موجز في كتاب أحكام السوق للكناني الأندلسي


محمد عادل زكى
2019 / 10 / 27 - 02:49     

يبدأ الكتاب كتاب "أحكام السوق" ليحيى بن عمر الكناني الأندلسي، والذي استخرجته من المجلد السادس من كتاب "المعيار المعرب" للونشريشي، بما ينبغي على الوالي عمله؛ فعلى الوالي أن يتحرى العدل، ويتعاهد السوق بأن يحافظ على انضباطه، ويضبط الموازيين والمكاييل، ومن أجل تحقيقه لذلك فقد كفل له يحيى بن عمر سلطة عقاب المخالفين وإخراجهم من السوق، وتعد عقوبة الإخراج من السوق من العقوبات القاسية. كما يكون من اختصاصات الوالي المهمة تعيين مَن يرى تعيينه وعزل مَن يرى عزله وفقاً لما تقتضيه المصلحة العامة. ومن أهم ما نلاحظه في هذا الشأن أن الوالي لا يحق له تعيين الأجنبي لتعهد السوق؛ فهم لا يعرفون أحوالها ومصادر دخلها ومواردها واحتياجاتها، ويجهلون أحوال سكانها ومعاشهم وأرزاقهم، فهو يقول:
"ينبغي للوالي أن يتحرى العدل، وأن ينظر في أسواق رعيته، ويأمر أوثق مَن يعرف ببلده أن يتعاهد السوق، ويعيّر عليهم صنجتهم وموازينهم ومكاييلهم كلها، فمن وجده غير ذلك شيئاً عاقبه على قدر ما يرى من جرمه، وأخرجه حتى تظهر منه التوبة والإنابة إلى الخير".
ويتبين من طبيعة العقاب الَّذي قرره يحيى بن عمر لمن يزيف النقود أن هذا الفعل يعد من جسائم الأفعال، إذ لا نجد في جميع أجزاء المؤلَّف عقوبة أشد من تلك المقررة لمن يغش النقود. فلقد قرر يحيى لمن يزيف النقود العقاب الشديد بأن يركَّب على دابة، ووجهه ناحية ذيلها وظهره جهة رأسها، كما كان شائعاً في وقتها، ويُطاف به في شوارع البلدة وأسواقها، ثم يُسجَن. وللوالي في ذلك كامل السلطة التقديرية. ولشدة خطر ظهور وحدات النقد المزيفة في الأسواق فقد أوجب يحيى بن عمر على الوالي أن يأمر أحد الخبراء بمثل تلك الأمور كي يعالج ذلك الخطر الَّذي يحيط بالمجتمع جراء ما أصاب وحدات النقود المتداولة داخله؛ إذ يتضح من كلام يحيى بن عمر أنه يوجب على الوالي تعيين ذلك الشخص الخبير، بجانب من عينه من قبل كي يتعهد السوق بوجه عام، فالمسألة وفقاً لما يرى يحيى بن عمر تخضع لاعتبارات فنية أكثر منها إدارية، ولذلك أوجب أن يعين الوالي من لديه العلم بهذا الفن ويستطيع أن يجابه هذا الخطر بطريقة واعية بالكيفية التي يتم من خلالها طرد العملات المزيفة أو امتصاصها، وبالتالي السيطرة على انفلات السوق دون إحداث تغيرات سلبية تؤثر بالتبع على المعاملات فيما بين جمهور المتعاملين بالبيع والشراء؛ فهو يقول:
"ويأمر أوثق من يجد بتعاهد ذلك من السوق حتى تطيب دراهمهم ودنانيرهم، ويحرزوا نقودهم".
