رؤيتنا: الانتفاضة اللبنانية.. كسر الحواجز الطائفية لإسقاط الطبقة الحاكمة

الاشتراكيون الثوريون
2019 / 10 / 24 - 22:15     


الثورة في منطقتنا عنيدة جبارة، فما إن تخلى الساحات وتمتلئ الزنازين وتغص القلوب هنا، حتى تقوم هناك؛ شعارها الذي بات ينتاب الحكام: “الشعب يريد إسقاط النظام!” ها قد دخل لبنان فعلًا وأخيرًا في حالة ثورية، فمئات الآلاف على أقل تقدير -في بلدٍ لا يضم أكثر من ستة ملايين نسمة- يحتلون الطرق والساحات ليلًا نهارًا، وفي مقدمتهم النساء، عجلة الإنتاج والإدارات العامة والمدارس والجامعات مشلولة تمامًا منذ أسبوع رغم الوعود والتهديدات والبطش وحتى القتل على يد كلاب دولة أمراء الطوائف.

جاءت قشة ضريبة “الواتساب” لتقسم ظهر البعير وتؤكد للجماهير ما كانت تعرفه مُسبَّقًا، وهو أن الأزمة الاقتصادية الآتية سيدفع ثمنها الفقراء والعمال والموظفون السنة والشيعة والمسيحيون وليس أصحاب المصارف وكبار التجار والمضاربين العقاريين من السنة والشيعة والمسيحيين. هكذا انتشلت الجماهير الكادحة من المجال السياسي الاعتراف بما هو موجود أصلًا وهو الصراع الطبقي؛ الصراع بين الأقلية على رأس الهرم والأغلبية التي تحملها.

من لا يعي طبيعة الاستقطاب الطائفي في لبنان لا يمكنه فهم الأهمية التاريخية لما يحصل منذ أسبوع؛ فالتقسيم الطائفي ليس تعبيرًا عن عقلية إقطاعية سابقة للحداثة، بل هي، كما يؤكد الاشتراكي الثوري اللبناني الراحل باسم شيت: “تدخُّلٌ من الطبقة الحاكمة الساعية إلى قولبة الصراع الاجتماعي في أطر طائفية”. بمعنى آخر، فإن ملاك لبنان الرأسماليون بدولتهم وأحزابهم ومؤسساتهم يبررون هيمنتهم على الاقتصاد ويحمون هذه الهيمنة سياسيًا من خلال الطائفية.

وهذه الأخيرة لا تتجلى على مستوى الخطاب وحسب، بل لديها ركائز مادية واجتماعية تساعد الحكام على تبريرها. فمثلًا حزب الله لم ينظم المقاومة الشعبية للاحتلال الإسرائيلي على مدى عقود فحسب، بل بنى أيضًا منظومةً خدماتية من تعليم وصحة وإسكان، مالئًا فراغ الدولة “الرسمية” ومساهمًا باستيعاب صدمات التطور غير المتكافئ للرأسمالية ونتائجها من إفقار ونزوح ريفي وبطالة، بل شكَّلَ أيضًا مصعدًا اجتماعيًا لفئات من الطائفة الشيعية. هكذا تعلَّمَت الطائفة الشيعية أن تربط مسارها ومصيرها بمصير حزب الله؛ لكن هذا الأخير لم يكن يومًا ثوريًا ولا بمنأى عن تناقضات النظام البرجوازي في لبنان والمنطقة. فواكب حزب الله من جهة صعود برجوازية تجارية شيعية جديدة بات يعتمد عليها ودخل شريكًا في الدولة اللبنانية بوساطة “عراب الفساد” نبيه بري وتنظيمه “حركة أمل”، ومن جهة أخرى ربط مصيره بالنظام السوري فاستغل الفقر والبطالة والتحريض الطائفي لتجنيد عشرات الآلاف للقتال والموت من أجل السفاح بشار الأسد.

