا العام طبيب، وهو بعد ذلك طبيب عينية، قال إنه فضل هذا الاختصاص على غيره لأنه ليس فيه... دم!
إلى اليوم، التسجيل في كلية الطب يتطلب أعلى العلامات في الثانوية العامة، فهل يعني ذلك أنه لا يزال يستقطب أفضل الطلاب؟ لم يعد الأمر كذلك حتماً. هناك اليوم في سورية صنعة للعلامات العالية، عبر الدورات الخصوصية والحفظ، لا تقتضي أن يكون الطالب أو الطالبة متميزاً بالفعل بكفاءات خاصة في الإدرك والفهم والتحليل والذكاء. تدفع أسر مقتدرة كثيراً من المال من أجل وصول الابنة أو الابن إلى كلية ينتظر للتخرج منها أن يدر مالاً ومكانة يعوضان ما صُرف. صناعة العلامات تحابي الشرائح الموسرة من المجتمع وليس بطبيعة الحال الأفقر من السكان.
رغم ذلك يبدو يبدو التوجه لدراسة الطب اليوم استمراراً لماض يعاند الانقضاء، وليس إقبالاً صاعداً. بل أعتقد أن دراسة الطب اليوم وثيقة الارتباط بالحقبة الأسدية، مفهومة كزمن للضيق، يسوده نظام تضييق اجتماعي شامل تشرف عليه أرستقرطية رثة جديدة، ولا يكون أصحاب المهن "المستقلة"، ومنها الطب، غير وجاهات تابعة، صغيرة ومتوائمة، مجردة من المسؤولية الاجتماعية. كان من شأن طي صفحة حقبة الضيق هذه أن يطوي معه عالمها، ومنه أشكال "الاستقلال" المتاحة، والوجاهات التابعة، والحياة الصغيرة المفروضة على السكان. في عالم يتسع وينشرح، تعود مهنة الطبيب التي صان كرامتها كثيرون في سياق الثورة السورية، منهم أطباء سوريون مقيمون في بلدان أجنبية، تعود مهنة حيوية في مجتمع يتعافى. وتعود معها المسؤولية الاجتماعية للطبيب التي تعرضت للتجريم في عهد الطبيب بشار.
اليوم مع هزيمة الثورة صارت ثورة في القيم وفي سلم القيم الاجتماعي أشد إلحاحاً من ذي قبل وليس أقل. من عناصرها المهمة في تصوري تحول أعداد أكبر من الشابات والشبان إلى مجال الإنسانيات. هذا ممكن في مجتمع الشتات السوري الذي قد لا يطابق مجتمع الثورة (قسم كبير من هذا المجتمع قتل وغيب، وقسم منه يعيش صامتاً في مناطق سيطرة النظام و"المناطق المحررة") لكنه يقاربه بقدر كبير. لا تتوفر معطيات إحصائية بخصوص إقبال شابات وشبان سوريين على دراسة الإنسانيات، لكن يبدو هذا الميل أقوى من غيره. لا يزال يصادف المرء الواقعة المحبطة المتمثلة في استئاف شبان انقطعت دراستهم الجامعية في سورية أو تسنت لهم الدراسة الجامعية لأول مرة للطب وما شابه. لعلها تدل من ناحية على أن العادات القديمة، المحافظة، تموت ببطء حتى في بيئات مقتلعة، ومن ناحية أخرى على مشكلات سوق العمل في بلدان غربية، لا يضمن دارسو الإنسانيات "المِنح" التي تتيح لهم إكمال الدراسة، ثم العمل بعدها.
الإنسانيات تتساءل عن الإنسان الاجتماعي وعن مجتمع البشر، وتشرحهما بوجودهما في العالم وتاريخهم في العالم. وهي بهذه الصفة مؤهلة للتفكير في سورية اليوم، وفي تاريخنا الحديث والمعاصر، وفي لثورة وهزيمتها، مع وضع ذلك في سياق أوسع، سياق العالم الحديث والاجتماع الإنساني الحديث والمعاصر.
تحوز الإنسانيات بعداً علمانياً متأصلاً فيها، يؤهلها كذلك لتقديم شرح متجدد للإسلامية المعاصرة، بما في ذلك تعبيراتها العدمية الأكثر توحشاً، دون أن يكون العكس صحيحاً بحال، ودون أن يكون ثمة منافس لهذا الشرح، بما في ذلك الإيديولوجية العلمانية ذاتها.
ليست الإنسانيات هي "الحكمة" المعاصرة، لكن إن كان لهذه أي مكان، فهو في هذا النطاق، ليس في نطاق الطب، ولا في نطاق أم العلوم القديمة، الفلسفة، أو حب الحكمة. هذه اليوم تستمد حياة متجددة من ارتباطها بالعلوم، الطبيعية والاجتماعية. أي من استعدادها لأن تكون ابنة، بعد أن كانت الأم الكبرى، المهابة.
وبقدر ما أنه من الملح أن تتحرر المهنة السياسية في سورية من مدرستين سيئتين: الجيش والمخابرات من جهة، والدين والطائفة من جهة ثانية، فإن من شأن اتساع الاهتمام بالإنسانيات أن يكون مساهمة في ذلك. فإن جاز الخلاص إلى توصية سياسية مما تقدم فهي أن انكباب أعداد أكبر، كبيرة، من الشابات السوريات والشبان على دراسة الإنسانيات هو من عناصر خطة صالحة لاستعادة ملكية البلد من مدرستي السوء القديمتين، وكذلك من الاحتلال الأجنبي المتجدد.