ولم يشترط يحيى كون هذا الخبير من أهل البلد كما كان شرطه في الشخص السابق الذي جعله يتعهد السوق بوجه عام. ومما يجب ملاحظته من كلام يحيى بن عمر، أن سوق القيروان كانت تشهد خللاً واضحاً فى المكاييل، فإنه سُئل عن كيفية توحيد هذه المكاييل والموازين. وعلى هذا التساؤل أجاب يحيى بما يشير إلى وعيه بدور الذهب والفضة في ضبط مكاييل البائعين وموازينهم، لتمتعهما بصفة الثبات النسبي، فهو يقول، وفي إشاراة واضحة للمدنية التي كانت تسود القيروان:
"فلا ينبغي لحواضر المسلمين أن تكون أسواقهم بهذه المنزلة التي وصفت... ويكون أصل ما توضع عليه أرطالهم على الأواقي التي أوجب رسول الله صلى عليه وسلم؛ زكاة العين من الذهب والفضة بها".
وينقل ابن عمر عن أشهب قوله:
"إن قال صاحب السوق بيعوا على ثلث رطل من الضأن ونصف رطل من الإبل، قال مالك، ما أرى به بأساً".
ففي هذه الحالة يكون ثلث الرطل هذا ونصف الرطل ذاك معيارين يعتد بالقيمة النسبية لهما معاً في سبيل التسعير، دون أن ينشغل أشهب، ولا ابن عمر، حالهما حال جميع الفقهاء، بأساس تبادل ثلث رطل من الظأن ونصف رطل من الأبل.
وبشأن اختلاف أسعار الأسواق، فسلعة ما في سوق القيروان تباع مثلاً بمقدار كذا درهم، على حين أن نفس السلعة في أسواق أخرى ترتفع أو تهبط عن سعر القيروان، فنعرف أن يحيى بن عمر كان يرى ضرورة إعمال قواعد الطلب والعرض بإطلاق، وهي من القواعد التي يعتنقها معظم فقهاء المالكية بشأن الأسعار وحركة التجارة بداخل الأسواق لاتباعهم النهي عن التسعير.
على كل حال، نجد لدى يحيى بن عمر الوعي بأن غلاء السلع يعود إلى نقصها في السوق، أي أن نظرية الطلب والعرض تجد لها مكاناً واضحاً في تفكيره، فابن شبل يقول:
"وسئل عن التين والتفاح والعنب والفرسك وجميع الفواكه تباع في السوق قبل أن تطيب. فقال: إن كان كثيراً في بلدهم فلا بأس به، وإن كان قليلاً فلينهوا عن قطعه حصرماً، لأنه يضر بالعامة، وذلك أنه يطلب في حينه فلا يكاد يوجد فيغلا".
ويوضح لنا يحيى بن عمر بعض مظاهر الحركة اليومية، وطبيعة العلاقة بين أطراف السوق، الَّذين يقيمون علاقات اقتصادية فيما بينهم تحت إشراف الدولة الَّتي تفرض وجودها وهيمنتها دائماً كمراقبة لمعاملات السوق بين أطرافه:
"فيجب على الحناطين ألا يبعوا القمح والشعير والفول والعدس والحمص حتى يغربلوها، وفي ذلك قال يحيى: أرى أن يلزموا بذلك".
أي أن مراقبة الجودة من الأمور المعروفة لدى يحيى بن عمر. ويتعزز ذلك في تناوله لمسألة أن رجلاً دفع بقمحه إلى الطحان كي يطحنه له، فإن على الطحان أن يقوم بما يجب عليه في سبيل المطلوب منه وأن يرد الطحين لصاحبه دون خسران ودون إتلاف، ويجتهد في سبيل ذلك اجتهاد الرجل المعتاد، وفي ذلك يقول يحيى بن عمر:
"وإن عطل الرحى فأفسد بعطله الطعام فإن لم يكن من الطحان في ذلك تفريط فلا ضمان عليه...".
وحين ننتقل للتعرف إلى علاقات السوق، أي التعرف على روابط التنظيم الاجتماعي التي تنشأ بين أطراف العملية الاقتصادية في الأسواق، فإننا نلمس وعياً بتعدد العمليات الاقتصادية بداخل العملية الواحدة كما نلمس وعياً بتعدد الأطراف وتحديد مسئولية كل طرف مشارك في تلك العملية؛ فبشأن الخبز مثلاً، وبعد أن أوضح يحيى بن عمر الالتزامات الملقاه على عاتق صاحب الفرن والتي تشمل النهي عن طحن القمح الذي يعمل منه الخبز حتى يغربله وينقيه من الحجارة والعشب... إلخ، فقد أجاب حين سُئل عن الخبز يوجد عند أصحاب الحوانيت ناقصاً، أجاب:
"أرى أن يؤدب من وجد عنده ويخرج من السوق لأنه يتجر فيه ولا حجة له في نقصانه".