هذا النموذج موجود بشكلٍ أو بآخر في جميع الطوائف اللبنانية، الحريري والميقاتي يلعبان دورًا مماثلًا داخل الطائفة السنية من خلال التوظيف في شركاتهم ومؤسساتهم الخدماتية، وهم مسؤولون أمام شركائهم في الطبقة الحاكمة عن السيطرة على “الشارع السني” وتحريف المطالب المعيشية نحو المستنقع الطائفي، وهي لعبة خطيرة تكاد تفلت من بين أيدي الزعماء كما رأينا تكرارًا ومرارًا في الاشتباكات المسلحة في طرابلس بين فقراء السنة والعلويين. مثلهم مثل حزب الله ليسوا بمنأى عن التناقضات النظام الرأسمالي، فالأزمة الاقتصادية لم ترحم شركات الحريري في لبنان والخليج، والاستقطاب الطبقي والأزمة المعيشية باتوا أكبر من أن تحتويهم بعض المؤسسات الخيرية المنكَّهة بالطائفية.

لم يعد الأفيون الطائفي قادرًا على استيعاب التناقضات الطبقية أو تبرير عجز الدولة عن تأمين الحد الأدنى للخدمات العامة مثل إيجاد حل لأزمة النفايات التي تكاد تسمِّم جميع المواطنين وتدمِّر ما تبقى من البيئة، وبنفس الوقت فإن وقاحة الحكام والأغنياء باتت لا تحتمل في ظل تعميم الفساد.

ليس بصدفة أن أول شهيدين للثورة سقطا في الضاحية الجنوبية لبيروت التي تعتبر معقل حزب الله، وفي طرابلس “قلعة السنيين”. فالفقراء الذين اعتاد الليبراليون على نعتهم بالقطيع والعبيد ها هم وهن قد بدأوا الحراك وفتحوا المجال أمام مئات الآلاف من الفقراء وأعضاء الطبقات الوسطى للتعبير عن نقمتهم، واضعين الثورة ضد البرجوازية الطائفية على جدول الأعمال، ليس ملبين لإملاءات أخلاقية مجردة عن “العلمانية”، بل لأنهم باتوا يرون أن الطائفية ليست سوى غطاء لاستغلالهم وإفقارهم على يد الطبقة الحاكمة.

يقول لينين إن من ينتظر ثورةً اجتماعية صافية لن يراها أبدًا، بل أن الثورة تأتي في شكل أزمة مُعمَّمة لجميع العلاقات الطبقية التي تشكِّل مجتمعًا ما. والحراك الحالي في لبنان لا يشكل استثناءً لهذا النموذج، ففي هذه الثورة نرى مشاركةً من الطبقات الكادحة كما الطبقات المتوسطة وحتى فئات من البرجوازية الليبرالية. الثورة ما زالت في بدايتها، وهناك من سيريد إيقافها عند حد الإصلاحات السطحية التي لا تمس بالتركيبة الاجتماعية الرأسمالية، التي هي أصل الأزمة ومفتاحها. من هنا فإن شعار “يسقط حكم المصرف” يوازي شعار “كلن يعني كلن” أهميةً ومركزية، ولابد من التنظيم الثوري المستقل على هذا الأساس للتحضير لمعارك السياسية داخل الحراك ستأتي عاجلًا أم آجلًا. إن الانقسامات الطبقية داخل أحزاب السلطة هي أيضًا في بدايتها، وقد تتسارع وتيرتها في الأيام والأسابيع المقبلة، لكن الطبقة الحاكمة المأزومة والمرعوبة لن تتخلى عن سلطتها وأموالها بسهولة ودون المخاطرة بالبلاد. فالوضع يتطلب توحيد جميع العمال والفقراء، اللبنانيين كما غير اللبنانيين، تحت شعار “يسقط حكم المصرف”، و”تسقط الطائفية والعنصرية”، لصب الزيت على نار نظام بات يشكِّل تهديدًا وجوديًا للمجتمع ككل.