والنص يضم بين جنباته الإشارة إلى مدى التنظيم الشديد الذي يوجد في المجتمع لدرجة تحديد الدولة لوزن معين للخبز يتعين أن لا ينقص عنه. ولقد أجاب أيضاً يحيى بن عمر، حين سُئل عن الذي يحق عليه العقاب صاحب الفرن أو صاحب الحانوت إن وجد الخبز ناقصاً عن الوزن الذي قررته الدولة، بقوله:
"إذ عرف صاحب الحانوت بنقصانه فالأدب عليهما معاً".
فكما كان لدينا تاجر الجملة فأصبح لدينا الأن من يتوسط فى حركة التداول ما بين المنتج وما بين المستهلك، وهو صاحب الحانوت الذي يشترى الخبز من صاحب الفرن ويبيعه إلى المشتري، فقد تخطى المجتمع حدود المجتمع الذي يأكل فيه الفرد مما ينتج بيديه، وقد جعل يحيى مسئوليتهما تضامنية إذ ما كان البائع صاحب الحانوت يعلم بغش الخبز. ولا يتحدث يحيى بن عمر عن أسواق المدينة فقط وإنما يتحدث أيضاً عن المعاملات التي تتم بين المزارعين في القرى أو البوادي، كما يتحدث عن حكم القادمين من القرى لبيع بضاعتهم في المدن وما ينبغي عليهم، وبصفة خاصة الالتزام بالأسعار السائدة، وشروط الجودة المقررة من قبل الدولة. ومن جهة أخرى، فقد ذكرنا سلفاً مسألة تزييف العملة المتداولة في السوق وهي من الدراهم والدنانير، كما وذكرنا أن تلك الجريمة تعد من أشد الجرائم ولذلك غلظ يحيى بن عمر لمقترفها العقوبة لشناعة فعله، والآن يوضح لنا يحيى أن السوق لا يقتصر التداول فيه على السلع بأنواعها من مأكل وملبس ومشرب فقط، وإنما تشهد السوق كذلك حركة تداول أخرى، بيعاً وشراءً، لوحدات النقود نفسها، بما يعني معرفة المجتمع في شمال أفريقيا والأندلس لعملية صرف العملات وتحديد أسعار صرف ثابتة، الأمر الَّذي يعني استقرار المجتمع وبلوغه درجة معينة من التطور تسمح له تاريخياً بأن يمفصل التنظيم الاجتماعي بداخله حول مفردات الاقتصاد النقدي. ومن الواضح وفقاً لنص يحيى بن عمر أن مسألة التزييف هذه كانت شائعة، الأمر الذي استتبع ظهور الخبراء في مثل هذه الأمور، كما استدعى ظهور وسائل اختبار مدى أصالة العملة نفسها، وكان المألوف على ما يبدو هو وضع قطعة النقد بين الأسنان والضغط عليها لتبين مدى صلابتها من ليونتها، وقد يحدث أن تنكسر العملة، وفي ذلك كله يقول إبن شبل:
"في رجل اشترى من صيرفي دراهم مسماة وأراه المشتري الدينار فنقر فيه البائع فتلف... أنه ضامن... قيل ليحيى: فلو أن رجلاً أتى بدينار لرجل ليريه إياه، فأخذه الرجل فجعله بين أسنانه لينظر إن كان ذهب الدينار ليناً أو يابساً فكسره، وسنة الدينار في الاختبار أن يجعل بين الأسنان، فإذا كان ليناً علم أنه جيد، وإذا كان يابساً علم أنه رديء، فقال يحيى:"... فلا ضمان عليه".
وكما نستطيع أن نستخلص طبيعة العلاقة ما بين صاحب العمل والعمال، ونكون الوعي بشأن الأجرة الَّتي يتحصلون عليها، ونلمس كذلك وجود نوعاً ما من الفبارك، وبصفة خاصة في حقل الخرازين وحائكي الملابس، والمحالج والمطاحن. وصانعي السمك المطبوخ، إذ يستخدم صاحب المحلج أو المطحن العمال في سبيل إنجاز العمل، الأمر الذي جعل نوعية معينة من الأسئلة تطرح نفسها في واقع المجتمع آنذاك وعلى يحيى بن عمر بوجه خاص، وهي أسئلة تتعلق بمدى استحقاق العمال لما يكون بعد حياكة الملابس من قماش فائض، أو نخالة بعد الطحن، ويكون ذلك بمثابة الأجرة، فنرى يحيى بن عمر يستبعد ذلك، ويجعل للعمال أجر مثلهم في السوق، أي أن ابن عمر يستبعد الأجرة العينية ويجعل محلها وحدات النقد، بما يشير إلى العمل المأجور نقداً. وبشأن الغش التجاري، فالمؤلف يمتليء بالعديد من الأحكام، ويذكر ابن شبل العقوبات، وهي: الضرب والسجن والإخراج من السوق. وفي نص يوضح الدور الذي تؤديه الدولة في الحياة الاقتصادية والنشاط الاجتماعي، فإن يحيى بن عمر بعد أن ألحق بالغش الاحتكار، ينهي عنه ويقرر لمكافحته مجموعة من القواعد، منها قيام الدولة ببيع السلع التي اختزنها التاجر واحتكر الاتجار فيها لنفسه، ثم قيامها برد الرأسمال إليه بعد البيع للجمهور، ويتصدق بالربح، أي أن الدولة هنا تلتزم بسعر السوق. ولا يقتصر النشاط الاقتصادي في أحكام السوق على السلع فحسب وإنما يمتد إلى الخدمات كذلك؛ فيشير إلى المطاعم والفنادق بما يعني درجة معينة من التطور الاجتماعي، والنمو الاقتصادي الذي يتناسب مع قدوم الأجانب إلى المدينة للتجارة أو العلم أو السياسة، فنجد معالجة لتوريد المواد التموينية من قبل الريف إلى الفنادق وما ينبغي فعله بشأن هذا التوريد.
في هذا المجتمع يمكن أن نجد كذلك الخراز الَّذى يصنع الخف. إن هذا الصانع إنما ينتج سلعته، ليس من أجل الإشباع المباشر، وإنما يُنتج من أجل السوق، ويتأكد ذلك، بوجه عام، حينما نلقي النظر إلى حوانيت مدينة القيروان في القرن التاسع الميلادي، فسنجد حانوتاً يبيع أثواباً، أي أن هناك ثمة إنتاج للسوق وليس للإشباع المباشر، فتتبدى هنا قيمة المبادلة بجوار قيمة الاستعمال، بل ومن الممكن أيضاً أن نرى الأثواب المنتجة للسوق مكدَّسة بداخل الحانوت لدرجة احتوائها لحشرات نتيجة هذا التكدس الراجع لفيض إنتاجي من نوع ما. باختصار، نحن أمام سوق وتداول نقدي وريف ومدينة وفصل تاريخي بينهما، مع وجود مجتمع مواز يمتهن الصيد وبصفة خاصة صيد الحيتان. نحن أمام عمال وأجراء وصنَّاع، وأجور، وفنادق، ومطاعم، وتوريد، وضرائب، ودولة قوية تبسط هيمنتها ورقابتها على النشاط الاقتصادي والمالي في المجتمع من أجل الحفاظ على الاستقرار وثبات الأسعار في الأسواق وضمان التزامات المتعاملين من خلالها على اختلاف صفاتهم من مشترين وبائعين، وموردين، وصيارفة، وتجار، وأجراء، وصنَّاع، وعمال، وملاك الحوانيت.